صحوة الجنوبي المحاصَر: غزة مرآة للتغيرات السياسية

تتسع دائرة نبذ الصهيونية في الجنوب العالمي، عند شعوب وحكومات جنوب شرق آسيا وأميركا الجنوبية، وتوالَى قطع دول الأخيرة العلاقات مع "إسرائيل"، والانضمام إلى الدعاوى القانونية الدولية لإدانتها.

  • بعيون أميركية: الجنوبيون نحو الغليان.
    بعيون أميركية: الجنوبيون نحو الغليان.

انطلقت معركة "طوفان الأقصى" في سياق تاريخي، عربي وإقليمي، يوازي تغيراً للنظام العالمي، بأبعاده: الهيكل ذاته والتفاعلات داخله وطبيعة الفاعلين. ويشمل تغيّراً إقليمياً، وحيوية واضحة لقوى مثل إيران، رأس محور المقاومة، وقطر، وحركات اجتماعية وسياسية دون الدولة، لعبت أدواراً فارقة في الإقليم وإن ندر تحقيقها وحدها - حتى الآن - "حسماً" لصراع أو آخر. 

عربياً، كانت الكتلة الخليجية اختتمت دورة صراع متباين الدرجات والبواعث مع دول تُعد (غير راضية)، وضعتها عملياً محلّ المهدد للأمن القومي العربي، سوريا وليبيا ثم إيران واليمن، ختاماً بقطر ذات الحالة الخاصة. وانتهى المشهد بمجيء بايدن عام 2021، بموازاة مصالحة قطر، وانقضاء مشروع ترامب، صفقة القرن، بشراكة عربية وإقليمية. رغم ذلك، جارَت السعودية مسار التطبيع، لكن بإيقاع أبطأ، مقابل سرعة الإمارات وتوقيعها الاتفاق الإبراهيمي، وبدا الأمر انعكاساً لتسديد الأولى ثمناً مرتفعاً لترامب - الراحل - لم يردع إيران كفاية، ولسعيها لدور قطبي في الصياغة الجديدة للمنطقة، قد يكفل الاحتفاظ بورقة التطبيع تحقيقه مقابلها. 

تحوّلات الحروب والفاعلين

إقليمياً، يمكن تحديد الأعوام بين 2017 و2023 تبلوراً لنهاية هذه الدورة، وقد شهدت نتائج متلاحقة للصراع، ولإخفاق مشروع الغرب في سوريا، وتجارب "الربيع العربي". وتوّجتها المصالحة الثانية، الأهمّ، السعودية الإيرانية، وعودة العلاقات السعودية -السورية وتثبيت هدنة اليمن، عام 2023. 

لكن النتائج شملت تحوّل حماس إلى إعادة التشابك بحلف المقاومة، بعد خلاف سوريا. وإصدارها عام 2017 وثيقة أعادت طرح الحركة إقليمياً ودولياً، بصيغة أكثر ملاءمة للقانون الدولي، ومن باب فلسطيني خالص. بقبولها دولة على حدود 4 حزيران، وتثبيتها الحق في كل فلسطين والعودة، ورفض منطق أوسلو للتسوية.

وانتُخب القيادي الجذري يحيى السنوار قائداً لحماس غزة، عام 2021، الذي شهد معركة سيف القدس، حين استُخدمت الصواريخ لكبح التصعيد الإسرائيلي في الضفة، الذي واجهته تحركات واشتباكات وعمليات، وتحديداً في القدس: الأقصى، وحي الشيخ جرّاح بأهميته للفلسطينيين، بموازاة تحركات شعبية واسعة في "إسرائيل" والأردن. 

على المستوى المحلّي، التاريخي، تجاوزت المواجهة الكبيرة والمشاركة اللبنانية فيها، بالصواريخ، نموذج الانتفاضة، إلى نمط جديد لـ"الحرب"، يوافق تصوّر محور المقاومة عن "وحدة الساحات" لتقويض الاحتلال. ومثّلت المعركة مؤشراً لأميركا والمملكة والمشاركين في مسار التطبيع (بعد ترامب)، أن تثبيته قاعدة لدورة تعاون إقليمي مأمول، تنقصه إجازة شعبية فلسطينية، يسعى لتمثيلها سياسياً فاعل طَموح، فصائل القطاع ذات الجماهير في الضفة، رغم انقسام الكتلة السكّانية داخل فلسطين، جغرافياً، في المناطق الإسرائيلية.

