"إسرائيل": أمن الدولة أم أمن نتنياهو؟
على مدى السنوات الأخيرة، تأكّلت الثقة في المؤسسات الإسرائيلية، سواء كان ذلك في الشرطة، الشاباك، "الجيش"، أو القضاء، وذلك نتيجة لسيطرة السياسة على العمل المؤسسي.
-
"إسرائيل" اليوم في مفترق طرق.. لماذا؟
في قلب الفلسفة السياسية، تبرز مفاهيم (الثقة) و(الولاء) كعنصرين أساسيّين في بناء العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الفرد والمؤسسة. في حين أنّ الثقة تُبنى على الأداء والكفاءة والتقييم الموضوعي، فإنّ الولاء يتطلّب التزاماً غير مشروط، يعكس الانتماء العاطفي الشخصي. الثقة ليست مجاملة، بل هي ركيزة تعتمد على معيار حياديّ، حيث يتعيّن على المؤسسة أن تكون محايدة وعادلة. أما الولاء، فيتطلّب منّا غالباً أن نتغاضى عن العقلانية لصالح الانحياز المطلق.
وذلك تحديداً ما يطرح تساؤلاً فلسفياً عميقاً في سياق المؤسسات السياسية: هل يجب أن نلتزم بأداء المؤسسات فقط عندما تكون فعّالة؟ أم أننا مطالبون بالولاء لها مهما كانت الظروف؟
"إسرائيل"، كـ "دولة" ذات أيديولوجيا قومية ودينية ضاغطة، تواجه التوتر بين مؤسسات الدولة القوية وبين نزعة الولاء السياسي الشخصي.
فعلى مدى السنوات الأخيرة، تأكّلت الثقة في المؤسسات الإسرائيلية، سواء كان ذلك في الشرطة، الشاباك، "الجيش"، أو القضاء، وذلك نتيجة لسيطرة السياسة على العمل المؤسسي.
في المقابل، عاد الحديث عن "الولاء للدولة" في صيغة جديدة، حيث أصبح الولاء أكثر ارتباطاً بالمعسكر السياسي المسيطر، بدلاً من أن يكون الولاء للقانون والنظام كأيديولوجية ثابتة. وهكذا، نجد أنّ المفاهيم قد تحوّلت: من جهاز خاضع للقانون إلى أداة لخدمة الهوية السياسية.
في خضمّ هذا المناخ المشحون بالانقسام، بدأت المواجهة بين رئيس الشاباك، رونين بار، ورئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، لتسرد قصة عميقة من الصراع بين الولاء الشخصي والمؤسسي.
رونين بار، الذي يمثّل التيار المهني، يرى أنّ الشاباك يجب أن يكون مؤسسة خاضعة للقانون فقط، من دون أن يتحوّل إلى أداة سياسية. في المقابل، يرى نتنياهو أنّ الولاء له شخصياً يجب أن يكون جزءاً أساسياً من عمل جهاز الشاباك، ويعتبر أيّ تصرّف يتعارض مع هذه الرؤية بمثابة خيانة للكيان الذي يترّأسه.
الاختلاف هنا ليس على الكفاءة، بل على مفهوم الولاء. ففي عين نتنياهو، يصبح الولاء له بمثابة الولاء للدولة نفسها، في حين أنّ بار يرى أنّ الدولة هي مؤسساتها، التي يجب أن تكون محايدة وغير خاضعة لأهواء السلطة.
يتجلّى هذا التحوّل بين الثقة والولاء بوضوح في حالة الشرطة الإسرائيلية تحت قيادة وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير. فقد كانت الشرطة في الماضي تُعتبر "شرطة الشعب"، مؤسسة محايدة تخدم القوانين وتضمن النظام العامّ. ولكن تحت إشراف بن غفير، الذي ينتمي إلى تيار قومي متطرّف، أصبح الولاء للوزير وقراراته، وليس للقانون أو مصلحة الشعب.
تتجسّد هذه التحوّلات في العديد من الإجراءات السياسية، مثل التدخّل في التعيينات، والتهوين من شأن عنف المستوطنين، واستخدام القوة المفرطة ضدّ المتظاهرين. هذه السياسات أدت إلى فقدان ثقة الجمهور في الشرطة، وأثّرت على مكانتها كمؤسسة حيادية، ليتحوّل جهاز الشرطة من أداة لحماية القانون إلى أداة لخدمة السياسة.
نتنياهو يرى أنّ قضايا الفساد التي تلاحقه، ما هي إلا محاولة انقلابية على "الدولة"، حيث بعد أكثر من عقدين من حكمه، أصبح يرى نفسه فعلياً تجسيداً "للدولة". ففي خطاباته، يرسم لنفسه صورة "الضامن الوحيد" لأمن "إسرائيل"، فيعتبر أنّ كلّ من يعارضونه ـــــ سواء كانوا معارضين سياسيين، قضاة أو متظاهرين ــــــ يشكّلون تهديداً للأمن القومي.
