آفاق المسار التفاوضي الإيراني-الأميركي وحدوده

ين التوجّه الأميركي الذي يفضّل عدم الدخول في حرب إقليمية، والتوجه الإيراني الساعي إلى تجنب الحرب من ناحية أخرى، تقاطعت الرؤيتان حول ضرورة إيلاء اهتمام بالمسار التفاوضي الحالي.

0:00
  • كيف يمكن قراءة المسار التفاوضي بين أميركا وطهران؟
    كيف يمكن قراءة المسار التفاوضي بين أميركا وطهران؟

بعد الجولة الخامسة، لم تعد تصحّ قراءة المسار التفاوضي بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية وفق السياق نفسه الذي ساد عند انطلاق جولة التفاوض الأولى في نيسان/أبريل الماضي لناحية حصره في بحث الجانب الأميركي في كيفية ضمان سلمية البرنامج النووي الإيراني مقابل سعي الجمهورية الإسلامية إلى رفع الحظر المفروض على بلادها.

فرغم التركيز على عنوان سلمية النووي مقابل رفع الحظر، يظهر تاريخ العلاقة بين الطرفين تعقيدات لا يمكن حصرها في هذه المعادلة، وإنما يفترض تعريفها من خلال مشروعين متناقضين يشكل النووي فيهما تفصيلاً ثانوياً، إذ إن المسار التفاوضي الذي انطلق بينهما منذ انتصار الثورة الإسلامية قد قارب إشكالية العلاقة بينهما بشكل عام.

فالجمهورية الإسلامية الإيرانية بمشروعها التحرري المعادي للمشاريع الغربية والقابل للتصدير، أي إمكانية التأثير في الجوار، كانت محور اهتمام الولايات المتحدة الأميركية، إذ عملت منذ ثمانينيات القرن الماضي على محاولة تقييدها ومحاصرتها، وبالتالي سيبدو الحديث عن إمكانية إرساء علاقات طبيعية بينهما غير واقعي. وعليه، يصبح من الضروري في هذه المرحلة محاولة تقدير ما يمكن أو تؤول إليه المفاوضات الحالية، إذ إن الإفراط في التفاؤل أو التشاؤم لن يعبّر عن واقعية في التقدير.

رغم الخطاب العالي النبرة الذي تبنّاه الطرفان في مرحلة ما قبل التفاوض، إن لناحية الولايات المتحدة التي وقّع رئيسها في شباط/فبراير الماضي مذكّرة تقضي بإعادة سياسة الضغوط القصوى على إيران بغية إضعافها، ودفعها إلى التفاوض على قدراتها الدفاعية وعلاقاتها الإقليمية، ومن ثم إعلانه أنه وجّه تعليمات إلى مساعيه بمحو إيران إذا قامت باغتياله، أو لناحية الجمهورية الإسلامية التي عمدت إلى إجراء عدد من المناورات، وكشفت عن عدد من الأسلحة والصواريخ الحديثة، بالإضافة إلى تهديدها بأن القواعد الأميركية في المنطقة ستكون أهدافاً مشروعة إذا تعرضت لأي هجوم أميركي، من دون أن ننسى تهديد المستشار السياسي للمرشد الأعلى بإمكانية مراجعة الجمهورية الإسلامية لعقيدتها النووية إذا تعرضت لضربة، دخل كلا الطرفين في ما بعد إلى قاعة التفاوض  من دون أي شروط مسبقة، إذ رضي الجانب الأميركي في الجولة الأولى بحصر التفاوض في العمل على ضمان سلمية البرنامج النووي، وتخلت إيران عن مطلبها بالانطلاق في المسار التفاوضي مما آلت إليه الأمور في اتفاق 2015.

في هذا الإطار، يمكن التقدير أن الدوافع الأميركية قد استندت إلى توجّه الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يفترض أن العمل على تطبيق شعار أميركا أولاً يتطلب الابتعاد قدر الإمكان عن أي استنزاف قد تسببه حرب غير محسومة لناحية النتيجة أو المدى الزمني.

يمكن الاستنتاج هنا أن المسار الذي أدّت إليه العملية العسكرية في اليمن قد دفعت إلى تقدير مدى تعقيد وخطورة أي عمل عسكري في مواجهة إيران، إذ إن الفشل في تحقيق أهداف الضربات على اليمن، الذي لا تُقارن قدراته التسليحية، كمّاً ونوعاً، بالقدرات الإيرانية، من دون أن ننسى أثر أي عمل عسكري ضد إيران على سلاسل توريد الطاقة في الخليج ومضيق هرمز، وبالتأكيد في أعالي البحار. وبالتالي، قد تكون الخلاصة التي توصل إليها الأميركي في حال فشل الهجوم على إيران، لناحية استعادة التوازن الإقليمي الذي يدّعي أن الجمهورية الإسلامية قد فقدته بعد "طوفان الأقصى". 

