لماذا يُكثّف الاحتلال من أحزمته النارية في قطاع غزة؟
يستخدم "جيش" الاحتلال في كثير من الأحيان أسلوب "الأحزمة النارية " لتهيئة مسرح العمليات لنشاط عسكري مُحتمل، وهو ما يجري كما يبدو حالياً شرق خان يونس وشمال بيت لاهيا.
-
"الأحزمة النارية" عبارة عن أسلوب عسكري يتم الاعتماد عليه بهدف إخلاء المدن من السكّان.
منذ السنوات الأولى لإنشاء "جيش" الاحتلال الإسرائيلي في العام 1948، والذي كانت عصابات الأرجون والهاجاناه وشتيرن وغيرها نواته الأولى، لجأ هذا "الجيش" إلى استخدام القوة المفرطة وغير المتكافئة ضد كل أعدائه سواء كانوا دولاً أم جماعات ،وقد اعتمد في كل معاركة القديمة والحديثة على ما يتوفّر له من إمكانيات عسكرية هائلة، يأتي معظمها من حليفه الأهم في واشنطن ،ومن الكثير من دول العالم الأخرى، والتي تنظر إلى "دولة" الاحتلال بأنها عبارة عن رأس حربتها المتقدّم في منطقة الشرق الأوسط، وأنها سوطها الغليظ وذراعها الضارب الذي تؤدّب به كل مناوئيها ومخالفيها من دول وشعوب المنطقة.
في كل حروب "إسرائيل" السابقة ضد دول الإقليم، وما تلاها من حروب ومعارك مع جماعات وفصائل المقاومة الفلسطينية والعربية، اعتمد "جيش" الاحتلال بصورة خاصة واستثنائية على قواته الجوّية، والتي تُعتبر من الأحدث والأكفأ على مستوى العالم، وهي تملك من الإمكانيات والقدرات ما يؤهّلها لتحقيق تفوّق كاسح على كل أعدائها في المنطقة خصوصاً، وعلى كثير من دول العالم عموماً.
في أيّار/ مايو من العام2021، والذي شهد اشتعال معركة "سيف القدس" بين المقاومة في غزة وجيش الاحتلال الصهيوني، قام سلاح الجو الإسرائيلي باستخدام أسلوب قتالي جديد لم يكن معتاداً من قبل، حيث نفّذ غارة جوية جنوب غرب مدينة غزة بشكل وأسلوب عُرفا لاحقاً باسم "الحزام الناري"، والذي أدّى في ذلك الوقت إلى استشهاد قائد كتائب القسّام في لواء غزة الشهيد "باسم عيسى"، إضافة إلى مجموعة كبيرة من قيادات وكوادر القسّام الآخرين.
منذ تلك اللحظة بات أسلوب الأحزمة النارية يتكرّر وإن بشكل أوسع وأشمل، ولا سيّما منذ انطلاق معركة "طوفان الأقصى"، والتي شهدت مئات العمليات من هذا النوع، أسفرت عن سقوط أعداد هائلة من الشهداء والمصابين، إلى جانب دمار غير مسبوق في الأحياء السكنية، والمناطق العمرانية والصناعية والتجارية في قطاع غزة.
خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة ازدادت وتيرة هذه الأحزمة في مختلف مناطق القطاع، كان من أبرزها ما جرى شرق مدينة غزة، ولا سيّما في حيَّي الشجاعية والتفاح، وهو ما يتكرّر منذ عدّة أيام شرق مدينة خان يونس، وشمال منطقة بيت لاهيا أقصى شمال غرب القطاع، الأمر الذي يشير إلى تصاعد واسع في عمليات "جيش" الاحتلال، والذي كما يبدو بدأ عمليته المسمّاة "عربات جدعون "وإن من دون إعلان رسمي حتى كتابة هذا المقال.
