مدغشقر: لماذا تدحرجت الاحتجاجات السلمية لانقلاب؟
سوء التقدير والفشل في إدارة أزمة الاحتجاجات في مدغشقر، وتراكم الغضب وسوء الخدمات والبطالة والتفاوت في توزيع الثروات؛ والاتكاء على فرنسا القوة الاستعمارية التقليدية؛ كلّ ذلك انتهى بسقوط النظام وإعلان العسكر السيطرة على البلاد.
-
مدغشقر: لماذا تدحرجت الاحتجاجات السلمية لانقلاب؟
ما زالت التفاعلات التي أحدثتها ظاهرة "جيل زد" تلقي بمفاعيلها في القارة الأفريقية، وقد حطّت رحالها هذه المرة في جزيرة مدغشقر؛ التي تحوّلت فيها تظاهرات شعبية بمطالب خدمية من مياه وكهرباء إلى أزمة سياسية أفضت لانقلاب ناعم أطاح بالرئيس أندريه راجولينيا؛ الذي فرّ من البلاد على متن طائرة فرنسية، ليُصبح العقيد مايكل راندريانيرينا، رئيساً انتقالياً.
لتدخل مدغشقر في حالة من عدم اليقين السياسي المتعلّق بالفترة الانتقالية وعدم اليقين الاقتصادي ذي العلاقة بالتنمية الاقتصادية، وتتحوّل أزمة المطالب المعيشية إلى أزمة سياسية تُلقي بظلالها في البلاد وتطرح التساؤلات ما الذي حدث ولماذا حدث؟ وإلى أين يتجه المشهد في مدغشقر؟
لم تبدأ القصة في مدغشقر عند لحظة الدعوة التي تبنّتها ودعت إليها مجموعات شباب "جيل زد" في 25 أيلول/سبتمبر بعد انقطاع متكرّر في الكهرباء والمياه في العاصمة أنتاناناريفو، وقد بدت مطالبهم بسيطة ومباشرة وواضحة ومشروعة "لا ماء، لا كهرباء، لا مستقبل"، ولكنّ سوء التقدير والفشل في إدارة الأزمة وتراكم الغضب وسوء الخدمات والبطالة والتفاوت في توزيع الثروات؛ والاتكاء على فرنسا القوة الاستعمارية التقليدية؛ كلّ ذلك انتهى بسقوط النظام وإعلان العسكر السيطرة على البلاد في 14 تشرين الأول/أكتوبر 2025؛ ليتكرّر مشهد الانقلابات في جزيرة مدغشقر.
قصة مدغشقر وسيرتها مع الانقلابات ليست وليدة اللحظة التي ظهر فيها "جيل زد" وتوظيف العسكر لها والقفز إليها، إذ عاشت مدغشقر منذ استقلالها عام 1960؛ على وقع عدة انقلابات مشابهة لما حدث في تشرين الأول/أكتوبر 2025؛ وشهدت أول انقلاب عام 1970، وأطيح حينها بأوّل الرؤساء فيليبرت تسيرانانا؛ عقب احتجاجات شعبية، وفي العقود التالية شهدت عدة اضطرابات أفضت لصعود العسكر إلى واجهة المشهد السياسي، ففي عام 1975 صعد لسدّة المشهد ديدييه راتسيراكا؛ واستمر في موقعه حتى حدثت انتفاضة عام 1991 التي أجبرته على التحوّل إلى التعدّدية السياسية ولكنّ التجربة فشلت وكانت سطحيّة وتحوّل المشهد من التعدّدية المزيّفة إلى عدم الاستقرار السياسي حتى الانتخابات التي شهدتها البلاد لم تفلح في وقف التنازع على السلطة.
وما أشبه اليوم بالبارحة، إذ شهدت مدغشقر في عام 2009 انقلاباً مماثلاً لما يحدث الآن، عندما دعمت وحدة النخبة العسكرية "كابسات" الاحتجاجات المناهضة للرئيس مارك رافالومانانا، ورفضت دعمه، وأيّدت ودعمت زعيم المعارضة وقائد الاحتجاجات آنذاك أندريه راجولينا المُنقلب عليه والمطاح به اليوم.