فيما سعت سياسة محور الاعتدال، السعودية والإمارات وأغلب مجلس التعاون ومصر والمغرب، والأردن مع الاختلاف، لعلاقات تحكمها تفاهمات مصالح، لا تحالفات كاملة نهائية، ولاستغلال الصعود الصيني، والتخفف الأميركي من المنطقة، لوضع مقاربة للعلاقة بإيران، وحلفها الممسك بنقاط جغرافية هامة، وبالغرب. 

من هنا، شهد عام 2022 اتفاق الشراكة الصيني- السعودي، وموقف المحور من أوكرانيا، المخالف للمتوقَع من حلفاء الغرب، جوار قمّة النقب واتفاق التجارة الحرة الإماراتي- الإسرائيلي.

وصولاً إلى طلب السعودية إطلاق برنامج نووي سلمي مقابل التطبيع، والمصالحة مع إيران، ثم مشروع الممر الاقتصادي (الهند الشرق الأوسط أوروبا) ــ بديل قناة السويس المفترَض. تحولاتٌ عنوانها انفراج عربي إقليمي بظهير دولي، وسعي متبادل لتصفير المشكلات، وإن لم تنجز حلولاً لنقاط ظلّت ملتهبة.

الآن يظهِر حديث بايدن عن تنفيذ حماس هجوم أكتوبر لعرقلة مشروع تطبيع سعودي-إسرائيلي برعايته، صعود الحركة فاعلاً مؤثراً، وقرارها بتطوير مشروعها للتمثيل السياسي للفلسطينيين، بعد فشل المفاوضات مع فتح لإجراء الانتخابات التشريعية. ومع استطاعتها وحلفائها تقويض أمن "إسرائيل" واقتصادها، واقتصاد الإقليم حال اتّساع المواجهة، عطّلت، بالضربة وتوقيتها، مشروع محور الاعتدال لإقامة توازن علاقات مع إيران وأميركا.

وتسعى، بزاوية عملية يطرحها الواقع، للإفادة من مشروع الانفراج وتبريد التناقضات، العربية والعربية الإقليمية، نحو إجماع على فلسطين. وتعيد طرحها قضية أهمّ، تتقاطع، بطبيعتها وبمكوّنات محور المقاومة، من اتجاهات عديدة مع الخليج وحلفائه والنفط وممرّاته. وتعكس - بأبعادها - معضلات مثل السيادة ومفهوم الأمن الاقتصادي واللاجئين، ودور وحدود فاعلية القانون الدولي، وعلاقة الهيمنة الغربية بشعوب الجنوب العالمي.

في هذا السياق التاريخي والجيوسياسي، يقرأ النص ملمحين لتداعيات المعركة وخصائصها، أحدهما أيديولوجي، في الوعي، والآخر مادي ملموس. ويقارب ارتباطها، وأبرز فاعليها، بسكّان الجنوب العالمي (دول الأطراف) ودول شبه الأطراف، من زاوية واقعهم وتناقض مصالحهم مع القوى المهيمنة، بحكم موقعهم في تقسيم العمل الدولي تحت تأثير الهيمنة والاحتكارات.

بعيون أميركية: الجنوبيون نحو الغليان

سرعان ما انتهى مشروع الانفراج وتبريد التناقضات، بالفصل الجديد للتأزّم الإقليمي وتداعيات "طوفان الأقصى". واللافت أن بقاء النقاط الملتهبة، وعوامله، حاضر في ذهن منظومة الهيمنة.

إذ يصف تلك العوامل تقرير (مستقبل الحرب وقدرة أميركا الاستراتيجية) لمعهد دراسات الحرب ISW، الصادر عام 2021. ويعرض السياق المنتج للاضطرابات في البيئة الاستراتيجية والأمنية، وقراءة لواقع العلاقات الدولية، كلياً، بصفته انعكاساً لمركّب يشمل الشعوب، والديموغرافيا، و"القيمة" بالمعنى الاقتصادي، برؤية عملية بصرف النظر عن صوابيتها أو عدالتها. 

خلاصة التقرير أن العالم يعيش ذروة تغير للعصر الحالي، سيزداد قدْره وسرعته بشكل يضغط قيادات ومؤسسات الأمم، والبيئة الأمنية العالمية، ويرفع احتمالات الحروب والنزاعات.

وأوصى بمقاربة تجادلت "إسرائيل" وأميركا بشأنها مؤخراً، حين طلبت الأخيرة أهدافاً محددة في غزة واستهداف المقاومة لا المدنيين. وهي تناوُل الحرب مستقبلاً وفق محددات أو مهارات غير قتالية: تحديد أهداف معقولة متجانسة حال استخدام القوة، ثم وضع الخطط (العسكرية وغيرها) وفقها، وخلق قدرات تنظيمية لترجمة القرارات الاستراتيجية عملياً، وأخيراً حفظ الشرعية بالتشدد في قصر استخدام العنف على الأهداف "المشروعة".

