ليبيا التحشيدات العسكرية هل تجهض الجهود الأممية؟
التحشيدات العسكرية في طرابلس تنذر بمرحلة خطرة من الصراع على النفوذ، واحتمالات الصدام المُفضي إلى الانفجار وشيكة، وأي شرارة باتجاه الاشتباك تصدر عن أي طرف ستُفضي إلى صراع داخلي.
-
التحشيد العسكري في طرابلس ينذر بمرحلة صراع على النفوذ خطيرة.
اجتازت ليبيا اختبار الانتخابات البلدية، وإن كانت مبتورة، لمنع إجرائها في بعض المناطق، ومضت بضعة أيام حتى تلبدت سماء المشهد الليبي بغيوم الحشود العسكرية. وبدلاً من أن يحتكم الفرقاء إلى صناديق الانتخابات ونتائجها، باتت عسكرة المشهد هي السمة الأبرز في المشهد السياسي الليبي، ما يوحي بأن المعادلة باتت استعراض القوة العسكرية وتغليب الاحتكام إليها.
من دون سابق إنذار، استيقظت العاصمة الليبية طرابلس على تصعيد عسكري مقلق، بل ومربك، تجاوز الرغبات المحلية والدعوات الأوروبية والجهود الأممية الداعية للحوار السلمي ورفض التصعيد. عسكرة المشهد الليبي هي التوصيف الموضوعي لحركة الحشودات العسكرية التي جاءت من مصراتة والزاوية وضواحي العاصمة وحطت رحالها في طرابلس.
وبات السؤال المركزي: ما دلالات هذه العسكرة؟ وهل قرر فرقاء المشهد الليبي الاحتكام للسلاح وتغليب الاقتتال على التصالح؟ وما تداعيات ذلك وتبعاته على الجهود الأممية وخارطة الطريق الجديدة الداعية للخروج من مأزق الأزمة والذهاب للتسوية السياسية؟
عسكرة المشهد الليبي ليست حدثاً مستجداً. وقد شهدت العاصمة طرابلس عدة مرات حشودات عسكرية ومواجهات مسلحة بسبب الصراع على الصلاحيات والخلاف على النفوذ. وفي آب/أغسطس 2022، شهدت ليبيا اشتباكات عنيفة أفضت إلى عشرات القتلى والجرحى.
وعام 2023، شهدت العاصمة طرابلس اشتباكات أخرى كادت أن تنزلق من مجرد مواجهات واشتباكات إلى حرب شاملة بين الفرقاء، لكن الجديد هذه المرة أن الحشودات العسكرية حدثت بعد بضعة أيام من الانتخابات البلدية، وعلى وقع جهود أممية تسعى للحل والتسوية، الأمر الذي يعني أن هذه الحشودات العسكرية ستقطع الطريق وتجهض أي جهود أممية ممكنة ومرتقبة، وخصوصاً خارطة الطريق الأممية الجديدة التي طرحتها المبعوثة الأممية هانا تيتيه خلال إحاطتها أمام مجلس الأمن الدولي في 16 آب/أغسطس 2025.
لم تتأخر البعثة الأممية في ليبيا عن التعليق على تعقيدات المشهد الليبي، ولا سيما عقب انتشار الحشو العسكرية في العاصمة طرابلس، وقالت إنها تتابع بقلق عميق استمرار حشد القوات والأسلحة الثقيلة حول العاصمة طرابلس، وعدّت هذا الأمر تطوراً خطيراً.
وفسرت البعثة الأممية، وأجابت بطريقة غير مباشرة عن سؤال دلالات العسكرة الحاصلة، وفي هذا التوقيت بالذات، بحديثها عن أن هناك تقدماً في المحادثات بشأن الترتيبات الأمنية في طرابلس، المستمرة منذ شهر حزيران/يونيو الماضي، تحت رعاية المجلس الرئاسي، وفي إطار لجنة الهدنة ولجنة الترتيبات الأمنية والعسكرية، مشيرة إلى إحراز تقدم في عدد من القضايا دون أن توضح ما هي هذه القضايا.
يُذكر أن البعثة الأممية كانت قد بدأت منذ أسبوع ونصف أسبوع تقريباً مفاوضات واجتماعات مع أطراف الأزمة الليبية من أجل البدء بتنفيذ خارطة الطريق. ويبدو أن الأطراف الليبية، عندما استشعرت جدية الحراك الحاصل، قررت عسكرة المشهد وإعادة تموضع الحشود العسكرية.
وبالتالي، يُنظر ويُفهم من الحشود المسلحة الموالية لحكومة الوحدة الوطنية المؤقتة مقابل جهاز الردع كأنها تحسين أوراق تفاوض رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة في ذهابه إلى خارطة الطريق الأممية المطروحة.
وتستند خارطة الطريق الأممية إلى 3 ركائز أساسية، هي: تنفيذ إطار انتخابي سليم من الناحية الفنية بهدف إجراء انتخابات عامة، وتوحيد المؤسسات من خلال حكومة جديدة موحدة، وحوار ليبي واسع.
