"نووي إيران" من فيينا إلى مسقط... اليوم لا يشبه البارحة

المفاوض الإيراني يجد نفسه وجهاً لوجه مع نظيره الأميركي، من دون الموقف الروسي الداعم، ولا الموقف الأوروبي الناعم. قل لي، كيف تنعقد المفاوضات، وفي أي ظروف وتوازنات وموازين، أقُلْ لك كيف ستنتهي.

  •  مستقبل إيران سيتقرر في ضوء مسار مسقط.
    مستقبل إيران سيتقرر في ضوء مسار مسقط.

مفاوضات مسقط حول "نووي إيران"، لا تشبه مفاوضات فيينا التي انتهت باتفاق أُبرم قبل عشر سنوات... يومها، كانت ما تزال بقية توازن واتزان في العلاقات الدولية عبرت عنها "آلية 5+1"، اليوم، تأخذ المفاوضات شكلاً ثنائياً عبر الوسيط العُماني... يومها، كانت ما تزال هناك بقية احترام للنظام والقانون الدوليين والمنتظم الأممي، اليوم، كل ذلك ذهب أدراج الرياح، فنزعات الهيمنة والاستعلاء والغطرسة، باتت سمة للعلاقات الدولية، تسعى واشنطن من خلالها، إلى استئخار رحيلها عن موقع "القطب "الأوحد"، وهو الموقع الذي تعرض خلال العشرية الفائتة، لاهتزازات جدية، مع نشوء أقطاب وتكتلات دولية وإقليمية جديدة... ولا أتحدث هنا عن "شكل التفاوض"، مباشر أم غير مباشر، فتلكم معركة من غير معترك على ما أظن.

يومها، كانت إيران في ذروة قوتها إقليمياً، محورها أو "هلالها" كان ممتداً من قزوين إلى شرق المتوسط، وكان الحلفاء في ذروة قوتهم في بلدانهم، وأدوار بعضهم تخطت جغرافيتهم، وباتت عابرة للحدود... كانت روسيا قد وضعت قدماً في مياه المتوسط الدافئة، ولم تكن قد تورطت في حرب استنزاف مع الغرب في أوكرانيا... وكان أوباما على رأس إدارة ديمقراطية، وضعت فكرة "الحل السياسي" للمسألة الإيرانية في صدارة أولوياتها، وكانت أقرب إلى قراءة أكثر قبولاً وتقبلاً للإسلام السياسي "الشيعي"، من "الإسلام السياسي السنّي"، باعتبار أن معظم الحركات الجهادية العالمية، انتمت إلى هذه المدرسة أو انحدرت منها.

كل هذا يبدو وراءنا اليوم... إذ بخلاف "الجدول الزمني المفتوح" للتفاوض وصولاً إلى اتفاق فيينا زمن أوباما، نحن اليوم أمام جداول زمنية أكثر ضيقاً... صدر ترامب ضيّق، وصبره "تكتيكي" نقيض صبر الإيرانيين "الاستراتيجي"، المُهل تُعد بالأشهر، لا بالسنوات... قد لا تكون مهلة الشهرين واقعية كما تقول طهران، بيد أن تمديدها لن يكون لأكثر من أشهر معدودات على أحسن تقدير.

من قبل، دارت المفاوضات تحت سيف "العقوبات الاقتصادية"، ولم تكن الهراوة العسكرية، لا ثقيلة ولا مشهرة، اليوم، تدور المفاوضات في ظل "أقصى العقوبات" فيما سيف الخيار العسكري مشهر فوق رؤوس الجميع، وعمليات بناء القوة اللازمة لتوجيه ضربة للمنشآت النووية والاستراتيجية الإيرانية، تتواصل على قدم وساق.

