تركيا تعزز الجبهة الداخلية عودةً إلى الانفتاح على الكرد
أنقرة ستنظر إلى الإدارة الذاتية على أنها قضية داخلية سورية، هل يعني هذا الموقف أن تركيا ستنسحب من الصراعات التي تتورط فيها خارج حدودها؟ أم أن الأمر كله يتعلق بالتكيف مع الاقتراح الأميركي لصفقة جديدة؟
بعد أيام من مصافحته ممثلي حزب "مساواة وديمقراطية الشعوب"، وهو خليفة حزب "الشعوب" الديمقراطي والواجهة الحالية للتيار الكردي المرتبط بحزب "العمال" الكردستاني، دعا رئيس "الحركة القومية" دولت بهشلي وحليف الرئيس التركي إردوغان عبد الله أوجلان القابع في سجن ايميرلي إلى إلقاء خطاب في البرلمان التركي أمام كتلة حزب "مساواة وديمقراطية الشعوب" البرلمانية "يعلن فيه نهاية الإرهاب تماماً وحلّ المنظمة"، داعياً إلى "سياسة بلا إرهاب" وإلى "إخراج مشكلة الإرهاب التاريخية والثقيلة من جدول أعمال تركيا" مقابل الحصول على "حق الأمل" الذي تنص عليه المادة الثالثة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. بدا صوته فعالاً على الجماهير التي تحتاج إلى الإقناع، لكن الواضح أن الدافع الرئيسي هو تعزيز الجبهة الداخلية.
طرحت الأسئلة حول الانفتاح، هل ستتخذ أنقرة خطوات سياسية وقانونية لجعل الأمر ذا معنى؟
لكن، بعد 24 ساعة، حصل هجوم إرهابي على شركة "توساش" للصناعات الدفاعية. حمل الهجوم الإرهابي على شركة صناعات الطيران والفضاء في العاصمة أنقرة دلالات واضحة على ارتباطه باحتمالات العودة إلى مسار سياسي داخلي في ما يتعلق بالمسألة الكردية، في ظل الخلافات المعروفة في التيارات المنضوية تحت مظلة "العمال" الكردستاني.
الأسباب الداخلية لهذه الخطوة
في إطار البحث في التعديل الدستوري كان الرهان قوياً على التعاون بين حزبي "العدالة والتنمية" و"الشعب الجمهوري"، بيد أن الفشل في هذا المسعى شكّل دافعاً قوياً لانفتاح التحالف الحاكم على الحزب الكردي، وهناك دوافع متعددة للانفتاح تجاه الحالة الكردية، أولها حاجة إردوغان إلى تعديل الدستور ما يتطلب فتح مسارات حوار مع أحزاب المعارضة، ويؤدي إلى تخفيف حدّة الاستقطاب بين الحالة السياسية الكردية والدولة.
في كل المناسبات الانتخابية، كان إردوغان بحاجة إلى أصوات الكرد، وكان من المنطقي أن تبتكر حكومته استراتيجية للتعامل معهم، كانت تركيا قد أجرت محادثات سلام مع أوجلان و"العمال" الكردستاني منذ عام 2012، لكن هذه العملية انهارت في تموز/يوليو 2015، وهو ما أشعل فتيل الحقبة الأكثر دموية في الصراع بين الطرفين.
توقع حل حزب "العمال" الكردستاني لنفسه أمر غير واقعي. سيرمي أوجلان الكرة إلى قنديل بشأن القضايا التي يعرف أنه لن يتم الاستماع إليها، قنديل قادر أيضاً على فتح مساحة لنفسه ويرى أن "القيادة أسيرة وتحت الضغط".. ومع ذلك، كما قال بهجلي، إذا جاءت دعوة أوجلان من قاعة البرلمان، فهذا يعني أن القرار بين قنديل وايمرلي قد نضج مسبقاً، وإلا فلن تدخل الدولة ولا أوجلان هذه الكرة.
تدفع الهواجس الإقليمية أحزاب الحكومة لكي تفتح أبواب الحوار مجدداً مع أحزاب المعارضة الكردية. كانت أنقرة تجري مناقشات داخلية حول ما يجب القيام به بشأن حزب "العمال" الكردستاني، وما يسمّى بالقضية الكردية، وكان من المقرر منذ أشهر التوصل إلى نهج جديد في التعامل مع أوجلان وحزبه. وجود مسار سياسي جديد بخصوص المسألة الكردية في البلاد، بعد توقف المسار السابق في 2015،
لكن أي مسار لإعادة إحياء عملية السلام بين الدولة و"العمال" الكردستاني يتطلب توفر كثير من العوامل وهي متشابكة، ولا تقتصر على الحالة الكردية الداخلية. تتعامل الحكومة مع حزب "العمال" على أنها مظلة لأحزاب تركية عديدة ومنها من لا يوافق على السلام مع تركيا، إلا أن حزب "مساواة وديمقراطية الشعوب" يبدو منفتحاً على الحوار مع الحكومة، لكنه ما يزال يؤكد أن المسار يجب أن يكون تحت مظلة البرلمان، بإشراف بقية الأحزاب بسبب انعدام الثقة بين الأحزاب الكردية والحكومة.
