عقدة مخيم جنين.. لماذا يفجرّ الاحتلال الأزقّة الفلسطينية؟

يأتي تصاعد التفجير في مخيم جنين، وهو يضمّ عشرات الأبنية المكوّنة من مئات البيوت، كتعبير عن تفريغ عقد الاحتلال النفسية تجاه هذا المخيم الذي يناطح المحتلين طوال عقود طويلة مضت.

0:00
  • يتفاخر المحتلّ بوحشيّة التفجيرات في المخيم!
    يتفاخر المحتلّ بوحشيّة التفجيرات في المخيم!

يواصل "جيش" الاحتلال الإسرائيلي تدمير الأحياء السكنية المكتظة والمتلاصقة في مخيمات جنين وطولكرم والفارعة، في الوقت الذي جاءته العملية النوعية في معسكر تياسير، لتطرح سؤالاً مزدوجاً حول حقيقة أهداف حملة السور الحديدي الإسرائيلية في شمال الضفة، ومدى قدرة "جيش" الاحتلال على تحقيق أهداف الشقّ الأمني المتصل بالقضاء على الحاضنة الشعبية في إطارها الجغرافي.

يأتي تصاعد تفجير الأزقّة الفلسطينية، وهي تضمّ عشرات الأبنية المكوّنة من مئات البيوت في مخيم جنين تحديداً، كتعبير عن تفريغ عقد الاحتلال النفسية تجاه هذا المخيم الذي يناطح المحتلين طوال عقود طويلة مضت، ويظنّ المحتلّ أنّ لحظة ما بعد السابع من أكتوبر وتدمير غزة أفضل لحظة مواتية للتخلّص من هذه العقد التي رسّخها مخيم جنين في الذاكرة الإسرائيلية الجمعيّة، منذ الانتفاضة الأولى عام 1987، وتطوّرها عام 2002 مع ملحمة نيسان التاريخية، وآخر محطاتها عندما تشكّلت كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس، بعد معركة سيف القدس ونفق الحرية، وقد بسطت نفوذها الواسع عندما حوّلت المخيم إلى ملاذ لكلّ مقاوم مطارد من الخليل حتى طولكرم، ولو بشكل مؤقت.

يتفاخر المحتلّ بوحشيّة التفجيرات في المخيم، ويحرص على بثّها عبر منصاته الإعلامية، ويوجّه تحذيرات لسكان المستوطنات القريبة عبر مسافة 20 كم، يعلمهم أنّ ما يسمعونه من أصوات تفجيرات ليست حدثاً أمنياً داخلياً لكنها هنا في مخيم جنين، في وقت تشتّت فيه أهل المخيم العشرين ألف نسمة عبر أحياء المدينة والقرى المجاورة، وهو الحال ذاته تقريباً مع مخيم طولكرم، وربما يتمدّد نحو نور شمس والفارعة وبلاطة والعين خلال الأيام المقبلة.

تأتي العملية الإسرائيلية في شقّها المتصل بتفجير قلب المخيمات، لتطرح جملة من القضايا الملحّة بهذا الخصوص، وأهمها:

أولاً: خيارات المقاومة وكتيبتها في هذه المخيمات، هل يعني هذا التدمير بداية نهاية هذه التجربة الوليدة منذ أكثر من ثلاث سنوات؟

تجد المقاومة نفسها في هذا الوضع المستجدّ أمام أزمة حقيقية، ولكنها أزمة مؤقتة تحمل في ثناياها إعادة إنتاج التجربة وفق فضاء أوسع، فالمخيم بحاضنته الشعبية يتشظّى كبذور سنبلة تناثرت منابتها في الجبال والوديان والسهول، فالمكان والإنسان تتمّ صياغته هنا وفق إيقاع الفكر والعقيدة والخط السياسي، ما دام أنّ المظلومية قائمة بل يحاول الإسرائيلي سحقها عبر سياسة انعدام الأمل التي تقوم عليها عملية السور الحديدي.

وعليه يمكن أن تجد المقاومة نفسها تتكاثر وفق حواضن شعبية صغيرة، متناثرة في كلّ أزقة القرى والأرياف كما الأحياء القديمة في المدن، وتجد نفسها مضطرة لتعديل طرائق عملها لتحظى بقدر من السرية والعمل ضمن خلايا، ما يعني تجنّب الأساليب الشعبية المفتوحة التي كان قلب المخيم يرفدها بقوة نفسيّة، حملت في أحشائها تعزيز فاعلية المقاومة بالفتوات وشريحة الشبان التي تتأثّر عادة بالتعبئة الشعبية العامّة، ولكنها حملت ضمن ذلك عوامل ضعفها المتعلّقة بانعدام السرية وسهولة الاستهداف الجوي، إضافة إلى سهولة الاختراق الأمني والتجنيد الكمّي على حساب التدريب النوعيّ، ما ساعد في نشر الشائعات ومحاولات شيطنتها من قبل أجهزة السلطة الأمنية ومنصاتها الإعلامية.