من قبل، لم تكن "إسرائيل" قد تجرّأت على ضرب العمق الإيراني، علناً وبسلاح الجو وإعلان المسؤولية رسمياً عن ذلك... ولم تكن إيران قد تجرأت على فعل أمرٍ مماثل... اليوم، يبدو المشهد مختلفاً، الطرفان تبادلا الضربات في العمق، والطرفان تجاوزا حروب الوكالة والعمليات الأمنية والسيبرانية إلى الاشتباك المباشر... وما حدث في 2024 من تبادل للضربات العسكرية، قد يحدث على نطاق أوسع، وعلى نحو أشد في العام 2025... لقد كٌسِر "الحاجز النفسي"، وفقاً لتعبير أنور السادات، ولكنه ليس حاجزاً تفاوضياً كما كان يقصد، بل هو حاجز نار وضربات متبادلة.

من قبل، لم تكن الفاشية والصهيونية-الدينية، قد جرفت المجتمع والطبقة السياسية ومؤسسات الدولة العميقة في "إسرائيل" واجتاحتها، على الرغم من أن نتنياهو على رأس الليكود، كان في سدة الحكم آنذاك... اليوم، انجرفت "إسرائيل" بقضها وقضيضها، نحو التطرف اليميني الفاشي، وبلغ بها "التوحش" حدوداً لم تتمتع بها دولة أو كيان آخر في العالم... وثمة في "إسرائيل"، في السلطة والمعارضة، ومن المستويين، السياسي والعسكري، من يتحفز لاقتناص "الفرصة النادرة"، والانقضاض على البرنامج النووي الإيراني... هؤلاء ينتظرون ضوءاً أخضر من إدارة أميركية، مصنوعة من قماشتهم ذاتها، وهم إن كانوا يئسوا في انتزاعه من إدارة أوباما، فإنهم يتطلعون اليوم بشغف، لانتزاعه من إدارة، تشتهر بالتهور، ولا تعرف التردد في السياسية والحرب، كما في الاقتصاد والاجتماع.

من قبل كان بعض العرب، يشاطرون "إسرائيل" حماستها لضرب إيران، وبلغت هذه الحماسة ذروة غير مسبوقة في إدارة ترامب الأولى، وبعد أن تخلص حكام عرب كثيرون من إزعاجات إدارة أوباما وإكراهاتها... اليوم، يصح التقدير أن بعض هؤلاء فقد "شهيته" للصدام مع إيران، وانصرف إلى تقديم الداخل الخارج إلى لائحة أولوياته وأجنداته... لكن تطورات ما بعد "طوفان الأقصى" وجبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق، وحالة الضعف والتراجع التي ألمّت بمحور إيران وحلفائها، أعادت "فتح شهية" مروحة واسعة من الأطراف، العرب وغير العرب، لحسم المعركة مع هذا المحور... بدأوا يجهرون بالحاجة لتجريد حماس من سلاحها كشرط للتهدئة وإدخال المساعدات إلى غزة، وتجريد حزب الله من سلاحه، كمقدمة واجبة لإعادة الإعمار، والقضاء على أنصار الله، والتلويح بحرب برية، كمدخل لحل الأزمة اليمنية، واسترداد السيطرة على البحر الأحمر وباب المندب والقرن الأفريقي... قد تكون هذه هي رغباتهم الخبيئة (والخبيثة) على امتداد عشريَتَين من السنين، لكن الجهر بها أو إخفاءها، هو ما كان يتبدل بتبدل الإدارات الأميركية والحكومات الإسرائيلية والشروط الإقليمية والدولية المحيطة...

اليوم، يستشعر هؤلاء فائض قوة، محقين أو واهمين، وهم يرون أن فرصة كسب النزال، وتحويل المعركة الأخيرة، إلى "آخر الحروب"، قد لا تتكرر ثانية، ولا يجوز تبديدها بحال.

إذاً، نحن إزاء مفاوضات تجري في مسقط، في شروط إقليمية ودولية مختلفة تماماً...إيران تذهب إليها وهي ليست في أحسن ظروفها، بيد أنها ليست مجردة من أوراق القوة والاقتدار، وإلا لما حرصت إدارة ترامب على تقديم الخيار الدبلوماسي على الخيار العسكري، الحاضر دوماً على المائدة... إيران، تدرك أن ما تحصّلت عليه في فيينا، قد لا تتحصّل عليه في مسقط أو غيرها من العواصم التي قد تحتضن المفاوضات في قادمات الجولات... المفاوض الإيراني يجد نفسه وجهاً لوجه مع نظيره الأميركي، من دون الموقف الروسي الداعم، ولا الموقف الأوروبي الناعم... قل لي، كيف تنعقد المفاوضات، وفي أي ظروف وتوازنات وموازين، أقُلْ لك كيف ستنتهي.

