حرية العمل العسكري تحت الرقابة الأميركية: حدود الدور الإسرائيلي في لبنان
الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي لا يرغبان في فتح جبهة جديدة في لبنان، لذلك ستواصل "إسرائيل" سياسة الاستنزاف المحدود ضمن سقف مدروس يمنع الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة.
-
لا ينفصل التصعيد تجاه "حزب الله" عن المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي.
شهد الشرق الأوسط مرحلة دقيقة من إعادة التموضع الجيوسياسي، تتشابك فيها الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية مع الرؤى الأميركية لإعادة ترتيب الإقليم ما بعد اتفاق غزة. وفي قلب هذا المشهد المعقّد، يبرز لبنان كواجهة للأحداث المقبلة، حيث تسعى "إسرائيل" إلى فرض معادلة أمنية جديدة عبر استراتيجية الحفاظ على عدم تعافي محور المقاومة مجددًا، من خلال استمرار "العمليات المحدودة" من دون الانزلاق إلى حرب شاملة، في ظل القيود التي تفرضها الرؤية الأميركية لترتيبات الشرق الأوسط.
بات واضحاً أن الرهان الإسرائيلي على القوى اللبنانية الداخلية — سواء الأحزاب أم الدولة — لسحب سلاح "حزب الله" هو رهان فاشل، خاصة مع اقتراب نهاية المهلة التي منحتها "إسرائيل" والولايات المتحدة للحكومة والجيش اللبناني لنزع سلاح الحزب مع نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي.
هذا الإدراك دفع "تل أبيب" إلى التفكير في سياسة جديدة تقوم على تطوير استراتيجية "حرية العمل العسكري" في لبنان، وهي المقاربة التي تبنّتها "إسرائيل" عقب اتفاقيات وقف إطلاق النار الأخيرة.
تؤكد التقارير الاستخبارية الإسرائيلية ملاحظة تعافي "حزب الله" وتجدد قدرته على تعزيز منظوماته العسكرية، خصوصًا الصاروخية منها. ومع فشل الضربات السابقة في إضعافه بالشكل الكافي، تطالب "إسرائيل" الإدارة الأميركية باتخاذ خطوات أخرى لم تجربها "تل أبيب" بعد.
وفي الميدان، تصاعدت وتيرة العمليات العسكرية الإسرائيلية جنوب نهر الليطاني، والتي تتسم بأنها عمليات كبرى "دون مستوى الحرب الشاملة"، تستهدف تدمير البنية التحتية العسكرية للحزب وخلق منطقة عازلة أمنية بحكم الأمر الواقع. وقد تجسد هذا التصعيد مؤخرًا في غارات جوية وتوغلات محدودة، أبرزها ما حدث في بلدة بليدا.
لا يمكن فصل هذا التصعيد عن السياق الأميركي الأشمل في المنطقة. فواشنطن، الساعية إلى إعادة ترتيب الشرق الأوسط بما يتناسب مع مصالحها في صراع تعدد الأقطاب مع الصين وروسيا، تضع قيودًا واضحة على حرية الحركة الإسرائيلية.
الإيقاع العسكري في الإقليم يُدار فعليًا من قبل الولايات المتحدة عبر آلية رقابة تشرف عليها القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM). وتقوم "إسرائيل" بتزويد هذه الآلية معلومات استخبارية دقيقة حول محاولات "حزب الله" لإعادة بناء بنيته التحتية.
وبحسب هذه الآلية، يُمنح الجيش اللبناني مهلة 24 ساعة للتعامل مع التهديد، وفي حال عدم الاستجابة، تتدخل "إسرائيل" لتنفيذ الضربات بنفسها. هذا يعني أن حرية العمل العسكري الإسرائيلية تخضع لرقابة أميركية مباشرة.
لا ينفصل التصعيد تجاه "حزب الله" عن المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي، إذ انطلقت صفارة الانتخابات مبكرًا، وتسعى حكومة الائتلاف الحاكم إلى إظهار الحزم والقوة لتحسين موقعها السياسي أمام الناخب الإسرائيلي. ومن ثمّ، تُستغل العمليات العسكرية كأداة لتعزيز صورة الحكومة وتحقيق مكاسب داخلية.
تصطدم "إسرائيل" بواقع أن الترتيبات الأميركية للمنطقة لا تسمح بتجاوز الخطوط الحمر الموضوعة. فواشنطن هي المهندس الرئيسي لإعادة صياغة الشرق الأوسط، و "إسرائيل" - رغم قوتها - تعمل ضمن دور مرسوم أميركيًا يخدم المصالح الكبرى للولايات المتحدة.
وبالتالي، فإن أي تحرك عسكري أو تصعيد واسع لن يحدث من دون ضوء أخضر أميركي واضح يضمن عدم الإضرار بالمخطط الاستراتيجي الأوسع.
رغم التصريحات عالية النبرة ضد لبنان و"حزب الله"، تدرك "إسرائيل" أن البيئة غير مواتية للحرب الشاملة. ومع ذلك، تصرّ على التصعيد لإيصال ثلاث رسائل رئيسية:
1. رسالة استراتيجية: التأكيد على هدف نزع سلاح “حزب الله” أو على الأقل منع تعاظم قوته مجددًا.
2. رسالة داخلية: توظيف العمليات العسكرية لتعزيز مكانة الائتلاف الحاكم انتخابيًا.
3. رسالة دبلوماسية: حث واشنطن على التدخل المباشر في الملف اللبناني كبديل عن حرب شاملة مكلفة.
البيئة الإقليمية والدولية — وحتى الإسرائيلية — لا تتيح ظروفًا مناسبة لخوض حرب شاملة ضد "حزب الله" في الوقت الراهن.
الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي لا يرغبان في فتح جبهة جديدة في لبنان، لذلك ستواصل "إسرائيل" سياسة الاستنزاف المحدود ضمن سقف مدروس يمنع الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة.
وفي انتظار أن تؤتي الضغوط الأميركية على بيروت ثمارها، ستبقى "حرية العمل العسكري" الإسرائيلية مقيدة برقابة أميركية دقيقة، في مشهد يعكس حقيقة الدور الإسرائيلي كمنفّذ ضمن هندسة واشنطن للشرق الأوسط الجديد.