على طريق المصالحة.. ماذا يجري في الشمال السوري/التركي
ليست هي المرّة الأولى التي تشهد فيها بعض مناطق الشمال السوري أحداثاً تستهدف الوجود التركي هناك، وذلك استنكاراً للمعلومات التي تتحدّث عن احتمالات المصالحة بين دمشق وأنقرة.
فبعد أيام من تصريحات وزير الخارجية السابق مولود جاويش أوغلو الذي قال في 9 آب/أغسطس 2022 إنه "التقى نظيره السوري فيصل المقداد في 11 تشرين الأول/أكتوبر 2021 في بلغراد على هامش فعّاليات الذكرى الستين لمجموعة عدم الانحياز"، خرج المئات من عناصر وأنصار المجموعات المسلحة في تظاهرات صاخبة في جرابلس وأعزاز والباب ومناطق أخرى، وهي جميعاً تحت سيطرة الجيش والأمن والأجهزة التركية بالكامل وذلك بالتنسيق والتعاون مع فصائل ما يسمّى "بالجيش الوطني السوري".
وأحرق المتظاهرون آنذاك الأعلام التركية وهتفوا ضدّ تركيا واتهموها "بطعنهم من الخلف"، وطالبوها "بسحب قواتها من المنطقة". وهو ما تكرّر في تظاهرات الأحد والاثنين حيث هاجم المتظاهرون الشاحنات ومراكز البريد التركية، وحاصروا المواقع العسكرية التركية، وأحرقوا الأعلام التركية، كردّ فعل على تصريحات الرئيس إردوغان فيما يتعلّق باستعداده للقاء الرئيس الأسد.
ومع أن البعض حاول أن يربط هذه الأعمال بما جرى في مدينة قيصري وسط الأناضول التي تعرّض فيها السوريون لأعمال عنف من بعض المجموعات القومية التركية بعد الحديث عن اعتداء سوري على فتاة تركية قاصر، إلا أنّ المسؤولين الأتراك قرّروا إرسال تعزيزات عسكرية إضافية إلى المناطق التي شهدت أعمال الشغب، وأصدروا تعليماتهم بإطلاق النار من دون سابق إنذار على كل من يستهدف العلم التركي، وقال المسؤولون الأتراك "إنّ الأيدي التي ستطال هذا العلم سوف تقطع".
واستعجلت المعارضة العسكرية منها والسياسية لإصدار بياناتها التي استنكرت فيها الأعمال المذكورة وقالت إنها "ستعاقب كل المتورّطين فيها والمسؤولين عنها"، فيما اعتذر رئيس "الحكومة السورية المؤقتة" عبد الرحمن مصطفى من الشعب والدولة التركية لهذه الأعمال. وقال مصطفى وهو من أصول تركمانية في حديثه لقناة سي أن أن التركية "إنهم سيلاحقون المسؤولين عن هذه الأعمال، التي قال عنها "إنها لن تؤثّر على علاقات الأخوة الوطيدة بين الشعبين التركي والسوري".
هذه التطوّرات سبق لها أن تكرّرت أيضاً في ربيع 2021 عندما تراجعت قيمة الليرة التركية بشكل مفاجئ وخطير مقابل الدولار، حيث طالب المسلحون أنقرة بدفع مرتباتهم بالدولار وليس بالليرة التركية، تتخوّف الوسائط الرسمية أن تشهد طابعاً خطيراً بعد الخطوات العملية على طريق المصالحة بين أنقرة ودمشق.
ومن دون أن تخفي بعض الأوساط السياسية والأمنية مخاوفها من احتمالات انفجار الوضع الأمني في المناطق المذكورة حتى قبل عودة الجيش السوري إليها، وهو ما قد يدفع البعض من الفصائل المسلحة للانضمام إلى هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) التي تسيطر على إدلب وجوارها. وهو ما يزيد من قلق أنقرة التي تتعرّض لضغوط جدية من موسكو وبكين في هذا الموضوع باعتبار أن غالبية هؤلاء الأجانب من الشيشان وداغستان ومسلمي الإيغور الصينية.
وتتوقّع المعلومات لمثل هذه الأمور المعقّدة أن تكون من بين القضايا التي بحثها الرئيس إردوغان مع الرئيسين الروسي بوتين والصيني شي بينغ، وذلك عندما التقى بهما على هامش قمة منظّمة شنغهاي في أستانة، ومن دون أن تعني السيطرة على الوضع الأمني في الشمال السوري، وهو أساساً تحت سيطرة الجيش التركي، سيكون كافياً بالنسبة لأنقرة حتى تلقّي المزيد من الخطوات العملية على طريق المصالحة مع دمشق، باعتبار أن غالبية السوريين الموجودين في تركيا وعددهم 3,7 ملايين وفق الإحصائيات الرسمية هم أقرباء للسوريين الذين يعيشون في الشمال السوري.
في الوقت الذي يتعرّض فيه هؤلاء السوريون، وقد حصل أكثر من 200 ألف منهم على الجنسية التركية، لحملات عدائية لأسباب مختلفة، تارة من قبل الأوساط القومية التركية، وتارة أخرى من أوساط المعارضة العلمانية، وفي مقدّمتها حزب الشعب الجمهوري الذي "يحمّل الحكومة مسؤولية أزمة اللاجئين السوريين الذي جاءت بهم تركيا كجزء من سياساتها في سوريا والمنطقة"، على حد قول زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال الذي أكد "ضرورة إعادة اللاجئين إلى بلادهم بالتنسيق والتعاون مع الدولة السورية، ودعا أنقرة إلى الاستعجال في إلقاء الخطوات العملية والسريعة من أجل المصالحة النهائية معها".
وهو ما أكده تولّي حاتم أوغللاري الرئيسة المشتركة لحزب الشعوب الديمقراطي والمساواة (الكردي)، وتمنّت لمثل هذه المصالحة أن تساهم في حل المشكلة الكردية سورياً وتركياً، متحدثة عن استعدادها لزيارة دمشق وهو ما قاله أوزغو آوزال.
كلّ ذلك مع استمرار الحديث عن السيناريوهات الخاصة باحتمالات المصالحة بين دمشق وأنقرة، وسط المعلومات التي تتحدّث عن خطة تركية لجمع المعارضة السورية مع المسؤولين السوريين، في محاولة منها لإثبات تبنّيها المستمرّ لهذه المعارضة السياسية منها والعسكرية حتى التوصّل إلى حلّ نهائي للأزمة السورية، وفق تفاهمات أستانة والقرارات الأممية وأهمها القرار 2254 الصادر في 18 كانون الأول/ديسمبر 2015.
ودفع ذلك دمشق بدورها إلى مزيد من المرونة في شروطها من أجل المصالحة، حيث بدأت تتحدّث عن "تعهّد تركي رسمي بضمانة روسية للانسحاب من سوريا"، بعد أن كانت ترى في هذا الانسحاب شرطاً أساسياً لأيّ حوار وبالتالي مصالحة.
وتبيّن الاستطلاعات أن معظم السوريين من الذين لم يتورّطوا في أعمال إرهابية باتوا يتمنّونها كما هم يتمنّون العودة إلى بلادهم، ولكن بعد أن يقتنعوا أن المصالحة بين الرئيس الأسد وإردوغان استراتيجية وليست تكتيكية، وأن هذه المصالحة ستساهم في عودة آمنة لهم مع ضمانات عربية خليجية بإعمار ما دمّرته الحرب خلال السنوات الـ 13 الماضية، كلّفت الشعب السوري بكلّ فئاته والدولة السورية الكثير والكثير ولم يستفد منها سوى الكيان الصهيوني.