إن نجحت إيران في انتزاع اتفاق يشكل منزلة وسطاً، بين موقف إسرائيلي يفضل الأخذ بـ"السيناريو الليبي" لتفكيك البرنامج النووي الإيراني، والموقف الأميركي الداعي إلى إخضاع هذا البرنامج لأعلى درجات الرقابة والتحكم والسيطرة، وإحاطته بكل الضمانات لبقائه بعيداً عن "العسكرة"، فإنها ستكون قد خرجت بأقل الخسائر... وإيران والمحور، في مرحلة تقليص الخسائر، لا في موقع تسجيل النقاط.

وإن نجحت إيران في إخراج برنامجها الصاروخي عن مائدة التفاوض، فإنها ستكون قد حققت مكسباً آخر، يحول دون خسارتها، لاستثمار امتد لعقود واستهلك مليارات الدولارات، قبل أن يصبح هذا البرنامج، "درة تاج" استراتيجية الأمن القومي للجمهورية الإسلامية.

أما حكاية "الدور الإيراني المزعزع للاستقرار"، والمقصود به دعم طهران لحلفائها في اليمن والعراق ولبنان وفلسطين، فلا أظن أن الأمر سيحظى بكثير من التركيز في مفاوضات مسقط، لا لأن أدوار هذه الأطراف قليلة الشأن والأهمية، بل لأن تداعيات ما بعد الطوفان، قد وضعت كل طرف من هذه الأطراف، في سياقات محلية وإقليمية، كفيلة بسلبه الكثير من عناصر قوته واقتداره، وتقليص دوره إلى أدنى حدود "المحليّة".

ليس مهماً أن تلتزم إيران بالتوقف عن دعم حزب الله، ما دام أن هناك، في لبنان (مختلف الهندسات الحكومية والمالية والاقتصادية والإدارية)، وفي سوريا (الإدارة الجديدة)، من هو أكثر حماسة من واشنطن، لتقطيع شرايين الدعم الإيراني للحزب... وليس مطلوباً أن تمتنع طهران عن دعم حماس، ما دام أن هناك سلطة تطاردها في الضفة، بتعاون وتنسيق وتبادل أدوار مكشوف مع الاحتلال، وحرب تطويق وتطهير وإبادة، تُشن عليها في قطاع غزة، وليس مطلوباً من إيران، أن تكف عن دعم جماعاتها في العراق، إذ يتكفل بذلك أطراف عراقيون عديدون، أغلبهم محسوبون على بيئة هذه الجماعات، وثمة تطورات في هذا البلد، تذهب به بعيداً عن طهران، لمصلحة نفوذ أميركي وعربي متزايد...أما اليمن، فثمة حرب أميركية مباشرة عليه، ومخاوف من أن تستتبعها حروب ومعارك برية، تعيد إنتاج "السيناريو السوري"، مع قليل من التغيير والتبديل.

لا يعني ذلك، أن مسار التفاوض في مسقط، سينتهي إلى رفع الراية البيضاء، هذا لم يحدث على جبهات أضعف وأقل شأناً، في لبنان وغزة... ولا يعني أن خواتيم هذا الاتفاق ستكون اتفاقاً لا محالة، فمن السذاجة المجازفة بإسقاط سيناريو الضربة العسكرية على إيران.

مستقبل إيران، وثورتها الإسلامية وحلفائها في الإقليم، بل في "مجالها الحيوي"، سيتقرر في ضوء مسار مسقط، وفي إثر السباق المحتدم بين خياري الحرب والدبلوماسية، وفي كلتا الحالتين، لن تكون إيران والمنطقة برمتها، بعد هذا المفترق، كما كانت عليه من قبله.