طوفان الأقصى… العراق بين سوريا وتركيا مجدداً
الوصول إلى حلّ في العلاقات التركية السورية من الصعب تحقيقه في المرحلة الراهنة لمجموعة من الأسباب المترابطة مع بعضها البعض انسجاماً أم تناقضاً، ومن المبكر أن نصل إلى نتيجة قريبة قبل انتهاء الحرب في غزة ومعها الحرب في أوكرانيا.
بدأت ملامح جديدة تطلّ على مستقبل منطقة غرب آسيا بمثابة مقاربات متجدّدة للوصول إلى استقرار سياسي أمني عسكري، يتيح لـ "إسرائيل" التقاط أنفاسها بعد خوضها لأطول الحروب منذ أن تمّ تأسيسها عام 1948، فعملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من معارك مستمرة على جبهاتها المتعدّدة دفعت بالنظام الغربي أجمع للوقوف المباشر معها لمنع انهيارها الكلي، وإيصالها إلى حافة انتصار يزيل آثار انهيار الردع الإسرائيلي الذي سينعكس حتماً على تسريع آليات التآكل الداخلي لـ "الدولة".
قد تكون أهم الملامح التي بدأت بالظهور هي ما أطلقها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني عن سعي العراق للوصول إلى توافق سوري تركي ينطلق من ضرورات تحقيق الاستقرار في المنطقة، في عودة للمحاولات القديمة التي بدأت بها كلّ من روسيا وإيران قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية التي جرت عام 1923، للجمع بين رئيسي البلدين.
لكنّ إصرار الرئيس السوري بشار الأسد على الانسحاب التركي من المناطق التي احتلّتها أنقرة في شمال سوريا، وإيقاف دعم الجماعات الإرهابية قبل أي لقاء أفشل مشروع إنجاح التوافق الإعلامي بين البلدين، ويبدو واضحاً الآن أن هناك بيئة سياسية جديدة بدأت بالتشكّل بعد تضعضع القيمة الاستراتيجية لـ "إسرائيل" والتي تتيح المجال من جديد للعمل على إيجاد حلّ ما للعلاقات السورية التركية.
كان الموقف السوري واضحاً من لحظة إطلاق المحاولات الجديدة بعد أن أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني عن عمل بلاده على حلّ الخلافات السورية التركية الواسعة والعميقة، فكان الردّ السوري على لسان وزير الخارجية السوري فيصل المقداد واضحاً، في المؤتمر الصحافي مع وزير الخارجية الإيراني بالوكالة علي باقر كنِّي بالإصرار على الشروط السورية نفسها، وتمّ تأكيدها من جديد بالاتصال الهاتفي بين رئيس الوزراء العراقي والرئيس السوري، ومع ذلك فإن الأخبار تسرّبت عن قرب لقاء وفدين من تركيا وسوريا في العراق، بما يوحي من جديد بقرب إطلاق آليات التفاوض وسط بيئة مختلفة عمّا قبل عملية "طوفان الأقصى" التي ساهمت بخسارة حزب العدالة والتنمية لانتخابات مجالس المدن التركية.
لا يأتي تحرّك العراق من فراغ وهو الذي ما زال يعاني من تداعيات حروبه منذ عام 1980 واحتلاله أميركياً منذ عام 2003، فهو قد تحوّل إلى ساحة صراع إقليمية ودولية بعد أن عجزت الولايات المتحدة عن الإمساك به كلياً في مشروعها الاستباقي لمنع بروز القوى المناهضة لها، فالعامل الداخلي حاضر بقوة للوصول إلى الاستقرار في العراق الذي لا يمكن أن يتحقّق إلّا بوجود بيئة إقليمية متوافقة على إطار المصالح المشتركة، التي تفترض من الجميع أن يصلوا إليها بديلاً عن الصراع، وحال سوريا مثل حال العراق تحوّلت إلى كارثة مهدّدة بالفيض إلى جوارها الإقليمي وقد ظهرت ملامح ذلك الفيض، وهي بالتالي ضرورة للعراق بأن يخرج من إطار كارثته، وخاصةً أن البلدين يتشاركان بالتهديدات نفسها وعوامل التدخّل الإقليمي نفسها بفعل الهويّات المركّبة في البلدين.
