نظام عالمي تحت المجهر
النظام العالمي الجديد سيبقى تحت المجهر إلى حين تنقشع الرؤية، وترسو الأحلاف والتموضعات الدولية، ويتحدّد عندها أيّ نظام عالمي سيكون للبشرية.
أعلنت 3 شركات عملاقة متعدّدة الجنسيات "جنرال إلكتريك - جونسون آند جونسون - توشيبا"، خلال الأسبوع الماضي، خططاً لتقسيمها، وهو اتجاه تأمل أن يوفر مزيداً من فرص النمو.
وعلّق الأستاذ مايكل أوسيم من جامعة بنسلفانيا، والمتخصّص في إعادة هيكلة الشركات، لوكالة "فرانس برس" بهذا الشأن، أن "انضمام الشركات الكبرى إلى هذا التوجه مؤشر على أن نموذج المجموعة الضخمة والمتنوعة في طريقه إلى الزوال قطعاً".
بمجرد التوقّف عند إعلان الشركات العملاقة خططها التقسيميّة، وربطه بما قاله أوسيم، تتوضح للمتابع صورة النظام العالمي الذي ستقبل عليه البشرية في المرحلة المقبلة. إنه التحول الذي سيضع النظام العالمي الجديد تحت المجهر، فنظام الشركات العملاقة، كما يبدو، في طريقه إلى الانحسار.
وجاءت جائحة كورونا لتثبت أن القومية في حماية الأمن القومي أنجح من العالمية، وأن ضبط الحدود وقطع المواصلات وإغلاق المطارات كانت الطريقة الفضلى لمحاصرة الوباء المنتشر. لهذا، يبقى السؤال: "هل العالم أمام تغيير في نظامه من الأحادية القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب أم أنّ القرن الأميركي يُعاد بناؤه من جديد بما يتوافق مع موازين القوى الجديدة؟".
إنَّ انطلاقة النظام العولمي الذي عرفه العالم منتصف القرن العشرين، والذي كسر الحدود وجعل العالم "قرية كونية صغيرة"، كانت قد بدأت بعد سقوط الأنظمة المغلقة ومع التوسع والانتشار والمدى المفتوح لليبرالية ومبادئها.
لهذا، انطلقت الشركات العملاقة التي تخطّت دولها لتجتاح دول العالم، ساعية خلف الموارد الطبيعية للإنتاج واليد العاملة الرخيصة، ومركّزة أولوياتها في الدول الأكثر فقراً، حيث ضعف الأنظمة الرقابية، والتفلّت من القوانين، فاستغلّتها في سبيل تحقيق المزيد من الأرباح.
يتشكّل النظام العالمي الحالي الآيل إلى السقوط من الثقافة الأميركية وفكرها البراغماتي الفلسفي المبنيّ على الربح وإعلاء المصلحة الخاصة فوق كلّ اعتبار. وقد أُعلن عنه مع الرئيس الأميركي الراحل جورج بوش الأب أمام الكونغرس الأميركي في العام 1991، بالتزامن مع سقوط الاتحاد السوفياتي من ساحة التنافس الدولي.
عرفت البشرية زمناً من القرن الأميركي، حيث تحكّمت أميركا في إدارة شؤون العالم على مختلف الصعد، ولكن بعد الصعود المفاجئ للصين، وأمام التصلب الدبلوماسي الروسي في حلّ القضايا العالقة مع الغرب، بدأ هذا النظام يشهد قلق الاستمرارية، ولا سيّما أن الصعود كان ذا منحى قومي، حيث الدعم المطلق للشركات المحلية، ما دفع أصحاب الشركات العملاقة إلى التفكير جدياً في التقسيم والتخصص.
إنَّ عملية التقسيم التي باتت تطال الشركات العملاقة توضح عملياً تخلّي النظام العالمي عن فكرة الشركات المتعددة الجنسيات، ليستبدلها بشركات محدودة ومحددة الإنتاج، ما يعلن الدخول عملياً في نظام القوميات المتصاعدة.
