حماس والدوحة... هدأةٌ مؤقتةٌ للزوبعة قبل ثورانها من جديد

ربط مراقبون بين ما نُسِبَ لقطر من مواقف من جهة، وفوز دونالد ترامب وحزبه الجمهوري في الانتخابات الأخيرة من جهة ثانية... هو ربط في محله، وإن كان لا يختزل المسألة برمّتها.

  • حماس وما بعد الدوحة؟
    حماس وما بعد الدوحة؟

ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة... الولايات المتحدة و"إسرائيل" تضغطان على قطر، لتضغط بدورها على حركة حماس، فتهبط الأخيرة بسقوف أهدافها وتوقّعاتها، وتقبل بشروط نتنياهو وحكومة اليمين الفاشي لإبرام صفقة في غزة وحولها... تكتيك تفاوضي ـــــ ابتزازي فاجر، تراهن واشنطن و"تل أبيب" أنه قد ينجح اليوم، حيث فشل بالأمس، تحت ضغط المزيد من النار في غزة، وإشهار سيف الإبعاد عن الدوحة... شروط نتنياهو لا معنى لها سوى الاستسلام ورفع الراية البيضاء، وهيهات أن ترضخ حماس والمقاومة لها، بعد طوفان الشهادة والتضحيات والدمار العميم.

عشر ساعات شغلت العالم، بين تسريبات "رويترز" و"الفرنسية" المنسوبة لمصادر رفيعة ومطلعة، وبيان الناطق باسم الخارجية القطرية الذي وضع النقاط على الحروف... النبأ بلا شكّ كان جللاً، لا لجهة تدشينه لنهاية حقبة وبداية أخرى بالنسبة لمكتب حماس السياسي على أهمية الأمر، بل بما يستبطن من معاني إفلاس المسار السياسي لغزة والحرب فيها وعليها، وترك أزيد من مليونين من مواطنيها، نهباً للصواريخ والقذائف الأميركية من كلّ الطرازات والأحجام.

أياً يكن من أمر، لقد قطع ماجد الأنصاري الشكّ باليقين، وأرجأ (لا أقول أنهى) جدلاً احتدم، وذهب في شتى الاتجاهات، كان من فضائله (الجانبية) أن فرز غثّ المواقف عن سمينها، وكشف عُري مثقفين ومحللين وسياسيين فلسطينيين وعرباً، ظهّر من جهة، تفاهة أدوات التحليل عند البعض، وأبان من جهة ثانية، تهافت مواقف نفرٍ آخر منهم، عجز عن كبح جماح أسوأ ما في جوفه من مشاعر سوداء ونوايا ثأرية متربّصة.

قطر في المهداف

في دلالة التوقيت، ربط مراقبون بين ما نُسِبَ لقطر من مواقف من جهة، وفوز دونالد ترامب وحزبه الجمهوري في الانتخابات الأخيرة من جهة ثانية... هو ربط في محله، وإن كان لا يختزل المسألة برمّتها.

ربطٌ في محله، لأن قطر كانت عرضة لأكبر تهديد في وجودها، زمن الولاية الأولى لترامب... يومها كانت الإمارة الخليجية الصغيرة، على مبعدة خطوات من أن تُدرَج في اللائحة السوداء للدول الراعية للإرهاب، بتحريض (وتمويل أحياناً) من قبل "رباعي الحصار"... يومها تعرّضت قطر لحصار في البحر والبرّ والجو، من الأشقاء (في اللسان)، لم تخرج منها سوى بدعم سخي من أشقاء في الدين (تركيا وإيران)، فضلاً عن الدور النشط الذي أدّاه الدبلوماسية والمال القطريان.

في الذاكرة القطرية الطازجة، ما زال شبح الحرب عليها حاضراً بقوة، لم تبدّده القُبَل والمصافحات في مؤتمرات المصالحة والتعاون العربية، وإن كانت أبعدته خطوات إلى الوراء... يومها، ولولا بقايا عقلاء في كل من الكويت ومسقط، لربما كان مجلس التعاون الخليجي قد شهد أول حرب حقيقية بين دوله الأعضاء... ليس في الأمر مبالغة، ومن لديه شكّ في ذلك، فليرجع إلى تصريحات الشيخ صباح الأحمد، أمير دولة الكويت آنذاك.