تعريف عام
بالمفاهيم العسكرية تُصنّف "الأحزمة النارية" بأنها عبارة عن أسلوب عسكري يتم الاعتماد عليه بهدف إخلاء المدن من السكّان، من خلال قصف جوي عنيف ومركّز، يسهم في حدوث دمار هائل في البنى والمنشآت، وفي سقوط أعداد كبيرة من القتلى والمصابين، حيث جرى اللجوء إليه للمرة الأولى إبّان الحرب العالمية الثانية من قِبل الجيش الألماني، الذي قام بقصف مدينة وارسو البولندية بهذه الطريقة.
في الحرب على غزة اختلفت الأحزمة النارية عن سابقاتها شكلاً وموضوعاً، إذ باتت تُستخدم لتحقيق أهداف أوسع من مجرد الإخلاء أو فرض الحصار على منطقة معيّنة، بل تجاوزت ذلك لتحقيق مروحة أوسع من الأهداف سنشير إلى بعضها بعد قليل.
في العدوان على غزة تحديداً يمكن النظر إلى "الحزام الناري" بأنه عبارة عن غارة أو غارات جوية متتالية وعنيفة، تقوم بتنفيذها مجموعة من الطائرات الحربية في الوقت نفسه، وتستهدف منطقة جغرافية محدّدة، بحيث تؤدي هذه الغارات إلى تدمير مساحة واسعة من المنشآت أو البيوت، إلى جانب قتل أكبر عدد ممكن من الموجودين في هذه المنطقة.
في أوقات أخرى يقتصر "الحزام الناري" على غارة واحدة فقط تنتهي في ثوان معدودة، ويتم خلالها إطلاق عدد من القنابل الثقيلة ضد هدف معيّن سواء تحت الأرض أم فوقها، وهذه العمليات في العادة يكون الهدف منها تنفيذ عمليات اغتيال نوعية كما جرى في الضاحية الجنوبية لبيروت أكثر من مرة، أو كما جرى في عمليات اغتيال أخرى في قطاع غزة.
يمكن للقصف الذي يجرى خلال تنفيذ الحزام الناري أن يكون بشكل طولي أو عرضي، أي من الشمال باتجاه الجنوب مثلاً في خط مستقيم، ويمكنه أيضاً أن يكون بشكل دائري، في حال كان الهدف منه فرض حصار على منطقة معينة، وفي حالات أخرى يمكن له أن يكون بشكل متعرّج، في حال كان الهدف عبارة عن استحكامات دفاعية للطرف الآخر مُقامة بشكل هندسي متعرّج ،أو نفق تحت الأرض مُقام بالطريقة نفسها.
الأدوات
تُعتبر الطائرات الحربية الوسيلة الفُضلى لتنفيذ الأحزمة النارية بأشكالها كافة، وإن كان هناك إمكانية لتنفيذ جزء منها بواسطة المدفعية الثقيلة، والتي تُستخدم عادة في المناطق المفتوحة، او في حال القيام بتشكيل جدار ناري يؤمن الحماية للقوات أثناء الانسحاب أو الهجوم، أو في حالات إخلاء القتلى والجرحى من ميدان القتال.
في "جيش" الاحتلال يعتمدون بشكل شبه كامل على الطائرات المقاتلة بشتّى أنواعها، إذ يملك "الجيش" الإسرائيلي مجموعة متقدّمة وحديثة من هذه الطائرات، وهي لديها المرونة التكتيكية، والقدرات العملانية لتنفيذ هذا النوع من الغارات بكل كفاءة واقتدار، ولا سيّما في ظل عدم وجود سلاح دفاع جوّي مناسب وفعّال لدى فصائل المقاومة في غزة، والتي لا تملك سوى بعض المضادات القديمة المحمولة على الكتف مثل صواريخ سام7 وستريللا، وكلاهما لا يملك أي فرصة للتصدّي للطائرات الحربية الإسرائيلية.
