عالم ترامب: سوق مفتوح للابتزاز والصفقات

في واشنطن كما في الكثير من دول العالم يُنظر إلى ترامب بأنه مختلّ عقلياً، وهذا الأمر يراه البعض كافياً لصدور التصريح الذي يخض قطاع غزة، إلى جانب التصريحات الأخرى التي صدرت عنه خلال الأسابيع الأخيرة.

  • هل يتحول التوجّه
    هل يتحول التوجّه "الترامبي" إلى حقيقة واقعة؟

آثرت أن أتريّث في الكتابة أو التعليق على حديث الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب المتعلّق بقطاع غزة المدمّر والمنكوب، ورغبته في دفع سكّانه للهجرة "الطوعية" منه إفساحاً للمجال أمام عمليات الإعمار الكبيرة التي يحتاجها بحسب زعمه، إذ إنّ هكذا تصريحات مثيرة للجدل بحاجة إلى بعض الوقت للوقوف على أسبابها ودوافعها، والأهداف المراد تحقيقها من ورائها.

وبعيداً من حقيقة وجود خطّة فعليّة وقابلة للتنفيذ لهذا الموضوع من عدمه، وبغضّ النظر عن إمكانية أن يتحوّل في فترة مقبلة من مجرّد تصريحات وصفها البعض بالعشوائية إلى أمر واقع أم لا، فإنّ مجرّد إطلاق مثل هذا التصريح من رئيس أقوى دولة في العالم يُعتبر تطوّراً خطيراً للغاية، ويمكن له أن يُشعل فتيل صراع دموي وغير مسبوق لن تقتصر تداعياته على قطاع غزة فقط، بل إنه من الممكن أن يمتدّ ليشمل كلّ المنطقة بما فيها ساحات كانت في معظم الأحيان باردة وهادئة.

في الولايات المتحدة كما في الكثير من دول العالم يُنظر إلى الرئيس ترامب بأنه مختلّ عقلياً، ومريض نفسياً، وهذا الأمر يراه البعض كافياً لصدور مثل هكذا تصريح، إلى جانب التصريحات الأخرى التي صدرت عنه خلال الأسابيع الأخيرة.

في ولايته الأولى في العام 2016 قام 27 خبيراً وطبيباً نفسياً بتحليل شخصية الرئيس الأميركي، وقد اجمعوا حينها على أنه يعاني من مشكلات عصبية ونفسية متعددة، كان من بينها الانهيار العصبي، والنرجسية المفرطة، والانقياد التامّ لآراء مستشاريه المقرّبين، وغير ذلك من المشكلات، وهو الأمر الذي أشار إليه أيضاً كتاب "الخوف" لبوب وودوارد، وكتاب "مايكل وولف" الذي حمل اسم "النار والغضب"، والذي بدوره قدّم تصوّراً مشابهاً ويكاد يكون مطابقاً لسابقه. 

إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، فأنا من الذين لا يساورهم أدنى شكّ، في أنّ دولة كبيرة وقوية وغنيّة في حجم الولايات المتحدة الأميركية، تتمّ إدارتها من خلال مؤسسات مهنية ومحترفة، وذات باع طويل في السياسة والاقتصاد والحروب والقضاء، إلى جانب باقي التخصّصات التي تحتاجها كلّ دول العالم. لا أعتقد كما الكثيرين بأنّ شخصاً واحداً مهما كثُرت عثراته، وبلغت هفواته، أو في مقابل ذلك عظُمت قدراته، وتعدّدت مهاراته، قادر على إدارة دولة بهذا الحجم، أو التفرّد باتخاذ مروحة واسعة من القرارات التي تتعلّق بالشأنين الداخلي والخارجي فيها، ويمتدّ تأثيرها في كثير من الأحيان إلى كلّ أرجاء المعمورة، حتى تلك المناطق التي تبعد عن الأراضي الأميركية مئات آلاف الأميال.

ومع أنّ الدستور الأميركي الصادر في العام 1787 يمنح الرئيس صلاحيات واسعة على المستويّين الداخلي والخارجي، وتكون له كلمة الحسم في العديد من القرارات الكبرى مثل إعلان حالة الطوارئ، وإعلان التعبئة في البلاد، وتعيين الوزراء والقضاة، ومنح العفو، ووقف تنفيذ العقوبات في العديد من الجرائم، بالإضافة إلى حقّه في إبرام المعاهدات مع الدول الأجنبية، وتعيين السفراء، وإرسال قوات عسكرية إلى مناطق مختلفة من العالم، والكثير من القرارات الأخرى إلا أنه يبقى مضطرّاً للحصول على العديد من الاستشارات وربما الموافقات من مؤسسات مختلفة يأتي على رأسها الكونغرس، ومجلس الأمن القومي، ووزارتا الدفاع والخارجية، وغيرها من المؤسسات المختصّة بإدارة شؤون الدولة.