اللوبي المناهض لقطر، الذي كان وراء حملات التجييش والتحريض، ما زال قابعاً في أروقة صنع القرار في الولايات المتحدة، وإن بقدر أقلّ من التأثير والفاعلية... رسالة أعضاء الكونغرس الأربعة عشر، الداعية للضغط على قطر وطرد قادة حماس وتسليم بعضهم، تنهض كشاهد على حيوية هذا "اللوبي" الذي من المُحتمل أن يكتسب زخماً إضافياً مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، ومعه فريق من "صقور" الحرب والسياسة في المجتمع السياسي والمُجمّع الحربي الأميركيّين.

لكن الأهم في دلالة التوقيت، أن هذه "الزوبعة" قد ثارت على مبعدة أيام قلائل من استئناف جولتي تفاوض وحوار، كلتاهما حول غزة و"اليوم التالي"، الأولى؛ الرباعية الأمنية المرجّح انعقادها في القاهرة مع مجيء وليام بيرنز من جديد إلى المنطقة، بعد جولة "جسّ النبض" التي بلغت طريقاً مسدوداً قبل أسبوع أو أكثر... والثانية؛ جولة حوار بين حماس وفتح، بوساطة مصرية، لترجمة مبادرة قيل إنها أميركية، حول ما يُسمّى اللجنة الإدارية لتولّي شؤون غزة، والتي أُعطيت اسماً مُضلّلاً: "لجنة الإسناد المجتمعي".

وهل ثمّة من تمهيد أفضل لهذه الجولات التفاوضية من إشهار سيف الضغط والابتزاز في وجه حماس والدولة المضيفة، علّها تثمر بعض النتائج، وعلى أمل أن تستحصل "تل أبيب" بالسياسة، على ما فشلت من انتزاعه في الميدان.

كان الأمر واضحاً في بيان الأنصاري الذي تحدّث فيه عن "تعليق" الوساطة القطرية وكذّب من خلاله الأنباء عن طرد قادة حماس وإغلاق مكتبها... قطر تستشعر أنّ وساطتها في الملف، تفتح عليها أبواب الضغط والابتزاز، وهي لن تقبل بذلك... وقطر تستشعر أن وساطتها ووساطة الآخرين كذلك، تُتَخذ كغطاء لإطالة أمد حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، وهي لن تقبل بذلك أيضاً.

في المقابل، تدرك القيادة القطرية أتمّ الإدراك، أن وساطتها مطلوبة ومرغوبة، لا أميركياً فحسب، بل وإسرائيلياً كذلك برغم مكابرة نتنياهو واستعلاء فريقه... وأن ليس ثمة في الأفق من وساطات يمكن أن تحلّ محلّها، بما فيها الوساطة المصرية، لذلك جاز النظر للتسريبات القطرية من باب أنها "ضغط قطري مضاد"، ولعب بالأوراق ذاتها التي تلوّح بها واشنطن و"تل أبيب".

لكنّ قطر تدرك في الوقت ذاته، أنّ وساطتها مطلوبة لتحقيق أهداف لا تريد أن تكون شريكاً فيها... هم يريدونها وساطة في الشكل، أما في المضمون فهم يريدونها سيفاً مصلتاً على رقبة حماس، لدفعها إلى الاستسلام، ولا شيء آخر غير الاستسلام... قطر تفضّل عدم ممارسة هذا الدور، إن ظلّ محصوراً بهذه المهمة، وهي تراهن على أنّ تطوّرات الحرب في غزة ومجريات السياسة من حولها، قد تمكّنها من الدفع باتجاه "صفقة حلّ"، تحفظ للفلسطينيين حداً أدنى من الكرامة والحقوق والمطالب... لذلك، نراها تلوّح بسيف "تعليق" الوساطة بدل الانسحاب منها، وتعرب في الوقت ذاته، عن استعدادها لمعاودة هذا الدور، حال طلب إليها ذلك.

حماس وما بعد الدوحة؟

أغلب الترجيحات تذهب للقول بأن العدّ التنازلي لحماس في قطر، قد بدأ في السابع من أكتوبر 2023، عند اندلاع الطوفان، وأن هذا الوجود قد يطول أو يقصر، بالقدر الذي ستطول فيه أو تقصر، حبال المفاوضات والعملية السياسية، وأن المكتب السياسي لحماس سيظل هناك، طالما اقتضى التفاوض والمسار السياسي أمراً كهذا.