يقول المحلّلون الاقتصاديون إنَّ أسواق المال أجبرت الشركات على هذه الخطوة، وإن الشركات باتت تركز على التخصّص في سلعة محددة؛ فعلى سبيل المثال، ستركز شركة "جونسون أند جونسون" على فروعها المتخصّصة ببيع المنتجات الصحية المخصصة للمستهلكين، مثل الضمادات الطبية اللاصقة ومسكّن "تايلينول" عن قسم الصيدلة الذي يشمل "كوفيد 19".
صحيح أنَّ السياسة التقسيمية للشركات تحاكي المرحلة المقبلة للنظام العالمي، لكنها ليست الوحيدة، فالاصطفافات والتحالفات تؤكد أنَّ العالم يتجه إلى نظام متعدد الأطراف. وما ذكره الرئيس الأميركي جو بايدن في اللقاء الافتراضي الذي عقد بين الصين والولايات المتحدة يؤكد تكريس الواقع الجديد لهذا النظام، إذ قال بايدن لنظيره الصيني تشي جينغ بينغ "إن العلاقات الثنائية بين البلدين لها تأثير عميق في ما يبدو لي، ليس فقط في البلدين، وإنما بصراحة شديدة في باقي العالم أيضاً".
تشابك في العلاقات الدولية يكاد يكون أشبه برسمة سريالية لا تحاكي الواقع، فالجميع يدرك مدى الانسجام الروسي والصيني في مختلف المواضيع المطروحة على بساط البحث في مجلس الأمن وخارجه، ونجد في المقابل قبول روسيا بتزويد الهند بمنظومات الدفاع الجوي "إس – 400"، إذ أعلن مدير المركز الروسي للتعاون العسكري التقني، ديمتري شوغاييف، قبيل انطلاق معرض دبي الجوي الدولي: "بدأت عمليات تسليم المعدات الخاصة لنظام الدفاع الجوي للهند، وفقاً للموعد المحدد".
لو لم تكن الدولة هي الهند، لكان الخبر طبيعياً جداً، ولكن أن تزوّد روسيا، أشدّ أعداء الجوار الصيني، وهي الهند، بالمعدات، هو دليل إضافي على أن النظام الحالي بات تحت المجهر للاختبار والكشف عن شكله المستقبلي، فمع التطورات على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، يدخل العالم مخاضاً جديداً وعسيراً بانتظار المولود الجديد.
صحيح أنَّ البعض يرى أننا نعيش أفول القرن الأميركي، لما لسياسات بايدن من دلالات على ذلك، وخصوصاً أن الانسحاب المفاجئ من أفغانستان مثال يبرر ولادة النظام المتعدد الأطراف القائم على نظام الإثنيات، كما تنبأ به المفكر الأميركي صمويل هنتنغتون، إلا أنَّ للبعض الآخر نظرة مختلفة، تعتمد على أن ما يحصل ليس سوى إعادة للتموضع الجديد للأميركي بما يتناسب وصعود القوة العالمية، في انتظار الفرصة المناسبة لإعادة تصويب اتجاه النظام العالمي إلى سكّته الأميركية الصحيحة.
ويستند أصحاب هذه النظرة إلى أنَّ الانسحاب من أفغانستان ليس إلا فخاً أميركياً هدفه خلق الفوضى في آسيا الوسطى، لزرع القلق الوجودي عند كل من إيران وروسيا والصين معاً، من خلال تنامي التطرف الإسلامي مع حركة "طالبان".
أخيراً، بين هذا وذاك، يبقى المؤكد أن النظام العالمي الجديد سيبقى تحت المجهر إلى حين تنقشع الرؤية، وترسو الأحلاف والتموضعات الدولية، ويتحدّد عندها أيّ نظام عالمي سيكون للبشرية، في ظلّ ما تعيشه من حصار وباء كورونا الذي تشهد الكثير من الدول موجاته الخامسة.