سياسة "تحريش" الصّحراء.. مشروع استيطاني تهويدي بامتياز

إنَّ ما يجري في النقب من عمليّات هدم وجرف للأراضي، ومحاولاتٍ لهدم القرى غير المعترف بها على وجه الخصوص، نشهده كذلك في الضفة الغربية.

  • في
    في "التحريش"، يُمنع السكّان الفلسطينيون من الدخول إلى أراضيهم والاستفادة منها

إنَّ سياسة "تحريش" الصحراء التي تنفذها "سلطة أراضي إسرائيل" (الكيرن كايميت)، كما تُسمى، هي شكل من أشكال سلب الأراضي الفلسطينية والسيطرة عليها، فـ"تحريش" أجزاء كبيرة من الأراضي، تحت ما يُسمى "المنفعة العامة" أو أنها "أراضي دولة"، هي إحدى الطرق والوسائل الاحتيالية لشرعنة المشاريع والمخططات الاحتلالية الاستيطانية لسرقة الأراضي الفلسطينية والسيطرة عليها.

في "التحريش"، يُمنع السكّان الفلسطينيون من الدخول إلى أراضيهم والاستفادة منها، وهي عملية تجعل تلك الأراضي بمثابة أراضي احتياط تُستخدم من أجل بناء مستوطنات جديدة، وكذلك الحدّ من التوسع الجغرافي الفلسطيني ومنع التواصل الديمغرافي.

إنّ الحرب التي يشنها الاحتلال على أراضي النقب تندرج في هذا الإطار. ومن أجل شرعنة الاستيلاء على أكبر مساحة منها و"دسترتها" و"قوننتها"، تحت حجج وذرائع تقول إنّها "أملاك دولة"، جرى إقرار ما عُرف بقانون "برافر" في الكنيست الإسرائيلي في 24 حزيران/يونيو 2013، بناء على توصيات لجنة حكومية برئاسة نائب رئيس مجلس الأمن القومي السابق إيهود برافر في العام 2011، لتهجير سكان عشرات القرى الفلسطينية من صحراء النقب في جنوب فلسطين وجمعهم في ما يُسمى "بلديات التركيز". وقد تم تشكيل لجنة "برافر" لهذا الغرض. 

ويعتبر الفلسطينيون هذا المشروع وجهاً جديداً لنكبة فلسطينية جديدة، لأنَّ "إسرائيل" ستستولي بموجبه على أكثر من 800 ألف دونم من أراضي النقب، وستهجّر 40 ألفاً من بدو النقب، وتدمّر 38 قرية غير معترف بها إسرائيلياً، إلا أنّها تراجعت مؤقتاً عن هذا المشروع في كانون الأول/ديسمبر 2013، نتيجة الضغوط والنضالات الشعبية والجماهيرية لشعبنا وأهلنا في الداخل الفلسطيني.

وفي إطار معركة جسّ النبض وتطبيق مشروع "برافر" التهويدي، قامت "إسرائيل" بهدم قرية العراقيب للمرة السادسة والتسعين بعد المائة منذ مطلع العام 2000 ولغاية الآن، وكذلك جرى هدم قرية أم الحيران في كانون ثاني/يناير 2017، والتي سقط في معركة الدفاع عنها الأستاذ يعقوب أبو القيعان، الذي أطلق عليه الاحتلال النار من دون أن يشكل أيّ خطر على شرطتها أو جنودها. وقد أتى ذلك في إطار الحقد والعنصريّة والتطرّف.

اليوم، وفي ظلِّ حكومة بينيت القادم من جبهة الاستيطان، ومعه الكثير من المستوطنين المتطرفين أمثاله، ومن بعد معركة "سيف القدس"، نشهد عدواناً واسعاً على شعبنا الفلسطيني، وتتكثّف وتائر الاستيطان ومصادرة الأراضي، وتتصاعد بشكل جنوني في القدس والداخل الفلسطيني والضفة الغربية.

 وضمن هذه السياسة، يجري استهداف القرى والبلدات في النقب، وخصوصاً ما يعرف بـ"القرى العربية الـ38"، التي لم تعترف "إسرائيل" بها، والتي يعدّ وجودها سابقاً على وجود الكيان الغاصب. يبدو الاحتلال قلقاً من ازدياد السكّان في النقب والمساحات الكبيرة من الأرض التي يمتلكونها. ولذلك، يريد العودة مجدداً إلى تهويد النقب وتهجير سكانه والعمل على جمعهم وتركيزهم في مناطق محددة يسهل السيطرة عليها تحت مسمى جديد مخادع ومضلل هو "تحريش" الصحراء.