كان ذلك مطلب الإدارة الديمقراطية في بواكير الحرب وأثنائها، وهو سيصبح مطلباً أكثر إلحاحاً عندما تطأ أقدام ترامب البيت الأبيض، ويكتمل عقد إدارته الجمهورية الأكثر عداءً لحماس ومحورها، بل وربما للعرب والمسلمين على نحو أوسع وأشمل... حماس تدرك ذلك، وتدرك أن قطر لا قِبَلَ لها على مواجهة الضغوط الأميركية حين تشتدّ، هي تتفهّم ذلك، وتتفهّم أيضاً أن وجودها في قطر، لن يعود إلى ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر، بصرف النظر عن التوقيت والسيناريو والإخراج.

وهي وإن كانت تعبّر في دوائر ضيّقة، عن توفّرها على "خطة ب"، إلا أنها تعرف تمام المعرفة، أن الجغرافيا العربية، وبدرجة أقل، الإسلامية، قد ضاقت بفلسطين منذ زمن طويل، وهي تضيق اليوم، بمقاومتها وقيادتها... وربما يكون "شتات" القيادة، بدل "تمركزها"، هو المنفذ الأكثر ترجيحاً للتعامل مع مرحلة ما بعد الدوحة.

لبنان، كما العراق، ليس مكاناً لقيادة حماس، من جرّاء حجم الاختراقات الأمنية ومستوى الجرأة الإسرائيلية على الاستهداف، فضلاً عن عمق الانقسامات السياسية، حيث يقف فريق وازن، بالكامل ضد استضافة المكتب السياسي للحركة، وإن كان قادراً على ابتلاع وجود "مكتب ثانوي" ونفر قليل من الكادر، وقيادي أو اثنين في أحسن تقدير.

طهران لن تمانع في استضافة مكتب حماس السياسي، ولن يشكّل وجود قيادة الحركة على أرضها، سوى سببٍ إضافي آخر، بسيط نوعاً، من أسباب خلافها مع عواصم الغرب، وصراعها مع "إسرائيل"... لكن الوجهة الإيرانية للحركة، تطرح عليها أسئلة من نوعٍ آخر، وأهمها، كيف سيكون مستقبل الحركة وعلاقاتها العربية والدولية، إن هي وجدت نفسها في الحضن الإيراني، هي متهمة بالأصل بكونها ذراعاً إيرانيةً حتى وهي تختلف مع طهران في ملفات استراتيجية كبرى، كالأزمة السورية على سبيل المثال، فكيف سيكون "توصيفها" و"تصنيفها" إن هي اختارت الوجهة الإيرانية؟... لا أظن أن الحركة، ستلجأ إلى اختيار كهذا.

اليمن الذي رحّب شماله باستضافة الحركة على الأكف والأكتاف، لن يكون خياراً تستطيع من خلاله ممارسة مندرجات دورها القيادي... اليمن ذاته، في عزلة، وقرار الانتقال إليه، سيعمّق عزلة الحركة بدل أن يفتح أمامها آفاقاً رحبة... تركيا، التي ضاقت بالشهيد صالح العاروري، لن تكون بديلاً رحباً، ستقبل بزيارات لقادة حماس، واستضافة نفرٍ "سياسي" منهم، ولكنها بالأخص مع مجيء ترامب، ورهاناتها على إدارته في معالجة ذيول "المسألة الكردية"، لن تكون صدراً رحباً، ولا وجهةً لمكتب حماس السياسي.

الشيء ذاته، ينطبق على الجزائر، التي وإن كانت على استعداد لوجود رمزي لحماس على أرضها، إلا أن أداءها في عام الطوفان، أثار كثيراً من التكهّنات حول وجود "صفقة ما" مع واشنطن، تُبقي هذا الأداء من ضمن حدود، نظير إطلاق يد الجزائر في مناطق حيوية لأمنها الإقليمي، ومع مجيء ترامب، فإن على الجزائر أن تقلق أكثر على مصير ملف الصحراء وعلاقاتها بالرباط.

لا بدائل سهلة لحماس عن الدوحة، لكن الخيارات، وإن ضاقت، فلن تنعدم، وفي ظنّي أن الحركة ستتجاوز هذه العقدة، باعتماد آليات جديدة في تقسيم العمل والتنظيم والتواصل بين مكوّنات جهازها القيادي، طالما أن "الشتات"، وليس "التمركز" سيكون سمة مرحلة ما بعد الدوحة.

 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.