مع السابق، طرَح 3 اتجاهات أساسية تخلق الاضطراب عالمياً، وعبّرت عنها "طوفان الأقصى" لاحقاً، من عدّة جوانب، واصطدامها بالنظام العالمي. أولاً تنافُس عدة أطراف مع أميركا، وتراكم فعالية وتحرّكات القوى المضادة لهيمنتها (الصين وروسيا وإيران)، وحركات معادية للنظم، وجميعها تقوّض الآليات السائدة المفيدة لها. وثانياً، غياب طرف "قائد" للنظام العالمي ــ خفوت سيطرة القطب الواحد، وغياب التحكم والانضباط المطلوبين للاستقرار. 

الثالث ويستحق التفصيل، المرحلة الحالية للثورة الصناعية، أي الانتقال إلى الثورة الصناعية الرابعة، وقد تبلورت بنهاية الحرب الباردة. إذ تجلب الفترات الانتقالية، بين مراحل التطور تلك، تحديات للأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحاكمة، وطالما شهد التاريخ تغيرات جسيمة فيها، بسرعة أربكت المنظومات والقيادات والأفراد. 

تشهد الحالية - تحديداً - لا مساواة مطردة في قوة العمل، داخل دول كثيرة وبين الدول نفسها. وتتّسع الهوة، محلياً، بين أجور شديدة الانخفاض للعمالة غير الماهرة، الأكثر عدداً، وأجور مرتفعة للعمالة الماهرة.

بموازاة ديناميكية مشابهة أوسع، عالمية: اقتصادات متطورة متعايشة ومناطق أخرى غير مواكبة، وكلما اتّسعت الهوة زادت احتمالات الاضطراب الاجتماعي والصراع. خاصةً وقد بات الناس أكثر إدراكاً لتناقض ظروف المعيشة بين البلدان، وحائزين، بفضل منجزات الثورة الصناعية الرابعة نفسها، معلومات وأدوات (قوة) يمكن استخدامها لمواجهة سلطة النظام العالمي، الطرف الأقوى والمنتج الأصلي لهذا التطور. مع تغير طبيعة ومفهوم الحرب نفسها، وتطوّر أدواتها المكافئ للتطور العلمي.

الخلاصة: بيئة ووسائل جديدة للحرب، وهامش حركة أوسع لأطراف تمدّها التكنولوجيا الجديدة بأدوات فعل نوعية. كأن الأمر يصف الخروج الكبير إلى غلاف غزة، بعد حصار قاتل يصاحبه اكتظاظ سكاني، أو ضربة اليمن لأرامكو وقت حرب التحالف الخليجي عليها، وصراع الإرادات الحالي في البحر الأحمر بحصار تجارة "إسرائيل". 

دعوة إلى تيار رئيسي جديد 

سابقاً، كانت المحصّلة السياسية للإجماع الشعبي العربي، التقليدي، على دعم فلسطين، ذهاب القوى التقليدية العربية، المعنية تاريخياً بحفظ "الأمن القومي العربي"، إلى المبادرة السعودية للسلام منذ عام 2002، مع تحفّظ سوريا، ومضمونها دولة فلسطينية مقابل اعتراف وتطبيع، من دون فائدة أو تراجع إسرائيلي لعشرين عاماً. بل تصاعدت قوة اليمين الصهيوني المتطرف اجتماعياً وسياسياً، وتعاطت تلك القوى مع ترامب لمنح التطبيع مقابل جيوب استثمارية وسكنية منفصلة، لم تكن لتنتج حلاً حقيقياً. 

الآن يمثّل الطوفان الإجماع الذي توارى خلف انقسامات "الربيع العربي"، مفتقداً لأدوات وروافع تنقله إلى الفعل وتستثمر مشروع غزة المحررة، القادرة على بناء تراكم قوة ذات أساس اجتماعي وشعبي، مقابل غياب تراكم قوة عربي تجاه أكبر إجماع للعرب، القضية الفلسطينية، التي تتجلّى الآن قضية "أرض" وسيادة بالتعريف، ثبت استحالة حلّها بنموذج الحكم الذاتي كما تفضله "إسرائيل"، أي سلطة أوسلو. وتبدو عودة الإجماع عليها استجابة (عربية وإسلامية بالأساس) للمعركة، بحجمها وطبيعتها، ومقدمة لتشكّل تيار رئيسي في الإقليم والعالم، بالمعنى السياسي.

