زيارة خاطئة في توقيت وظرف خاطئين
الزيارة من شأنها إعطاء الضّوء الأخضر لدول النظام الرسمي العربيّ المنهار، المتردّدة في إعلان تطبيعها مع "إسرائيل" وشرعنته، لكي تخرج هذه العلاقات من السرّ إلى العلن.
أتت زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومعه مسؤول المخابرات الفلسطينية ماجد فرج ومسؤول الشؤون المدنية حسين الشيخ، لوزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس في منزله، بحضور ما يُسمى |منسّق شؤون المناطق الإسرائيلي| العقيد غسان عليان، في ذروة الهجمة المسعورة التي يشنّها قطعان المستوطنين على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني المحتلّ.
لقد أتت الزيارة في هذا الظرف لتؤكّد أنّ خيار التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال هو خيار استراتيجي يتقدَّم على أي خيار آخر، سواء ما يتعلّق بالمصالحة أو إنهاء الانقسام، فالرئيس عباس كان دائماً ما يقول أنْ لا مصالحة قبل اعتراف "حماس" بقرارات الشرعية الدولية، وكان يؤكّد أنَّ خياره والفريق المحيط به، أولاً وعاشراً، هو المفاوضات، ولا شيء سواها، وأنه لن يتحلَّل في يوم من الأيام من التزامات "أوسلو"، سواء الأمنية أو السياسية أو الاقتصادية.
إنّ السلطة الفلسطينية هي جزء من بنية النظام الرسمي العربي المنهار والمهرول إلى التطبيع مع "إسرائيل". ولذلك، هذه السلطة هي جزء من "حلف أبراهام" التطبيعيّ، وهي ليست مستعدة لإخراج القرار الفلسطيني من تحت عباءة منظومة دول النظام الرسمي العربي التابع لأميركا، أو فتح القرار والخيار الفلسطيني على أرحب فضاء عربي إسلامي.
لقد أتت الزيارة من أجل قطع الطريق أمام أي هبّة أو انتفاضة شعبية فلسطينية شاملة من شأنها أن تزيد تهميش دور السلطة المهمّش أصلاً وتعرّض وجودها للخطر، في ظل تصاعد المواجهات بين الشعب الفلسطيني والمستوطنين الغزاة؛ تلك المواجهات التي ستدفع نحو تعزيز نهج المقاومة وخيارها في الساحة الفلسطينية، كما ستدفع بقوة نحو انتفاضة شعبية شاملة.
هذه الزيارة من شأنها تعميق الانقسام الفلسطيني، وتحويله إلى انفصال دائم، ومفاقمة ضعف العامل الفلسطيني، وإعادة الساحة الفلسطينية إلى مربّع التحريض والتحريض المضادّ والحروب الإعلامية والسياسية. وأبعد من ذلك، سيراهن الاحتلال على حدوث اشتباك داخلي في الساحة الفلسطينية.
هذه الزيارة من شأنها إعطاء الضّوء الأخضر لدول النظام الرسمي العربيّ المنهار، المتردّدة في إعلان تطبيعها مع "إسرائيل" وشرعنته، لكي تخرج هذه العلاقات من السرّ إلى العلن، وفي مقدّمتها مملكة آل سعود، وهي تؤكّد أنّ نهج التفرّد والإقصاء ما زال يحكم عقلية هذه القيادة التي تتحكَّم في القرار الفلسطيني وتهيمن عليه، وأنَّ نهج "قولوا ما تفعلون وأنا أعمل ما أريد" هو النهج السائد.
ولذلك، إنَّ القوى التي ما زالت تتحدّث عن احترام قرارات المجلسين المركزي والوطني ولقاءات الأمناء العامين وتنفيذها، يجب أن تزيل الغشاوة عن عينيها، وتدرك أن سقف هذه القيادة وخيارها هو اتفاقية "أوسلو" ولا شيء سواها.