لم يُنهِ وصول الرئيس أندريه راجولينا بموجب انقلاب عام 2009 أزمات البلاد ولم يتعلّم الدرس من أسلافه؛ وتبخّرت وعود تحسين الاقتصاد ومحاربة الفساد، واستمرت الأزمات في مدغشقر تراوح مكانها وأضيف إليها التوتر مع المعارضة، حتى إعادة انتخابه عام 2018 لم تُنهِ الأزمة وتوقف الاستقطاب السياسي، واكتفى الرجل بالاتكاء على فرنسا والرهان عليها حتى بات ذلك الأمر موضع نقاش وجدل وانتقاد في مدغشقر، ووُصف الرجل بالدمية في يد فرنسا وخدمة مصالحها على حساب مصالح وتطلّعات الشعب. ولا سيما أنّ الرجل متهم بتلقّي مساعدات مالية من الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي لدعمه في قيادة الاحتجاجات كزعيم للمعارضة في عام 2009.
الشعرة التي قصمت ظهر البعير وفجّرت الغضب الشعبي هي علاقة الرئيس أندريه راجولينا بفرنسا التي منح شركاتها امتيازات وصفقات كبرى من دون مراعاة للإرث الاستعماري الذي خلّفته فرنسا، والأهمّ إخفاؤه لجنسيته الفرنسية إذ كُشف عام 2023 بأنّ راجولينا حصل على الجنسية الفرنسية في عام 2014 وأخفى ذلك؛ الأمر الذي اعتبرته المعارضة خيانة عظمى؛ ولكنها لم تفلح في منعه من الترشّح لانتخابات عام 2023 التي فاز فيها رغم مقاطعة المعارضة لها.
تراكم المتغيّرات السابقة وترسّب مفاعيلها في المشهد السياسي بمدغشقر أفضى إلى تفجّر الاحتجاجات الشعبية الشبابية التي قادها "جيل زد" وقد ساعدت تلك التراكمات على سرعة إسقاط النظام، ولا سيما عندما التقط ضباط الجيش اللحظة الحاسمة وقفزوا إلى المشهد، ليُعلن في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2025 مغادرة الرئيس راجولينا البلاد على متن طائرة عسكرية فرنسية، بالتنسيق مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
لتدخل مدغشقر مرحلة سياسية جديدة، بعدما أعلنت الجمعية الوطنية عزل الرئيس راجولينا، واختيار المحكمة الدستورية العليا مرشحاً جديداً لمنصب رئيس الدولة هو العقيد مايكل راندريانيرينا. ليبدأ جدل سياسي جديد هل ما حدث انقلاب عسكري أم انتقال دستوري مؤقت اقتضته الاستجابة للاحتجاجات الشعبية السلمية. لكنها في كلّ الأحوال مرحلة سياسية جديدة تدخلها مدغشقر بمحدّدات جديدة.
ملامح المرحلة الجديدة في مدغشقر بدت في إجراءات حرص القيادة الجديدة على بثّ رسائل طمأنة وامتصاص التداعيات داخلياً وخارجياً، إذ حرص الرئيس المنصّب، على نفي صفة الانقلاب عنه تفادياً للعقوبات الإقليمية والدولية، وعشية أدائه اليمين الدستورية رئيساً جديداً لمدغشقر، أوضح العقيد راندريانيرينا بأنّ استيلاءه على السلطة، "ليس انقلاباً"، موضحاً أنّ "الانقلاب هو دخول جنود إلى القصر الرئاسي مسلحين، وهم يطلقون النار، وهناك سفك دماء... هذا ليس انقلاباً"، مشيراً إلى أنّ "الجيش سيحكم إلى جانب سلطة مدنيّة لمدة تصل إلى عامين، قبل تنظيم انتخابات جديدة".
الإجراء الثاني في ملامح المرحلة الجديدة في مدغشقر تمثّل في سرعة تعيين رئيس وزراء جديد، وتعهّده بمرحلة انتقالية صارمة، إذ أعلن رئيس الوزراء المعيَّن؛ الاقتصادي هيرينتسالاما في 22 تشرين الأول/أكتوبر 2025، عن ملامح المرحلة الانتقالية التي ستدوم 3 أشهر كحدّ أقصى، متعهّداً بإعادة الانضباط إلى الإدارة العامّة وبتطبيق مبدأ "الصرامة بلا استثناء".