ولا يغيب العامل الإقليمي والدولي عن الدفع بالعراق كي يتولى مهمة الوساطة بين البلدين، فأغلب الأطراف لها مصلحة باستقرار سوريا شريطة أن تُحقّق حالة من التوازن بين الأطراف الإقليمية والدولية، عدا عن أن تركيا تتعرّض لاستمرار انهيار عملتها الوطنية مقابل الدولار وتضخّم حالة المديونية واضطرارها إلى الذهاب نحو البنك الدولي لطلب قرض بقيمة 30 مليار دولار، وما يعنيه ذلك من وضع نفسها تحت رحمة شروط قاسية للبنك ذات بعد سياسي من بوابة الاقتصاد.
أدّت الجغرافيا السياسية لكلّ من سوريا والعراق دوراً مهماً في بدء تغيير زوايا الرؤية الإقليمية والدولية لدور المنطقة، فهما من هذه الناحية ضروريان جداً لكل المشاريع الكبرى التي يتم العمل عليها لدرجة الصدام فيما بينها، وخاصةً المشروع الأوراسي لروسيا التي يهمها بشكل أساسي محور شمال جنوب للربط بينها وبين دول الخليج عبر تركيا وسوريا، ومشروع الصين في "مبادرة الحزام والطريق" متعدّد الممرات، وقد يكون أهمها محور شرق المتوسط إلى شانغهاي، مقابل الولايات المتحدة التي تعمل على إفشال كليهما بمشروعين بديلين.
الأول هو ممر شرق-غرب الهندي إلى حيفا في فلسطين المحتلة عبر السعودية والإمارات، والآخر هو شمال-جنوب مشروع التنمية الذي يربط دول الخليج عبر العراق إلى تركيا ثم إلى أوروبا.
والذي حصل بعد عملية "طوفان الأقصى" وتداعيات حرب الإبادة الغربية لأهل غزة التي فشلت في تحقيق الأهداف الجيوسياسية للنظام الغربي، هو بروز محور المقاومة كصاحب دور رئيسي في تحديد المسارات المستقبلية لكل منطقة غرب آسيا، بعد أن أمسك بشرق المتوسط والبحر الأحمر وبحر العرب، بالإضافة إلى منطقة الخليج وحتى المحيط الهندي، وأصبح من الصعب جداً أن يتم تجاوزه في أيّ تسوية دولية وإقليمية، وتحوّل إلى شريك فعّال مع روسيا والصين بدفع الأميركيين لتقليص وجودهم في منطقة غرب آسيا التي كان من المفترض أن يقلّصوا وجودهم فيها مع استمرار السيطرة للتفرّغ للعدو الأساسي وهو الصين.
نتيجةً لمجمل التطوّرات التي حصلت بعد السابع من أكتوبر توسّع هامش الحركة لقوى المقاومة وأصبح صوت فِعلها عالياً بفعل نجاح تراكم الإنجازات النوعية في كل الساحات التي تخوض فيها القتال مع النظام الغربي مباشرةً، كما في اليمن والعراق والجزيرة السورية، أم بشكل غير مباشر مع "إسرائيل" التي تُعتبر دُرَّة تاجه، وهذا ما انعكس على سوريا التي حدّدت مستوى انخراطها في القتال المستمر إلى أدنى مستوى، وبقيت في مستوى الداعم والوسيط تسليحياً لقوى المقاومة في جنوب لبنان والضفة الغربية، ما أتاح لها مكاسب مُضافة باعتبارها عقدة الاستقرار الإقليمي أو الاضطراب.