إنّ سياسة التذلّل للاحتلال وزيارة وزير الأمن الإسرائيلي غانتس في بيته، وهو الذي ارتكب جرائم حرب بحقّ الشعب الفلسطيني، هما قمة الإذلال والإهانة. هذه الزيارة لن تؤدي إلا إلى المزيد من الضعف والتفتّت في الساحة الفلسطينية.
لقد أغلقت حكومة الاحتلال الباب أمام أيّ حلّ سياسي، وقال رئيس وزراء حكومة الاحتلال بينت ووزير داخليته شاكيد بشكل واضح أنْ لا لقاءات سياسية مع عباس، ولا عودة إلى خيار المفاوضات، ولا إقامة لدولة فلسطينية، ومن يشاهد العدوان الشامل الذي تشنّه قطعان المستوطنين على شعبنا، و"غول" الاستيطان المتصاعد، و"المجازر" التي ترتكب بحقّ منازل الفلسطينيين وممتلكاتهم ومنشآتهم في القدس والضفة الغربية، وكذلك السعي الحثيث لفرض وقائع التقسيم المكاني في المسجد الأقصى، يدرك أنَّ هذه الحكومة وكل الحكومات الصهيونية السابقة لديها ثابت أساسيّ هو مواصلة الاستيطان ورفض أيّ خيار سياسي يقوم على إقامة دولة فلسطينية أو حتى محمية فلسطينية، وخيارها فقط ما يُسمى بـ"السلام الاقتصادي". ولذلك، ستزيد "إسرائيل" وأميركا ودول الغرب الاستعماري حجم مساعداتها ودعمها المالي والاقتصادي لهذه السّلطة لكي تمنع انهيارها.
وتأكيداً لذلك، قال الصحافي إيتاي بلومنتال من صحيفة "يديعوت أحرونوت" إنَّ إجراءات بناء الثقة بعد اجتماع غانتس - عباس تشمل تحديث بيانات 6000 فلسطيني (لمّ الشمل) في سجلّ السكّان الفلسطينيين في الضفة الغربية و3500 فلسطيني في قطاع غزة، وتحويل أموال الضرائب بقيمة 100 مليون شيكل، ورفع حصة عمال الضفة الغربية في "إسرائيل" إلى 20 ألف عامل، وإصدار علامة معيارية إسرائيلية للمصانع الفلسطينية في الضفة الغربية، والموافقة على 6 مخطّطات هيكلية فلسطينية، والمصادقة على إصدار 500 تصريح لدخول فلسطينيين بمركباتهم الخاصة من المعابر، وعشرات التصاريح (VIP) لمسؤولين في السلطة الفلسطينية.
من الواضح أنَّ حكومة الاحتلال الحالية الهشّة وغير المتجانسة سياسياً تريد "تبريد" جبهة الضفة الغربية للتفرغ لجبهات أخرى. ربما يعدّ شنّ عدوان شامل على قطاع غزة أو الجبهة الشمالية واحداً من أولوياتها في هذه المرحلة، وكذلك التفرّغ للملف الإيراني والبرنامج النووي الذي يشكّل هاجسها الدائم.
إنَّ الإنشاء والغوغائية وبيانات الشجب والاستنكار التي تصدرها القوى القائلة بعدم شرعية هذه الزيارة، وبأنها تشكّل طعنة غادرة لنضالات الشعب الفلسطيني وتضحياته، لن تجدي نفعاً، فهذا هو سقف خيارات القيادة المهيمنة والمتفردة بالقرار الفلسطيني، وهي لن تغادر مربع "أوسلو" ونهج المفاوضات وخيارها.
وبالتالي، على القوى الأخرى أن تعمل على رسم رؤية واستراتيجية فلسطينيتين تقومان على أساس الصّمود والمقاومة، والبحث في كيفية استعادة القرار الفلسطيني، من خلال إقامة جبهة وطنية عريضة أو ائتلاف فلسطيني شامل في الداخل والخارج، يتولى مهمّة البحث في توحيد أوسع طيف فلسطيني من خلال جبهة إنقاذ وطني فلسطيني.