نجحت احتجاجات "جيل زد" بمدغشقر في إسقاط النظام، ولكنّ مآلات المشهد ومستقبله محكومة بعدة محدّدات ومتغيّرات أهمها:
أولاً: ألّا تتحوّل المرحلة الانتقالية المُعلن عنها إلى مرحلة دائمة؛ ولا سيما أنّ هناك تضارباً في مدة المرحلة الانتقالية ما بين عامين أو 90 يوماً.
ثانياً: أن تتحوّل الوعود الاقتصادية إلى وقائع وحقائق على الأرض يشعر بها المواطن.
ثالثاً: ألّا يُسرق إنجاز "جيل زد" والاحتجاجات التي قادها وما أفضت إليه؛ وينسب للجيش وتحديداً وحدة النخبة "كابسات"، ولا سيما أنها الوحدة نفسها التي دعمت وأوصلت راجولينا إلى السلطة في انقلاب عام 2009.
رابعاً: فهم محدّدات مصالح القوى السياسية الكبرى وعلى وجه التحديد فرنسا إذ إنّ تدخّل فرنسا الخشن أو الناعم قد يُجهض ما حدث في مدغشقر.
رابعاً: طمأنة القوى الدولية كالأمم المتحدة؛ والإقليمية الأفريقية ولا سيما الاتحاد الأفريقي، ومجموعة تنمية الجنوب الأفريقي؛ والتعاون معها والتنسيق.
بغضّ النظر عن التسمية والتوصيف إن كان انقلاباً أم انتقالاً فإنّ ما حدث في مدغشقر يعدّ سابقة إذ نجح "جيل زد" في إسقاط النظام، وبالتالي قد يشجّع هذا النجاح ويُلهم شعوب دول أفريقية أخرى وتتدحرج كرة الثلج، ولا سيما أنّ الظروف السياسية والاقتصادية في الدول الأفريقية الأخرى لا تختلف كثيراً وليست أفضل حالاً من مدغشقر.
ما حدث في مدغشقر كان غضباً على قطرة ماء وانقطاع كهرباء وتحسين ظروف المعيشة؛ لكنه كشف إرهاق شعب لسنوات من الإهمال والمماطلة. وبالتالي تحوّلت المطالب والاحتجاجات إلى تغيير جذري في النظام السياسي وقد يُصبح أزمة سياسية عميقة وممتدة تُعيد رسم مستقبل مدغشقر وعلاقتها الخارجية، ولكن منذ هذه اللحظة باتت الكلمة العليا في مدغشقر للشارع ولجيل الشباب الذي لم يعد بوسعه الانتظار ويقف متربّصاً على قارعة النزول للشارع من جديد إذا اقتضى الأمر ذلك.
أما مآلات المشهد في مدغشقر ومستقبله فمحكومة بالسيناريوهات الآتية:
السيناريو الأول: الانتقال السلمي والدستوري والالتزام بالفترة الانتقالية وتجاوب السلطة الجديدة مع المطالب الشعبية وهذا سيناريو آمن وممكن ومتاح.
السيناريو الثاني: إعادة إنتاج الظروف السابقة نفسها وتغلغل العسكر في المشهد والاستئثار به، من دون أيّ أفق سياسي. هذا السيناريو متوقّع وغير مستبعد لكنه سيفضي لأزمة سياسية وفقدان ثقة الشارع وبالتالي العودة للاحتجاجات.
السيناريو الثالث: فشل الانتقال السلمي وتهديد مصالح القوى الإقليمية والدولية، والتلويح بنقل تجربة مدغشقر للدول المجاورة، وبالتالي سيفضي ذلك لتدويل الأزمة السياسية في مدغشقر وعليه تتدخّل القوى الإقليمية والدولية والأممية من أجل فرض الحلّ، وهذا السيناريو يعني إجهاض التجربة وتصفير إنجازات "جيل زد".
إنّ هذه السيناريوهات لا تعني استبعاد إرادة الشعب الذي بات الفاعل الأهمّ في تحديد مصير البلاد.