تتضح ملامح التيار الجديد في عدّة توجهات، أبرزها تمسّك الأطراف الإقليمية الأكبر بمبدأ إقامة دولة فلسطينية، وإطلاق مشروع سياسي فلسطيني جديد، مع اختلاف زوايا وأسقف تطبيق ذلك، وتباين أهداف كل طرف ومحور (الاعتدال - المقاومة) منه، وتصوراتهم لعوامل "سيادة" تلك الدولة. هو مبدأ لا يحتاج تبنّيه إلى موقف جذري من ظاهرة الاستعمار، قدر ما يكفله القانون الدولي، المظلّة المطالَبة بحفظ أمن العالم واستقراره بالمعنى الاقتصادي والاستراتيجي، للوقاية من تداعيات ونزاعات قد تعيد تشكيل النظام العالمي. وفي الخلفية يتجلّى تطور وسائل الاتصال ونقل الصورة، وشراسة "إسرائيل" الوجودية في ضرب غزة، العبء الأخلاقي لاحتلال الشعوب، الذي تحايلت عليه المنظومة السياسية الغربية طويلاً، وتواجه الآن نسخته الأصعب، على الهواء مباشرةً، مع تكتل دولها الأقوى خلف شعار "تثبيت وضع إسرائيل". 

طرحت تداعيات المعركة سؤالاً تأسيسياً عن تعريف الأمن الإقليمي للمنطقة، وحفْظه، مع إدراك شعوب المنطقة تشابك "إسرائيل" بعشرات الملفّات، من سوريا إلى شمال العراق والخليج واليمن وإثيوبيا، وعربدتها في إبادة الفلسطينيين، التي تنعش الوعي التاريخي لسكان المنطقة أولاً بأول، وتمثيلها مصالح منظومة الهيمنة تاريخياً وبلا انقطاع.

منظومة يحفظها الأثرياء الآمنون ونفوذهم السياسي، وتكنولوجيا سلاحهم، واحتكارهم وضع القواعد والمعايير، الفاقدة بوضوح للعدالة والاتّساق، وتأثيرهم الطاغي على الإعلام وتشكيل الأفكار السائدة، وحتى على الاحتكام للعنف في الصراعات، ومداه أو عدمه. 

السؤال تثيره بعض أكثر الشرائح العربية معاناة من اللاتكافؤ في بلادها، بسبب طبيعة الاقتصاد العالمي بالأساس، أو تفكك أجهزة دولتها، واستخدام بنيّة الهيمنة الحصار وأزمات الحكم والاضطراب السياسي، لمواجهة تعارض مصالحها الجيو سياسي، مع تلك الشرائح والقوى ــ 

لدول الصاعدة وغير الراضية الحليفة لها، مثل الصين وروسيا وإيران. نموذج يجمع اليمن والعراق ولبنان وسوريا، مع أفقر شرائح الفلسطينيين وأكثرها تعرضاً للاضطهاد، نتيجة خيارها السياسي ومفاعيل القضية الفلسطينية نفسها: سكان غزة. أبطال الإقليم والجنوب الجدد، في مواجهة كل ما يواجه مهمّشي العالم، العقاب الاقتصادي والجوع، وأدوات العنف والمراقبة المتطورة ومصادرة القرار السياسي.

كذلك يتصاعد توجه إقليمي شعبي آخر ضد "إسرائيل" ذاتها، ببقاء الفلسطينيين ونضالهم، بالأساس، وتصاعد الدعم المسلّح لهم وللطوفان، إذ تبدو الصهيونية، بنسختها الحالية الفجّة ورفضها أي سيادة لدولة فلسطينية، أو حتى وقف قضم الأرض، تهديداً للجميع. وقد أمكن ردعه وتقويضه عملياً منذ عام 2000، وتطوّر إمكان لإضعافه، رغم تشتت القوى العربية، وحتى مع انتماء الأطراف العربية الأكبر لمعسكر الاعتدال، نهايةً بهزيمته عام 2006 في لبنان. وتبلوَر فشل تلك الأطراف، والمنظومة الأمنية للاحتلال، سياسياً وأمنياً، في منع أو إجهاض تسلّح غزة (رغم إجراءات كامب ديفيد في سيناء)، وفي استيعاب الطرف الفلسطيني الأقوى، حماس ذات التمثيل الشعبي المعتبر، التي قادت المقاومة في الانتفاضة الثانية، 

يعد قطاع كبير من جيل الشباب والرجال العرب حالياً الخام الرئيسي لهذا التيار، وقد عايشوا، في الطفولة والصبا، التعاطف الشعبي الواسع مع القضية عام 2000، وموجة المواجهات والعمليات الاستشهادية واغتيال ياسين والرنتيسي. وجاءت تجربة تسلّح غزة، في خلفية الأعوام العشرين الماضية، إجابة لسؤال جماهيري عربي، تردد لسنوات وباتّساع، عن هدف وجدوى طرد سلطة أوسلو والتمسك بالسلاح.