من أهم الطائرات الحربية التي يستخدمها "جيش" الاحتلال لتنفيذ أحزمته النارية هي طائرات (F-15)، والتي وإن كانت تُعتبر أقدم مقاتلاته الجوية، إلا أنها تتميّز عن باقي الطائرات بقدرتها على حمل قنابل ثقيلة يزن بعضها ألفي رطل، أي ما يعادل 900 كجم تقريبا، وفي مقدمة هذه القنابل التي اُستخدمت بكثافة في غزة قنبلة (أم كى84-)، التي تحتوي على 430 كجم من المتفجرات شديدة الانفجار، وتتسبّب عند إسقاطها بإحداث حفرة يبلغ قطرها 15 مترا، وعمق يصل إلى 12 متراً، وبإمكانها اختراق 40 سنتيمتراً من المعدن، وحوالي 3.4 أمتار من الخرسانة المسلّحة، إضافة إلى قنبلة (GBU-28) والتي لم يثبُت حتى الآن أنه جرى استخدامها في العدوان على القطاع، وهي قنبلة ذكية تزن أكثر من 2000 كجم، وتُوَجّه بأشعة الليزر، وتملك هذه القنبلة خاصية النفاذ عميقاً في باطن الأرض بعمق قد يصل إلى ثلاثين متراً، و6 أمتار من الباطون المسلّح .
الطائرة الثانية التي تنفّذ أحزمة نارية هي الـ (F-16)، وهي مقاتلة ذات مواصفات عالية، وتملك إمكانية مهاجمة الأهداف الأرضية من خلال استخدامها صواريخ جو-أرض، أو من خلال القنابل الموجّهة بأشعة الليزر.
في غاراتها على غزة والتي تُطلق فيها الصواريخ من علوٍّ منخفض، تستخدم طائرات (F-16) قنابل من طراز GBU-39" "، والتي تُعتبر من أهم القنابل الذكية والموجّهة التي يملكها جيش الاحتلال، وهي ذات جيل متقدّم مخصّصة لاختراق التحصينات والثكنات العسكرية، ونسفها من الداخل مثل المستودعات والملاجئ الخرسانية، ومع أنها ذات قطر صغير نسبيا قياسا بالقنابل الكبيرة، إلا أنها ذات فعالية تدميرية عالية.
ثالث الطائرات الحربية الإسرائيلية المُستخدمة هي الـ (F-35)، وهي تستطيع التخفّي بشكل كامل عن الرادارات، وتبلغ سرعتها حوالي 1200 ميل في الساعة، ولديها إمكانية لتحديد الأخطار المحيطة بها بزاوية 360 درجة، وتطير على ارتفاع خمسين ألف قدم، تملك الطائرة إلى جانب صواريخ الجو- جو ، قنبلتين موجهتين من طراز ((GBU-31 يبلغ وزن كل واحدة منهما حوالى 900 كجم، وهي مخصصة لاستهداف المواقع الأرضية المحصّنة.
الأهداف
هناك عدّة أهداف يسعى "جيش" الاحتلال لتحقيقها من خلال استخدامه أسلوب "الأحزمة النارية"، وهي في العادة تكون أهدافاً حسّاسة ومهمة، ومن أجل النجاح في الوصول إليها يستخدم هذا النوع من الغارات، والتي تستنفد جزءً كبيرا من إمكانياته العسكرية وتحديداً من القنابل والصواريخ، إضافة إلى الجهد العملياتي المتواصل خلال تنفيذ العملية أو الفترة التي تسبقها، والتي تتركّز عادة على جمع المعلومات الاستخبارية الدقيقة، ووضع الخطة المناسبة للتنفيذ.
1/استهداف الأنفاق والممرّات تحت الأرضية:
يسعى العدو على الدوام إلى إفقاد خصمه عوامل القوة التي يتمتّع بها أو يمتلكها، ومن أهم تلك العوامل هي مراكز القيادة والسيطرة، وغرف العمليات، إلى جانب مخازن السلاح، ومرابض إطلاق الصواريخ، وهذه كلها يعتقد الاحتلال أنها موجودة تحت الأرض في أنفاق محصّنة أنشأتها المقاومة خلال سنوات طوال، وهو يحاول من خلال استخدام "الأحزمة النارية " القضاء عليها وتدميرها، ولا سيّما، وهو يعرف أكثر من غيره، فشل عمليات القصف التقليدية في إنجاز هذه المهمة، لذلك يلجأ إلى هذه الطريقة المستحدثة لعلّه يحقّق نتائج أفضل.