هذه الرؤية تجعل من الطبيعي أن يطلب من جهاز الأمن العام الشاباك أن يلتقط كلّ محادثة، ويتعقّب كلّ خطوة للمعارضين. وما كان يعتبر خرقاً للقانون في الماضي، أصبح يُنظر إليه الآن على أنه ضرورة "لحماية الدولة".
ويظهر جوهر هذه الأزمة عندما يرفض رئيس الشاباك، رونين بار، تنفيذ أوامر نتنياهو في التنصّت على المعارضين، معتبراً ذلك خيانة للولاء الشخصي للزعيم. بينما يُصرّ بار على أنّ الشاباك يلتزم بالولاء للدولة ككيان مؤسّسي وليس لأيّ شخص.
الاختلاف بين مؤسسات "الدولة" وبين القيادة السياسية يتعدّى كونه خلافاً قانونياً أو مهنياً. إنه يتعلّق بماهية الدولة نفسها. فهل "إسرائيل دولة مؤسسات" تلتزم بالقانون؟ أم أنها "دولة" زعيم يطغى فيها الولاء الشخصي على الولاء المؤسسي؟
إذا كانت المؤسسات الأمنية قد تحوّلت إلى أدوات لخدمة الأجندات السياسية، فإنّ هذا يهدّد قدرتها على أداء وظائفها الأساسية في حماية الأمن القومي. وبالفعل، أصبحت "إسرائيل" في مواجهة مع واقع جديد: أجهزة أمنية تابعة للزعيم، وشعب منقسم بين "الموالين" و"الخونة".
في تطوّر يشير إلى تفكّك القرار الأمني، وخطر يتجاوز السياسة، ويعكس عمق أزمة الثقة بين رئيس الحكومة ورئيس جهاز الأمن العامّ، أشار رونين بار في العريضة التي قدّمها إلى المحكمة العليا ـــــ والتي تنظر في مشروعية قرار عزله ـــــ إلى أنّ نتنياهو طلب منه صراحة الالتزام بقرارات الحكومة حتى لو تعارضت مع قرارات المحكمة العليا. هذا الطلب يُظهر انزلاقاً واضحاً نحو دولة متعدّدة الولاءات، حيث لا يعود القانون هو المرجعية العليا، بل يُستبدل بإرادة سياسية متغيّرة.
تجلّى هذا التصدّع في منظومة الأمن القومي بعدة مظاهر: نتنياهو توقّف عن إشراك رئيس الشاباك في المشاورات الأمنية الحسّاسة، بحجّة فقدان الثقة، فيما هدّد وزراء مثل بتسلئيل سموتريتش بعدم حضور أيّ اجتماع للكابينت يُدعى إليه رونين بار. هذه المقاطعة تعني فعلياً تغييب الجهاز الأمني المسؤول عن الأمن الداخلي والملف الفلسطيني عن مداولات مصيرية، ما يُفقد القرار الأمني توازنه المهني وتعدّديته التحليلية.
الأمر لم يتوقّف عند هذا الحدّ، إذ تمّ إبعاد رونين بار أيضاً عن ملف التفاوض حول استعادة الأسرى الإسرائيليين، بسبب خلافات مرتبطة بـ "الولاء" كما ورد في عريضته. هذا الإقصاء هدّد فرص إنجاز صفقة تبادل الأسرى، وأعاق تقدّم المفاوضات، في لحظة حرجة تحتاج فيها "إسرائيل" إلى توحيد الجهود الأمنية بدل تفكيكها.
هذه الأزمة لا تقتصر على الشاباك والشرطة فقط، بل تمتدّ لتشمل قدرة "إسرائيل" على مواجهة التهديدات الخارجية، حيث تُستَخدم الأجهزة الأمنية بشكل يتعارض مع مهامها الأساسية في الحفاظ على أمن الدولة ككلّ.
"إسرائيل" اليوم في مفترق طرق. هل ستبقى "دولة مؤسسات"، تبنى على "الثقة والكفاءة"؟ أم تتحوّل إلى "دولة" زعيم يُعاد تعريف الولاء فيها على أساس شخصي لا مؤسسي؟
المواجهة بين نتنياهو ورونين بار ليست مجرّد صراع سياسي، بل معركة على هوية "إسرائيل" نفسها. إنّ انتصار الولاء الشخصي يعني فقدان توازن النظام السياسي الإسرائيلي برمّته، بينما انهيار الثقة بالمؤسسات يعني فقدان شرعيّة الدولة، وبالتالي مستقبل "إسرائيل" بات مرتبطاً بسؤال هل الأمن الإسرائيلي للدولة أم للملك نتنياهو؟
بل أصبح السؤال الأعمق: من تحميه "إسرائيل" فعلاً؟