فعكست، مع تكشّف تفاصيلها، نموذج عمل تنسيقي إقليمي، امتد من لبنان وسوريا إلى السودان وسيناء. أدخل عاملاً جيوسياسياً إلى الصراع في القطاع، مع تطور تسليح المقاومة بمساعدة إيران، وكفل، بالمعركة ووحدة ساحاتها، تغيير أحد مكونات المخيّلة العربية والإقليمية السائدة قبلها، ومضمونها أننا - العرب وسكّان المنطقة - من نواجه التهديد الوجودي لا الصهيونية، وبات العكس صحيحاً. لا سيما بعد رد إيران على اغتيال قيادات حرس الثورة، واتّساع رؤية سكّان المنطقة لإمكان تحقيق إجماع حول تناقض رئيسي واضح، مع طرف مارق لا يتمتع بأي روابط بهم سوى التهديد.

يقول تال بيري، رئيس مركز "ألما" الإسرائيلي للدراسات، في تقرير غطّى قصف فصائل فلسطينية شمال فلسطين المحتلة، في نيسان 2021: "يظهِر حزب الله الشيعي وحركة حماس السنية وحدة مصالح، خاصة ضد إسرائيل. بدلاً من أيديولوجية دينية مختلفة، أُنشئت عقيدة أيديولوجية مشتركة - "أيديولوجية فلسطين".

هاجس تضاعف بغضب الرأي العام المسلم، ويصعّد التهديدات المحتملة لـ"إسرائيل"، وبتوسّع حضور حماس في لبنان، وانطلاق نشاط الجماعة الإسلامية اللبنانية مؤخراً. مع انتمائهما إلى تيار عربي كبير، الإخوان، يمثل كتلة من "سنّة" المنطقة بالفعل، مستنداً للفعالية القطرية سياسياً وإعلامياً، وينافس -بالمعنى الملموس -تياراً يؤيد محور الاعتدال. والمحصّلة "إسرائيل" عدو رئيسي أوضح في رأي الدائرة العربية العام، حتى بعد انحسار التيار القومي العربي في الشارع والفضاء السياسي العربيين.

في المشهد الأوسع، توجّه تعكسه دعوة دول وقوى سياسية وشعوب ومؤسسات وأفراد إلى تحقيق تمثيل سياسي للفلسطينيين، وكبح انفلات "إسرائيل" الذي يمثّل - حدّ ذاته - إحدى مفردات الهيمنة الغربية، وانعكاساً لطغيان مصارف وشركات عملاقة ومؤسسات مالية وطبقات حاكمة. تحالفٌ له ضحايا وممانعون ومنافسون، تصاعدت الإجراءات والاحتجاجات ضد وكيله الصهيوني، بعناوين جامعة كبيرة، مثل الإنسانية ومعاداة الاستعمار والحقوقية والإسلام.

تتقاطع تلك العناوين في غزة، مع تكثّف لمفردات قصة فلسطين، ومظلوميتها، قبل الطوفان وبعده: القتل والنزوح وتقويض مقومات الحياة، والحصار ومنع تحصيل واستغلال الموارد، والتهجير وتقطيع أوصال جغرافيا واجتماع الفلسطينيين، ودور سلبي للمحيط الجغرافي (العربي)، العاجز بفعل التبعية لمنشأ المشكلة، المشروع الاستعماري الغربي. 

كأنها حالة نموذجية للعجز العالمي عن فرض الاستقرار، في منتصف العالم، رغم تداعيات وكلفة غيابه هناك، ورغم نخبوية المصالح التي تمثّلها "إسرائيل" في الحساب النهائي، على وقْع تراجع غربي ومزاج عالمي لم يعد يرى الهيمنة الغربية خياراً مطلقاً.

سؤال القوة 

يبدو قرار الغرب الجمعي بتثبيت وضع "إسرائيل" ضرورة لمصالحه، لكنه يصطدم بأكثر معاني الضمير أو الصواب بداهة، مع تصاعد حضور اليمين المتطرف فيها، بالأساس، وشدّ عصبه بعد الطوفان، وتوزيع السلاح ودعوات الإبادة والتهجير. فيتسع ضغط عدّة دول عليها ورفْض للتساوق معها، بأشكال ودرجات مختلفة، بالفعالية الدبلوماسية أو الإجراءات الاقتصادية والسياسية.