ومن هنا، وجدنا كيف قامت قوات الاحتلال وشرطته بعمليات تجريف واسعة لأراضي عرب الأطرش، قرب قرية سعوة، على مدار 3 أيام، ونفَّذت عمليات قمع وتنكيل واسعتين بحق أهالي النقب الذين تصدّوا لعمليات التجريف. وكذلك، كان هناك أكثر من 50 معتقلاً خلال التصدي لعمليات التجريف ومصادرة أراضي عرب الأطرش.

اضطرت حكومة الاحتلال، في ظلِّ اشتداد عمليات مقاومة "مشروع تحريش الصحراء" الاحتلالي وتصاعدها، إلى التراجع عن استكمال هذا المخطط والمشروع بشكل مؤقّت، ولكنَّها لن تتخلّى عن تجريد بدو النقب من أراضيهم وطردهم وتهجيرهم بشكل جديد من أشكال النكبة.

إنَّ ما يجري في النقب من عمليّات هدم وجرف للأراضي، ومحاولاتٍ لهدم القرى غير المعترف بها على وجه الخصوص، نشهده كذلك في الضفة الغربية، حيث يتصاعد الاشتباك الشعبي والمقاومة الشعبية ضد مصادرة أراضي شعبنا في بيتا، ويدفع أهلها دماً وتضحيات ثمناً لمقاومتهم مشاريع الاستيطان في أرضهم، وخصوصاً جبل صبيح. وقد سقط 9 شهداء دفاعاً عن الأرض ومئات الجرحى والمعتقلين حتى الآن.

 وفي برقة - نابلس، كما في بيتا، هناك مقاومة شرسة لإقامة بؤر استيطانية في أراضيها، وخصوصاً البؤرة الاستيطانية "حومش" التي حاول المستوطنون العودة إليها بعد العملية العسكرية التي نفّذتها خلية للجهاد الإسلامي مؤخراً، والتي قُتل فيها مستوطنٌ، وأُصيب آخران بجروح. المشهد نفسه في بيتا وبرقة يتكرّر في بزاريا وبيت دجن وكفر قدوم وسبسطية والأغوار وسيلة الظهر ومسافر يطا وغيرها من قرى الضفة الغربية وبلداتها.

أما في القدس، فإنّ مشاريع الاستيطان وعمليات مصادرة الأراضي لا تتوقَّف، بل هي في حالة "تضخم" و"تسونامي"؛ ففي العام 2021، صادق ما يُسمى بـ"اللجنة اللوائية والتخطيط" التابعة لبلدية الاحتلال على إقامة أكثر من 18240 وحدة استيطانية.

الاستيطان يتصاعد ويترافق مع حرب شاملة يشنّها قطعان المستوطنين على شعبنا وأهلنا على طول مساحة فلسطين التاريخية وعرضها... والهدف في الحالتين واحد، يتمثل بالاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض الفلسطينية، وطرد أكبر عدد من السكان الفلسطينيين وتهجيرهم، وحصرهم في تجمعات سكانية، وتحويلهم إلى أقليات سكانية تعيش في جزر متناثرة ضمن محيط استيطاني واسع.

 ولذلك، إنَّ ما يجري في النقب من حربٍ على الأرض الفلسطينية من خلال مشاريع التهويد، يترافق مع مشاريع تهويدية أخرى في الجليل والضفة الغربية والقدس، وهذا لا ينفصل عن سياسة الطرد والتهجير والترحيل القسري ضمن سياسة تطهير عرقي ممنهجة، سواء ضد العرب الفلسطينيين في المدن المختلطة في الداخل الفلسطيني المحتل، مثل اللد والرملة ويافا وحيفا وعكا، أو العديد من الأحياء المقدسية في سلوان والشيخ جراح وبيت حنينا وبيت صفافا وغيرها.

إنّ مشروع "تحريش" الصحراء هو آخر ما تفتّقت عنه عقلية الاحتلال العنصرية للسيطرة على أراضي شعبنا في النقب وتجريدهم وسلخهم عن أراضيهم، وخصوصاً القرى غير المعترف بها، لمنع دخولهم إليها مرة ثانية واستعمالها. ولذلك، إنّ مخاطر هذا المشروع لا تقل عن خطر مشروع "برافر" لتهويد النقب، فكلاهما مشروع تهويدي بامتياز.