في الأسابيع الماضية، وحتى قبل تولّيه منصب الرئاسة بشكل رسمي صدرت عن الرئيس الأميركي الجديد والمثير للجدل دونالد ترامب العديد من القرارات والتشريعات، بالإضافة إلى عشرات التصريحات، والتي أثارت لغطاً كبيراً وغير مسبوق، بسبب تناولها قضايا شائكة وحسّاسة تمسّ في بعضها سيادة دول مستقلّة مثل كندا وبنما، وفي البعض الآخر منها تناقض القانون الدولي بكلّ ما للكلمة من معنى، بل وتضرب بعرض الحائط كلّ الأعراف الدبلوماسية المتعارف عليها، والتي تجرّم وتمنع الاستيلاء أو السيطرة على أراضي الغير أو مواردهم أو منشآتهم بالقوة.

من أكثر التصريحات التي أثارت جدلاً واستنكاراً ورفضاً عالمياً وإقليمياً التصريح المتعلّق بفرض وصاية طويلة الأمد على قطاع غزة، إلى جانب إبداء الرغبة الواضحة والصريحة في تهجير سكّانه الذين يزيد عددهم عن المليونين وربع المليون نسمة، يعيشون في مساحة جغرافية صغيرة للغاية لا تكاد تتجاوز الـ 362 كلم2، بحجة إعادة إعماره بعد ما أصابه من دمار وخراب هائلين نتيجة العدوان الصهيوني الواسع الذي استمرّ طيلة خمسة عشر شهراً.

هذا التصريح عدّه البعض من المحلّلين والمتابعين تساوقاً مع مطالب رئيس وزراء العدو المأزوم بنيامين نتنياهو، والذي لم يخفِ رغبته هو الآخر منذ بداية العدوان على القطاع في تهجير السكّان بشكل قسري، بل وحاول هو و"جيشه" القيام بذلك بكلّ ما أوتوا من قوة، واستخدموا في سبيل ذلك كلّ ما في جعبتهم من وسائل عسكرية مدمّرة، أدّت إلى سقوط عشرات آلاف الشهداء من المدنيين الفلسطينيين، وإلى إصابة عشرات الآلاف الآخرين، وإلى دمار هائل في البنى التحتية بمختلف أنواعها.

البعض الآخر نظر إلى تصريح ترامب بأنه مجرّد شطحة من شطحاته المعتادة، وأنه مجرّد هرطقات لا تمتّ للواقع بصلة، وأنه من شبه المستحيل أن يتحوّل في يوم من الأيام إلى واقع حقيقي، إذ إنه يحتاج إلى تدخّل عسكري مباشر من الولايات المتحدة، وهو أمر في حال حدوثه سيشكّل انقلاباً على سردية ترامب المعروفة، والتي تدعو إلى وقف النزاعات العالمية، وإلى سحب فتيل التوتّر من الكثير من المناطق حول العالم، على غرار ما يجري في أوكرانيا، أو الصراع في منطقة الشرق الأوسط، والذي يأتي في المقدّمة منه ما حدث في قطاع غزة، وما ارتبط به من مواجهات عسكرية في ساحات أخرى في الإقليم.

الكاتب في صحيفة هآرتس الإسرائيلية "أوري مسغاف" وصف تصريح ترامب بأنه مجرّد هذيان معتاد، وأنه لا يوجد له رصيد على أرض الواقع، وأنه لن يكون هناك ترحيل لأهالي القطاع بسبب عدم وجود خطة لذلك، ولا أيّة أعمال تحضيرية متعلّقة بها، وأنه من المهين للذكاء أن يتمّ التعامل مع هكذا تصريح بنوع من الجدّية. 

من ناحيته قال رئيس الوزراء الصهيوني السابق إيهود باراك أنه لا يؤيّد الحديث عن الأوهام، وأنّ هذا الحديث مجرّد محاولة لتخويف الحكّام العرب، ودفعهم لتقديم حلول لمعضلة قطاع غزة الذي بات يشكّل خطراً كبيراً على أمن "الدولة" العبرية، خصوصاً بعد هجوم صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر.

وبعيداً من التعليقين السابقين اللذين يشبهان آلاف التعليقات التي صدرت حول هذا الموضوع، فإنّ ما صدر عن الرئيس ترامب يمثّل من وجهة نظري توجّهاً عامّاً لدى الكثير من المؤسسات الأميركية، والتي في معظمها تؤيّد وإن بشكل غير مُعلن توجّهات الإدارات الأميركية المتعاقبة، بل وتحدّد في كثير من الأحيان توجّهاتها، وتسيطر على مجموعة من القرارات الحاسمة والمتطرّفة التي تصدر عنها. 

وهذه المؤسسات يُشار إليها بالبنان في كثير من الأوقات، وتتمّ تسميتها بالدولة العميقة، وهي بحسب الكثير من الدراسات عبارة عن مجموعة من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، تديرها شبكة معقّدة من المسؤولين العسكريين، والاستخباراتيين، والسياسيين، ورجال الأعمال، والمصالح الخاصة، وتتمتّع بنفوذ هائل على مستوى صنع القرار على المستويين الداخلي والخارجي. 