أما من ناحية الجمهورية الإسلامية، ورغم قناعتها بأن الهدف النهائي للولايات المتحدة لن يزيح عن محاولة إسقاط النظام، ومحاولة القضاء على مشروعها العقائدي، ودفعها إلى التخلي عن ثوابتها المتمثلة بالتطرف السيادي على مستوى عدم السماح مطلقاً بالتدخل في شؤونها الداخلية وموقعها الإقليمي المتمثل بدعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحق الشعب الفلسطيني في التحرر وإقامة دولته على الجغرافيا الطبيعية لفلسطين، فقد استندت عند اتخاذ قرارها بالتفاوض مع دونالد ترامب إلى جملة من المعطيات التي تتعلق بالعمل على رفع الحظر المفروض عليها مقابل التأكيد على سلمية برنامجها النووي، إذ ترى أن الثمن الذي قد تدفعه في هذا المجال لن يؤثر على سيادتها مهما كانت آليات التثبت من سلمية البرنامج معقدة، إذ لم تعد تسع أبداً إلى إنتاج سلاح نووي، من دون أن ننسى سعيها الطبيعي والواقعي إلى تجنب الحرب لما لها من تداعيات سلبية على واقعها واقتصادها ومشروعها العقائدي وعلاقاتها الإقليمية.

وبالتالي، بين التوجّه الأميركي الذي يفضّل عدم الدخول في حرب إقليمية في الشرق الأوسط لما لها من تأثيرات سلبية على المشروع الأميركي الأساسي الهادف إلى تقويض النفوذ الصيني العالمي من ناحية، والتوجه الإيراني الساعي إلى تجنب الحرب من ناحية أخرى، متى كان ذلك ممكناً، وكسب الوقت في مسعى لمحاولة إعادة ترتيب الواقع الداخلي المنهك بالعقوبات والإقليمي الذي يحتاج في هذه المرحلة إلى إعادة ترتيب، تقاطعت الرؤيتان حول ضرورة إيلاء اهتمام بالمسار التفاوضي الحالي علّه يصل إلى نتيجة تخدم تطلعاتهما في هذه المرحلة.

فالرئيس الأميركي دونالد ترامب يريد الوصول إلى اتفاق يمكن تسييله في الداخل الأميركي على أنه إنجاز تاريخي عجز أسلافه عن تحقيقه، بالإضافة إلى تقديره بأن ارتباط الجمهورية الإسلامية بأي اتفاق مع الولايات المتحدة سيدفع إلى تقليص نفوذها وتأثيرها في الإقليم بشكل جذري بما يبرر تهديده الإعلامي بأن الجمهورية الإسلامية أمام خيارين لا ثالث لهما:

إما اتفاق وإما حرب. في المقابل، تسعى الجمهورية الإسلامية انطلاقاً من واقعيتها وقراءتها لعمق الخلاف ومدى تشابك الملفات بينها وبين الولايات المتحدة، للوصول إلى اتفاق مبدئي يرتبط بحلّ إشكالية النووي وإلغاء تأثيراته على العلاقة المعقدة مع الولايات المتحدة، ومحاولة البحث في كيفية إدارة التفاوض حول واقع العلاقة المعقدة تاريخياً مع الولايات المتحدة، وفق سياق دبلوماسي موثوق وهادئ يؤدي بالدرجة الأولى إلى نزع فتيل الحرب بين الطرفين، حتى ولو لم يؤد إلى نتيجة حاسمة في المدى المنظور.

وعليه، بين ما يستهدفه الطرف الإيراني من ناحية وما يستهدفه الطرف الأميركي من ناحية أخرى، يمكن الاستنتاج أن الحل النهائي بين الطرفين ما زال بعيداً من متناول يديهما.

فالاتفاق على سلمية البرنامج النووي لا يعدّ كافياً للوصول إلى حلّ نهائي بينهما، خصوصاً أن تعقيدات كثيرة ما زالت تحيط بهذا الموضوع، يمكن أن نشير إلى حق إيران في التخصيب على أراضيها كنموذج لهذه التعقيدات، من دون أن نهمل أن الهدف الأميركي الأساسي من التفاوض مع الجمهورية يتعلق بعلاقاتها في الإقليم وضمان أمن الكيان الإسرائيلي.

وبالتالي، يمكن التقدير أن المساحة المتوفرة لأي اتفاق بين الطرفين لا تحقق الهدف النهائي للولايات المتحدة الأميركية كما أنها لا توافق مرتكزات العقيدة الإيرانية.

وعليه، يمكن القول إن حدود التفاوض وآفاقه في هذه المرحلة ستبقى محددة بما يعدّه ترامب كافياً لتسويقه كإنجاز تاريخي يمكن تسييله في الداخل الأميركي وفي الإقليم، بالتوازي مع ما يمكن تسويقه إيرانياً على أنه يحقق هدف إيران المنشود في إطار رفع الحظر بالتوازي مع عدم مساسه بمرتكزات الثورة العقائدية والسيادية. وعليه، يمكن تعريف أي اتفاق مستقبلي، إذا حدث، تحت عنوان ربط نزاع بطعم انتصار لكلا الطرفين.