تتابُع يصعب تفسيره بمعزل عن فقدان نظامها القوة ــ قياساً للسابق، وتصاعد انقسامات مجتمعها ذات العلاقة بأقوى مؤسساته، الجيش. وواقع الدولة الفاشلة المعاش أمنياً وسياسياً، وغياب جدوى الطابع الليبرالي، الذي يدعم شرعية الكيان الدولية، حيث فرض نتنياهو تقليص صلاحيات القضاء، ولم تعد آلية الانتخابات والائتلاف الحكومي تنتج توافقاً حقيقياً لشركاء السلطة.

ولم يعد للإعلام والحوار المجتمعي والاحتجاج وزناً يُذكر، لتصويب سياسات الحكومة وتقليل خسائر السكان، أو منع المغامرة بمصيرهم، رغم اتّساع التظاهرات. 

ليس هذا الضعف مطلقاً. ويعوضه استنفار دول الغرب الجمعي لدعم الصهيونية، وإقرارها غير المسبوق بإبادة الفلسطينيين وتجاوز كل حقوقهم، والتفوق التكنولوجي للاحتلال واستناده إلى حضور عسكري أميركي. لكن ما يعمّقه، للمرة الأولى، أن طرف المعركة الآخر يملك الأبعد من الدوافع الأيديولوجية، بسلاح كاف لتقويض الاستقرار، وليس مفتقداً لقواعد جغرافية مستقرة، مثل منظمة التحرير سابقاً وارتحالها من الأردن إلى لبنان وتونس.

بل هو ممنوع بالقوة من صرْف حجمه السياسي، مثل ما طاردت المنظمة نفسها حماس وفصائل المقاومة لصالح "إسرائيل"، بعد قيام "الحكم الذاتي" في التسعينيات، حتى قبل حصار غزة.

على العكس، تمثّل فصائل حلف المقاومة قوى شعبية محلية في نطاق جغرافي محدد، ومتجذّرة اجتماعياً، تواجه المنظومة المسيطرة الأقوى بدوافع واقعية ووجودية، مثل تجاوز تشكيل السعودية للتركيبة السياسية اليمنية، أو رفع الحصار عن غزة، أو التمسك بأرض جنوب لبنان قاعدة للدفاع لا منطقة عازلة. وتعطيها الإرادة والتسلّح غير التقليدي الحديث، واستخدام محددات الجغرافيا وواقع الاقتصاد العالمي، وأسلوب الحرب غير المتناظرة، تأثيراً يتجاوز الوزن الناري والكمّي. وقد عجزت مقولات الضمانات الدولية وعملية السلام، وجولات التفاوض اللانهائي، أمام أزمات الإقليم، ولم تعد استقراره، بقدر ما فعل القرار الذاتي لهذا الطرف الأقوى أو ذاك.

وهنا عامل عضوي فارق: هي حركات جماهيرية في بلاد فقيرة، تجد مصلحتها موضوعياً في التجانس مع باقي سكان أوطانها، عكس الاتهام الغربي، لكن بتوجه مغاير للرهان على الغرب والقوى التقليدية العربية.

في واقع اقتصادي يخدم مستثمرين كباراً، بكياناتهم ذات العمليات الاقتصادية الضخمة والنوعية، على مرمى حجر من ملايين المحرومين. تناقض تعيشه جماهير فصائل حلف المقاومة، الأقدم والأحدث نشأة. التي شكّلتها، وآلياتها المحلية، شرائح اجتماعية عربية بصفتها تنظيمات شعبية عضوية، في مجتمعاتها ذات الاقتصاد الطرفي على هامش النظام العالمي، رغم أهميتها جغرافياً وقربها من دول المركز، مع معدّل زيادة سكّانية مرتفع. 

مشهد يجعل استخدام القوة منطقياً بلا مفرّ، وضرورياً عند احتساب العربدة الإسرائيلية غير المسبوقة، لكن المألوفة عند الفلسطينيين أنفسهم. ما انعكس في الإقرار المتزايد عالمياً بحق المقاومة، وخفوت إدانة 7 أكتوبر ذاته، إقليمياً وعالمياً. ولعلّه انعكس قبلها في إعادة التئام حماس بإيران، ومغادرة التقارب مع تركيا، عملياً، نحو مشروع مختلف، بطبيعة وغطاء قوميين ودينيين لا يتّسع لطبيعة ومدى علاقة الأخيرة بـ"دولة" الاحتلال. 