في النظر إلى المشهد الليبي الحالي، لا تبدو الحشود العسكرية الحاصلة كمجرد عسكرة للمشهد فقط بقدر ما تعني حرص الأطراف على تعقيد الحل وتعمق الأزمة وقطع الطريق على أي جهود سياسية تدفع باتجاه التسوية، لأن التفسير الموضوعي والهدف الحقيقي من استعراض الحشود العسكرية هو قطع الطريق على الجهود الأممية، وفي مقدمتها خارطة الطريق المطروحة.
ونسف أي عملية سياسية يمكنه إخراج المشهد الليبي من الأزمة الممتدة، وخصوصاً أن الحلول المطروحة تقتضي أن تكون هناك حكومة ليبية جديدة وطنية ومركزية منتخبة وموحدة، وهذا يعني استبعاد الأطراف المستفيدة من الانقسام والفوضى والمتحكمة في المشهد، وبالتالي قررت قطع الطريق على الجهود الأممية وإجهاض خارطة الطريق حتى يصبح مصيرها كمصير مبادرات سابقة لمبعوثين دوليين تعاقبوا على المشهد الليبي.
ولأن الصراع في ليبيا واستمرار الانقسام هو جزء من تنافس بالوكالة بين الأطراف الدولية والإقليمية، فلا يمكن السير في خارطة الطريق الأممية دون أن يكون هناك إجماع واتفاق دولي من أجل إنجاح الجهود الأممية، وأن تطلب هذا الأطراف الدولية من وكلائها المحليين التوقف عن عسكرة المشهد والاحتكام للاقتتال. ومن دون تحقق ذلك، ستبقى مظاهر العسكرة حاضرة في المشهد الليبي، ومصير خارطة الطريق الأممية الجديدة كمصير سابقاتها.
التقط الاتحاد الأوروبي إشارات العسكرة والحشود الحاصلة، وحرص على أن يكون له موقف مما يحدث. وقد عبر عنه سفير الاتحاد الأوروبي، نيكولا أورلاندو، في توصيفه بأن التطورات الأمنية في طرابلس مثيرة للقلق، داعياً جميع الأطراف إلى حل الخلافات عبر الحوار السلمي، وبإشراف بعثة الأمم المتحدة، مع التشديد على ضرورة تجنب أي أعمال تهدد الاستقرار، مشيراً إلى استعداد الاتحاد الأوروبي لدعم الجهود الأممية، الرامية إلى حماية المدنيين، ومنع انزلاق الأوضاع نحو مزيد من المعاناة والدمار.
تفسير الحشود العسكرية في العاصمة طرابلس وتوقيتها ودلالاتها لا تعني قطع الطريق على الجهود الأممية لتسوية الأزمة الليبية فقط، ولكنها تعني أن هناك أطرافاً ليبية مُقتنعة باستحالة الحل السلمي، وأن الاحتكام للسلاح هو خيارها الوحيد، وتعني أن هناك أطرافاً ليبية ترفض الخروج من المشهد أو التداول السلمي للسلطة.
وتعني أن الأطراف الدولية الطامعة في محاصصة الموارد الليبية تُحرك وكلاءها اذا ما استشعرت بأن أي حل قد يستبعدها من المشهد. وفوق هذا كله، فإن العسكرة الحاصلة إذا تدحرجت إلى اشتباكات واسعة قد تفضي بالمشهد الليبي إلى الانفجار وإنهاء اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في تشرين الأول/أكتوبر 2020، ليعود المشهد الليبي إلى مربع الصفر.
إن التحشيد العسكري في طرابلس ينذر بمرحلة صراع على النفوذ خطيرة، واحتمالات الصدام المُفضي إلى الانفجار وشيكة، وأي شرارة باتجاه الاشتباك تصدر عن أي طرف ستُفضي إلى صراع داخلي مُرشح ليصبح حرباً شاملة تبدأ من طرابلس وتمتد إلى بقية المناطق. حدوث هذا السيناريو سيُجهض ويُنهي ويقضي على أي جهود أممية ممكنة، ويؤجل الحلول السياسية، ويُبْقي المشهد الليبي على ما هو عليه. ويبدو أن ذلك عين ما تُريده وتهدف وتسعى إليه أطراف داخلية ودولية.
هذا لا يعني بأنه لا يوجد هناك سيناريوهات أخرى ممكنة، وإن كانت نتيجتها واحدة. هناك سيناريو بدأ يتشكل في الباحة الخلفية للمشهد الليبي، ملمحه الأبرز تحالفات الفرقاء في ما بينهم -لقاءات إيطاليا وإسطنبول نموذجاً- لتشكيل كتلة أقوى وأكبر يصبح بإمكانها إعادة تشكيل المشهد الليبي وفق محدداتها ومصالحها. هذه التحالفات إن حصلت ستهدف إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه. وخلاصة ذلك إجهاض أي جهود أممية يمكنها أن تدفع باتجاه الحل في المشهد الليبي.