وسبق للمقاومة في صورتها القديمة قبل وجود المخيمات، وتحديداً في ثورة 1936 ضدّ الاحتلال البريطاني لفلسطين، أن تكوّنت حواضن شعبية للثوّار في الريف الفلسطيني، في وقت كان فيه الباشوات والزعامات وسلطة التجار تسيطر على المدن الرئيسة، فكان الجيش البريطاني يحتاج لتجييش حملات واسعة لاقتحام بعض الأرياف الفلسطينية خاصة في قلعة صانور قرب جنين وبعض أرياف طولكرم، والتي أقامت فيها قيادة الثورة مؤسسات ومحاكم ثورية ومعسكرات تدريب.

ثانياً: قدرة "الجيش" الإسرائيلي على تحقيق أهدافه الأمنية المتعلقة باجتثاث جذور المقاومة، أو ما أعلنوا عنه صراحة بتحييد كتيبة جنين على وجه الخصوص، هل هناك فرصة حقيقية لتحقيق هذا الهدف؟

 يعكس المسعى الإسرائيلي بتفجير قلب المخيمات معالجة عقيمة، كحال الثور في اندفاعه نحو قطعة القماش الحمراء، وليس خلف من يحمل هذه القطعة، فالإسرائيلي هنا يلاحق الأزمة في صورتها المباشرة الظاهرة، وهو يصرّ على تجاهل أصل المشكلة المتمثّلة بمظلومية أهل المخيمات الذين طردهم المحتل من ديارهم الأصلية، ليتكدّسوا في هكذا أزقة فوق أرض لا يملكونها ليعيشوا الحياة بالكفاف أوّلاً بأوّل.

يمكن للإسرائيلي أن ينجح في تغيير معادلة المخيمات، خاصة في ظلّ استعداد السلطة الفلسطينية لاحتواء النتائج عبر فرض وقائع على الأرض تتعلّق بـ(إعمار) المخيمات وفق هندسة ما خلّفه الاحتلال من تدمير، بتكريس عمليات التوسعة والشوارع العريضة والساحات الداخلية على حساب أصحاب البيوت الأصلية التي يتمّ تدميرها بشكل كلي، بحيث تقوم السلطة عبر مؤسسات دولية بتعويض أصحاب هذه البيوت ونقلهم للسكن في مناطق أخرى، وهذا ما يبدو أنه سيتمّ في المرحلة المقبلة.

ثالثاً: ماذا عن بقيّة الأهداف الإسرائيلية الموازية، وهي تتصل بمسارات سياسية أيديولوجية؟

جاءت الحملة العسكرية الإسرائيلية الراهنة في الضفة ضمن خطط سموتريتش نتنياهو الاستيطانية، وهي متعلّقة بمشروع ضمّ أجزاء من الضفة الغربية، خاصة في ظلّ حكم الرئيس الأميركي الجديد ترامب، وعلى خلفيّة الصفقة مع غزة لاحتواء حالة الحرب وتبادل الأسرى، وهي الصفقة التي رضخ لها نتنياهو تحت ضغط عمليات المقاومة وصلابة موقفها، وفي سياق رؤية ترامب لعالم جديد يخلو من الحروب العسكرية وتستعر فيه حروب التجارة والمصالح والسياسات.

هنا يمكن للعملية الإسرائيلية أن تحقّق بعض النجاح في قضية الضمّ وربما تعزيز الاستيطان، ولكن ضمن منظور قريب وعلى وقع الصدمة الفلسطينية المتأثّرة بما تخلّفه الوحشية الإسرائيلية، وفي ظلّ ضعف الموقف السياسي الفلسطيني والعربي الرسمي، ويمكن أن يحدّ من مستوى هذا النجاح تعافي المقاومة ومدى تأثيرها على لجم الاستيطان ما يعمّق المخاطر الأمنية ويعاظمها.

ويبقى الاعتبار الأساسي لهذه الحملة العسكرية الإسرائيلية في شقّها المتعلّق بتدمير المخيمات، منوطاً بكلّ التطوّرات المحيطة من الصفقة في غزة ووقف النار الهشّ مع لبنان إلى الاحتكاك الدائم بين إيران والكيان الإسرائيلي، والأهمّ قدرة الشعب الفلسطيني وقواه الحيّة على توجيه ضربات نوعية تؤثّر في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، على شاكلة هجوم معسكر تياسير النوعي، وفي حال توفّر هكذا قدرة فإنّ مجمل العملية الإسرائيلية سيكون مصيرها التعثّر وربما الانكفاء.