2/تنفيذ عمليات الاغتيال:
يعتمد العدو خلال السنوات الأخيرة على عمليات القصف الجوي في تنفيذ معظم عمليات الاغتيال التي تستهدف قادة المقاومة، سواء في فلسطين أم خارجها، وبما أن الإجراءات الأمنية التي باتت فصائل المقاومة وقادتها ينتهجونها أصبحت أكثر تعقيداً من ذي قبل، وهو ما تسبب في فشل الكثير من عمليات الاغتيال الإسرائيلية، خصوصاً إذا كان الهدف موجوداً في مكان محصّن، أو لا يُعرف مكانه بدقة، لجأت "إسرائيل" إلى أسلوب الحزام الناري، والذي يستهدف في بعض الأحيان مربعات كاملة، أو مجموعة من الأبنية الكبيرة، بحيث يحرم الهدف المراد قتله أي فرصة للنجاة حتى لو لم يُصب بشكل مباشر .
3/ تهيئة مسرح العمليات:
يستخدم "جيش" الاحتلال في كثير من الأحيان أسلوب "الأحزمة النارية " لتهيئة مسرح العمليات لنشاط عسكري مُحتمل، وهو ما يجري كما يبدو حالياً شرق خان يونس وشمال بيت لاهيا، إذ يقوم العدو من خلال هذا الأسلوب بالتمهيد للتوغّل البري الذي يتطلّب تمهيد ساحة القتال، بما يُعطي أفضلية للقوات المهاجمة على حساب المدافعة.
هذا الأمر يتطلّب تدمير العقد القتالية التي يوجد فيها المدافعون، والتي تسبّب عادة خسائر كبيرة لجيش الاحتلال، إضافة إلى استهداف ما يُعتقد بأنها فتحات للأنفاق الدفاعية، والتي تُستخدم للمناورة من قبل المقاومين سواء للهجوم أم الانسحاب، إلى جانب تدمير المنازل المرتفعة، والتي يمكن أن تُستخدم لرصد ومراقبة القوات المهاجمة.
ما سبق من أهداف يحاول العدو تحقيقه من خلال اللجوء إلى أسلوب الأحزمة النارية، إضافة إلى أساليب أخرى من قبيل تأثيرها النفسي على السكّان، ودفعهم إلى إخلاء مناطقهم على وجه السرعة بسبب شدة القصف، لم ينجح خلال شهور الحرب الطويلة في تحقيق الأهداف المرجوّة من ورائه، وعلى الرغم من حجم الضرر الذي يلحق بالمواطنين من جرّاء هذا النوع من الاستهدافات، إلا أن إصرارهم على تمسّكهم بأرضهم لم يتزحزح، وهم باتوا يفضّلون الموت على الرحيل أو النزوح إلى المجهول.
على كل حال، نحن على ثقة بأن كل ما يسعى إليه العدو من وراء استخدامه وسائل وأساليب يعاقب عليها القانون الدولي، وتُعتبر جرائم إبادة جماعية بحق المدنيين العزّل، لن تنجح في تحقيق ما يسعى إليه، وأن كل هذا القتل والإجرام اللذين يرتكبهما أمام سمع وبصر هذا العالم العاجز والظالم سيرتد عليه وبالاً من دون أدنى شك.
صحيح أن الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون في غزة كبير، وصحيح أن فاتورة الدم قد ارتفعت إلى مستويات قياسية، إلا أن هذا الشعب الصابر والشجاع سيصل في نهاية المشوار إلى ما يصبو إليه، ولن يكون مصير القتلة والمجرمين أحسن حالاً من أمثالهم عبر التاريخ، هذا التاريخ الذي سيكتب بأحرف من نور قصة شعب صنع المستحيل، واجترح المعجزات، ولم يألُ جهداً في تحقيق أهدافه في الحرية والاستقلال.