فتراجع المشروع الأميركي إلى الخلف في السويداء، وأُلغي مؤقتاً مشروع ربط منطقة التنف بجبل العرب وحوران والقنيطرة، وتدفّقت مياه نهرَي الفرات ودجلة إلى العراق وسوريا مع افتتاح جسر الرقة المدمّر أميركياً، مع إلغاء انتخابات المجالس المحلية في منطقة الجزيرة السورية، بما يوحي بقرب انفراجات إقليمية من البوابة السورية كثمرة من ثمار عملية "طوفان الأقصى".
هل ينجح العراق في تحقيق التقارب السوري التركي؟
لا شكّ في أن العراق ليس وحيداً في مسعاه لإعادة العلاقات السورية التركية إلى حدودها السابقة قبل انفجار الحرب في سوريا، ولكن أمامه كتلة من المشكلات الكبيرة بين البلدين، فهناك احتلال واسع لأهم أراضي سوريا في الشمال يناهز 9% من المساحة الإجمالية لسوريا من دون إقحام مشكلة لواء إسكندرون بعد ما يقارب تسعة عقود، بالإضافة إلى الجماعات الإسلامية المسلّحة التي تملك السلطة عليها جزئياً بالتشارك مع الولايات المتحدة، عدا عن وجود مجموعات إيغورية من الصين وقوقازيين من آسيا الوسطى، فما مصير هؤلاء وهم بعشرات الآلاف مع عائلاتهم، والسؤال الأهم هل تستطيع تركيا التنازل عمّا حققته بين السوريين حيث هناك قرابة 8 ملايين سوري يعيشون في تركيا مباشرةً أو في مناطق سيطرتها واحتلالها بالشمال السوري، وهؤلاء بغالبيتهم تعدّهم قوة نفوذ في مستقبل سوريا أمام أيّ تسوية دولية وإقليمية راعية لإخراج سوريا من كارثتها.
والأمر لا يتوقّف هنا فهناك التغيير الديمغرافي الذي تعمل عليه حتى الآن ورهانها في النجاح على عامل الزمن، فماذا سيحلّ بما أنجزته على هذا المستوى وخاصةً منطقة عفرين كنموذج واضح، والسؤال الأهم ماذا سيحلّ بالكرد الذين يعدّون أنفسهم أصحاب قضية مرمية على هامش العلاقات التركية السورية في حال تمّ الاتفاق بين البلدين، وهم أنجزوا لأنفسهم الكثير من مراكمة الأوراق التي لا يمكن استبعادها بسهولة بعد أن تجذّرت منذ عام 2014-2015 بعد القضاء غير التام على تنظيم "داعش" بالشراكة مع قوات الاحتلال الأميركي، كما أنهم استطاعوا أن يحوزوا على الجزء الأساسي من الثروات السورية في مجالي النفط والزراعة، وأسسوا مجتمعاً مدنياً لديه 230 ألف موظف من دون أسرهم.
الواضح أن الوصول إلى حلّ في العلاقات التركية السورية من الصعب تحقيقه في المرحلة الراهنة لمجموعة من الأسباب المترابطة مع بعضها البعض انسجاماً أم تناقضاً، ومن المبكر أن نصل إلى نتيجة قريبة قبل انتهاء الحرب في غزة ومعها الحرب في أوكرانيا، والبدء بمفاوضات يالطا جديدة للقوى الفاعلة إقليمياً ودولياً بما يعني الاعتراف بواقع دولي جديد، ولكن لا بدّ من المحاولة والعمل على اليوم التالي لوقف إطلاق النار من الآن، فمن يملك مشروعاً يمكنه وضع الخطوط العامة للصراع بما يحقّق أهدافه البعيدة، ولا بدّ للعراق وسوريا من أن يتكاملا بما أمكن إذا أرادا ذلك استعداداً للحظة الفاصلة لنشوء نظام إقليمي مشرقي جديد قادر أن يختزل الصراعات فيه ويحوّلها إلى فرص إيجابية بنّاءة لصالح شعوبه.