لم تعد مواجهة "إسرائيل" ومنظومة الهيمنة الغربية مع محض "حالة"، أو فكرة، بل مجتمعات حُرمت الدولة الحديثة ومؤسساتها. وثمارها (مثل التنمية والتصنيع) ذات الصلة بشروط هيمنة المركز، باحتكاره لعدّة موارد وللتكنولوجيا الفائقة والمؤسسات المالية الكبرى، ووضع قوانين النظام العالمي الاقتصادية. التي تحفظ وضعها، أسواقاً اعتمادية لا تتكامل ووسائل إنتاج أو بنى خدمية كبيرة، ببنى اقتصادية ضعيفة عاجزة عن الإفادة من تشغيل السكّان في سن العمل.

تجمع سمة مشتركة، وفق نموذج تحليل النظم العالمية، اليمن والعراق ولبنان وسوريا: خضوعهم للتبادل اللامتكافئ مع السوق العالمي ونظامه الاقتصادي، وضعف التحكم في الموارد، وغياب تعبئتها واستثمارها لصالح المستوى المحلّي. بين اقتصاد ريعي، واعتمادية على تصدير مواد أولية، والأنشطة الخدمية والطفيلية وضعيفة الإنتاجية، أو التعرّض لتدخل عسكري مدمّر أو احتلال مباشر أو حرب أهلية، أو حضور عسكري استراتيجي لإحدى قوى الهيمنة يضمن نزحاً للأرباح، أو ترهّل الدولة ذاتها واتّساع الفساد.

بيئة أفرزت انتشاراً للسلاح، وشهدت انعدام استقرار وكسراً للحدود السياسية، آخر عشر سنوات، وقد يفتح هذا نفسه أفقاً لإعادة رسم خريطتها، نحو مشاريع تكامل تسعى - حرفياً - لتأمين ضرورات الحياة، بلا مفرّ من خوض صراع مع المنظومة وقواعدها ووكلائها.

ومن جهة أخرى، ترتبط هذه البلاد، عملياً، بحضور ونفوذ تاريخي لقوى عربية تقليدية، الخليج ومصر والأردن، تحيطها جغرافياً وسكّانياً، وبريوع النفط وتدويرها، وإعادة توزيعها أو تشكيل استثماراتها. فيجعل تعاضدها مع فلسطين المنطقة أمام مشروعين، وتصورين مختلفين عن القوة والعلاقة بمنظومة الهيمنة، بحلول الشهر السابع للمعركة واتّضاح المواقف وحدودها العملية. 

الأول، لدول تسعى لانتزاع هامش استقلال وتنازل من المنظومة بالقوة، ويتّسع لفاعلين طموحين، مثل قطر الأكثر براغماتية والحاضرة لتغطية غزة مالياً، فضلاً عن إيران على يسارها، واليمن الأكثر جذرية، وتنظيمات ــ فاعلون عابرون للحدود أثبتوا جدارتهم العسكرية سابقاً بالقضاء على "داعش"، مثل إثبات المقاومة الفلسطينية جدارتها يومياً.

والثاني محافظ، تمثّله السعودية والإمارات ومصر والأردن، لا يمانع التطبيع، ويفضّل اقتناص حلّ سلمي بتصعيد الضغط الدولي، أو بتغير الإدارة الأميركية، وأن يدعم وزنه في الملف الفلسطيني خطة رخاء اقتصادي، يكون حدّ ذاته جسراً نحو حل مستدام. ويكتفي بالمطالبة بصياغة "حل دولتين"، وتفعيل القانون الدولي ــ المنتقَد لعجزه عن كبح القوة الإسرائيلية بالأساس.

خاتمة

يقول عالم الاجتماع والمؤرخ إيمانويل والرشتاين، إن إحدى سمات القوى المهيمنة احتكارها صياغة "اللغة الثقافية لمناقشة السياسة والقضايا العالمية". أي إطار معرفي معياري وذهنية يحددان القضايا المثارة في العلاقات الدولية والنظام بين الدول، ومنهج تناولها والمفاهيم والأولويات المرتبطة بذلك: ماذا تناقش الدول وبأي تعريفات ومسلّمات يدور النقاش؟ وبالتالي، كثيراً ما يعد استخدام تلك القوى القوة العسكرية علامة ضعف، وسبباً لتدهور الأوضاع وتقويض قوتها الاقتصادية العالمية، لأنه يعكس عجزها عن تحديد اللغة الثقافية العالمية، إذ تجد لغتها المفضلة تقادمت وباتت مرفوضة. وقد استطاعت لفترة وضع قواعد اللعبة في هذا النظام، وتحقيق أهدافها سياسياً بأقل قدر قوة عسكرية ممكن، رغم قوتها الكبيرة.