بالرجوع إلى بعض الدراسات والتقارير الصادرة عن مراكز بحث مختصة، يمكننا أن نرى حجم وأهمية تلك المؤسسات، ومدى تأثيرها على عملية صنع القرار في الولايات المتحدة، سنشير فيما يلي وباختصار إلى بعضها:

1. الأجهزة الأمنية والعسكرية: وتشمل أجهزة المخابرات، ووكالات الاستخبارات، والمؤسسات الأمنية والعسكرية، والتي غالباً ما يكون لها نفوذ قوي في السياسات المتعلقة بالأمن القومي.

2. الشركات متعدّدة الجنسيات: إذ تؤدّي هذه الشركات الكبرى، إلى جانب البنوك دوراً مهماً في التأثير على السياسات الاقتصادية والتجارية من خلال التمويل والضغوط الاقتصادية.

3. القضاء والبيروقراطية: يعتمد النظام القضائي والمستويات البيروقراطية العليا على استمرارية المؤسسات والأنظمة القائمة، وقد تؤثّر على السياسات بطرق غير مرئية.

4. المؤسسات الإعلامية: والتي بدورها تعمل إلى جانب مراكز الأبحاث التي تدعمها جهات نافذة على تشكيل الرأي العامّ بما يتماشى مع أجنداتها الخاصة، وتوجيه النقاشات السياسية.

ما سبق من مؤسسات، إضافة إلى أخرى لا يتسّع المجال لذكرها، تقوم بدور مهم ربما يفوق في بعض الأحيان دور الرئيس نفسه في رسم السياسات الاستراتيجية للإمبراطورية الأميركية، وتعمل على تشكيل وصياغة السياسات قصيرة وطويلة الأمد بعدة طرق منها:

التحكّم بالقرارات الأمنية والسياسية المتعلّقة بالعلاقات الدولية، والتدخّلات العسكرية، والتأثير على السياسة الاقتصادية من خلال الشركات الكبرى والبنوك، التي تستخدم اللوبيات والتبرّعات السياسية، بالإضافة إلى توجيه الإعلام والرأي العامّ وتشكيل سردية معيّنة تخدم مصالحها.

على كلّ حال، وبعيداً عن الغوص كثيراً في تفاصيل صناعة القرار الأميركية ولا سيّما تلك المثيرة للجدل منها، والتي تؤثّر في كثير من الأحيان على مناطق عديدة حول العالم، فإننا نعتقد بأنّ كلّ ما يجري هو عبارة عن عملية منظّمة ومدروسة تهدف في الأساس للحفاظ على المصالح الأميركية، والتي يأتي في المقدّمة منها الحفاظ على أمن "الدولة" العبرية في المنطقة والعالم، والتي يُنظر إليها أميركياً بأنها رأس حربة متقدّمة في مواجهة دول وشعوب المنطقة، وخصوصاً تلك التي ترفض الوصاية الأميركية والإسرائيلية، وتسعى إلى العيش بحرية وكرامة كما كلّ شعوب العالم.

وبالتالي نحن نعتقد مرة أخرى أنّ كلّ ما صدر عن الرئيس "المجنون" ترامب، وما سيصدر عنه خلال الفترة المقبلة، والتي يُتوقّع أن تكون حافلة بالمفاجآت، هو عبارة عن قرارات وتوجّهات صادرة عن كبرى المؤسسات الأميركية المعنية برسم السياسات الأميركية، والتي تقودها الدولة العميقة، وهذه الدولة لا تتأثّر بهوية هذا الرئيس أو ذاك، بقدر تأثّرها بالحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية والأيدلوجية، والتي تُستخدم من أجل المحافظة عليها الكثير من الأدوات والوسائل والتي من بينها السمات الشخصية للرئيس حتى لو كان مجنوناً. 

ختاماً يمكننا القول إنه وبغض النظر عمّا إذا كان هذا التوجّه "الترامبي" سيتحوّل إلى حقيقة واقعة أم لا، فإنّ شعبنا الفلسطيني بكلّ أطيافه، وتوجّهاته، سيرفضه بكلّ قوة، ولن يسمح له بالمرور مهما كلّف ذلك من ثمن، فهذه الأرض التي عُمّدت بدماء وأشلاء عشرات آلاف الشهداء خلال تاريخها الطويل، والتي تسيّجها تضحيات هائلة ما زالت تُقدّم على مذبح الحرية والاستقلال حتى الآن. 

هذه الأرض لن تكون في يوم من الأيام الأرض البور التي تنعق فوقها غربان شذّاذ الآفاق من المتطرّفين والمجرمين، وإنها ستنهض رغم حجم الدمار الهائل من جديد، لتعيد بناء ما دمّره الاحتلال، ولتثبت مرة أخرى للعدو والصديق أنّ بإمكان الكفّ الفلسطيني أن ينتصر على مخرز بني إسرائيل، وأنّ الدم بإمكانه أن يهزم السيف، حتى لو كان السيف عبارة عن رئيس أميركي أحمق ومتطرّف أو دولة عميقة تديرها مجموعة من اللصوص والمجرمين.