بهذا المعنى وضع الفاعلون الفلسطينيون وحلفاؤهم القضية على طاولة السياسة الدولية، والنقاش والمجال العامّين، بخطوة استراتيجية (عمليات الطوفان ووحدة الساحات والوعد الصادق)، جددت صراعاً حرجاً وملحّاً، بتداعيات جديدة ونوعية تمسّ أكثر من عصب حساس لبنية النظام الدولي، واقتصاده.

فوجّهت النقاش إلى تجاهلها أصحاب الحقوق، ورسّخ العنف الصهيوني مشروعية انفجارهم، بتراكم مظالمهم. وباتت نتائج اللامساواة، والاستعمار بوجهه الحقيقي الذي شهدته الأميركيتان والعالم الأقدم مع القوى الأوروبية، وتبنّي المطلب الوطني الفلسطيني بالتحرر والتمثيل السياسي، عناوين ثابتة ومحل إجماع، في خطاب ومواقف وإجراءات دول ودوائر سياسية وشعبية.

من جهة أخرى، يوصّف والرشتاين السيادة موضوعاً لنزاع الدول على أراضٍ وحدود، إنها أشبه بعملية مقايضة افتراضية، ويتبادل الطرفان المتنازعان، محتملاً كان نزاعهما أو فعلياً، الاعتراف بسيادة الطرف الآخر، كونه الاستراتيجية "الأقل كلفة" للطرفين.

 بتعريف كهذا يمكن مقاربة "وحدة الساحات". والمرحلة الحالية للكفاح الفلسطيني، السياسي والمسلّح الذي واجه، تاريخياً؛ في مرحلته الأولى، سؤال الشرعية الشعبية، وانتظام الناس في فصائل أو جبهة تمثّل الشعب سياسياً. ثم سؤال "الدولة"، والتفاوض وتوقيع أوسلو وقيام الحكم الذاتي المحدود. ويواجه الآن سؤال السيادة: على دولة الفلسطينيين أن تكون حقيقية، لا مكتب ارتباط بالاحتلال أو كياناً نخبوياً يمثّل مصالحه، وعليها أن تمثّلهم سياسياً بالفاعلين الأكثر شعبية وحيوية، في ضوء إرادتهم ووعيهم التاريخيين، لا وفقاً لقرارات الأمم المتحدة المعطَّلة.

بهذا الوجه انطلق "طوفان الأقصى"، مخلياً مستوطنات الغلاف والشمال، مفعّلاً تراكم قوة وتخطيط وإسناد من جبهات، وبالتالي هزّ كيان "إسرائيل" - لا أمنها وحسب - بأشكال متعددة. نهاية باستجابة إيران لاغتيال قيادات حرس الثورة في دمشق، بإغراق الأرض المحتلة بعشرات المسيرات والصواريخ، تتويجاً لعجز عدة أطراف، على رأسها القانون الدولي، عن منع توسّع الصراعات أو قطع دوائر العنف، وأميركا عن ضبط أداء الاحتلال واستجاباته.

هنا وُضع "حق إسرائيل في الوجود"، بتعبير الغرب الجمعي، موضع تساؤل عند العرب في المنطقة، وبات نقيضاً لسلامتهم كما لأبسط مطالب الفلسطينيين، مثل حق الناس في الحياة (فكّ الحصار)، وأكثرها جوهرية (وقف الاستيطان والدولة ذات السيادة). ويمثّل استخدام السلاح ورفع كلفة الاحتلال خياراً يستجيب لعشرات العوامل، المتّصلة فعلاً بمقولة "الأمن القومي العربي"، مثل تصلّب الاحتلال وتوسّع الاستيطان ومشاريع التصفية، والمتّسقة مع جغرافيا المنطقة وتاريخها، وهويتها ومصالحها العامة.

وبعيداً من منتصف العالم، تتسع دائرة نبذ الصهيونية في الجنوب العالمي، عند شعوب وحكومات جنوب شرق آسيا وأميركا الجنوبية، وتوالَى قطع دول الأخيرة العلاقات مع "إسرائيل"، والانضمام إلى الدعاوى القانونية الدولية لإدانتها، كأنها تعيد التواصل بتاريخ القارة الثوري، وبأحد أهم أعمدته: التضامن التحرري الوطني، الذي جمع تلك الشعوب ومواقفها بأفريقيا وآسيا سابقاً، وتعبّر عنه الآن كثير من حكوماتها بمواقف متصاعدة لصالح فلسطين. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.