ردود الفعل الأولى هي أن حوار أوجلان إيجابي، وأنه لا يمكن تطوير أي حل آخر، وأن هذا النهج الذي يتماشى مع الحقيقة سيقابله الجانب الكردي كأنه في شي ناقص هون؟
الأسباب الخارجية إقليمية
يتحدث الرئيس التركي منذ أسابيع عن ضرورة "تمتين الجبهة الداخلية" لحماية تركيا من الأخطار الخارجية التي باتت تتهددها مع "السياسات التوسعية لإسرائيل في المنطقة" على حد تعبيره، وتزايد احتمالات الحرب الإقليمية، حسب وزير الخارجية هاكان فيدان. تريد أنقرة أن تحل بشكل استباقي أي أزمة تنتج عن دولة كردية تنشأ بالقرب من حدودها، في حال فكرت الولايات المتحدة في سحب قواتها من سوريا وإذا فاز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية.
أنقرة لا تريد منطقة كردية مستقلة يمكن أن تكون نموذجاً للكرد الذين يعيشون في تركيا. وبالتالي، هي تريد أن تجعل تركيا أكثر أمناً، المتغيرات الحاصلة في الإقليم هي من تقف وراء فتح أبواب الحوار، إلا أن الهجوم الإرهابي على شركة صناعات الطيران والفضاء (توساش) في أنقرة، طرح تساؤلات عن طبيعة المكان المستهدف والتوقيت، إذ كان إردوغان حاضراً في مدينة قازان عاصمة تترستان الروسية في قمة "بريكس"، وبالتوازي مع تطورات إقليمية واحتمالات توسع العدوان الإسرائيلي في المنطقة، ما يحمل دلالات ورسائل عديدة ، التطورات الإقليمية لا تقل أهمية عن الاعتبارات السياسية الداخلية وهي متداخلة. النقطة التي يجب النظر إليها هنا هي التطورات الجديدة في الشرق الأوسط.
من الواضح أن احتمال التطورات في غزة إلى لبنان وسوريا جعل أنقرة متوترة. عندما أضيفت إلى هذه الصورة خطط الولايات المتحدة لتغيير ميزان القوى في الشرق الأوسط من قبل "إسرائيل"، ظهرت حالة من الذعر. فالكرد يضعون أنفسهم كحلفاء محتملين في النظام الجديد على محور الولايات المتحدة و"إسرائيل" والخليج.
تصميم "إسرائيل" على تصعيد الصراع نشط رغبة إردوغان في التطبيع مع دمشق. لكنه اصطدم بالخطوط الحمر الأميركية التي لا تريد انسحاباً للقوات التركية إو إيقاف دعم الجماعات المسلحة، وتطالبها بالعودة إلى حلّ المشكلة الكردية في الداخل التركي وتشكيل تحالف مع الكرد في سوريا.
وكانت الجهود التركية المبذولة لإشراك الحكومة العراقية في العمليات ضد حزب "العمال" الكردستاني، قد باءت بالفشل وعجزت عن تحقيق نتائج، على الرغم من الاتفاق المشجع مثل مشروع طريق التنمية.
توقعت أنقرة إعلان حزب "العمال" الكردستاني "منظمة إرهابية"، لكن اكتفت بغداد بإدراجه على أنه "منظمة محظورة". ولا يؤثر هذا الإجراء في الوضع على الأرض. كما إن سياسات التهديد جعلت العلاقات مع كردستان غير قابلة للإدارة بالتهديد.
أما محاولة التطبيع مع سوريا للتخلص من ضغوط اللاجئين وتفكيك هيكل الحكم الذاتي بحكم الأمر الواقع فلم تنجح؛ لأن التطبيع مع دمشق لن يكون متبادلاً من دون انسحاب القوات التركية، أصبح من الواضح أنه ما دامت الولايات المتحدة في شرق الفرات، لا يمكن أن يكون هناك مخرج. تضغط واشنطن على عدم انسحاب تركيا من اللعبة في سوريا حتى لا يعدّ نصراً لروسيا وإيران وسوريا.
وتشكل مسألة الانسحاب الأميركي بالتوازي مع الاتفاق الأمني الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة أزمة بالنسبة إلى تركيا، فإنه بموجب الاتفاق، ستغادر بعض القوات الأميركية العراق بحلول أيلول/سبتمبر 2025، بينما ستغادر البقية بحلول نهاية عام 2026. وتقع القاعدة، التي من المتوقع أن يتم إخلاؤها بالكامل بحلول أيلول/سبتمبر 2025، في عين الأسد، غرب محافظة الأنبار، وهو أمر مهم أيضاً للعمليات في سوريا. ومع ذلك، يقول الأميركيون إنهم سيركزون على القاعدة في أربيل وسيبقون في سوريا. لكن تقليص الوجود العسكري في العراق قد يجعل من الصعب الاحتفاظ بقوات في سوريا.
إردوغان يعوّل على الانسجام مع الولايات المتحدة، الذي لم يكسره بعد. وهو يرى أن إيران هي الهدف الرئيسي لـ "النظام الجديد" الذي تنطلق منه "إسرائيل".
إذا تم وضع معادلة جديدة وألقى "العمال" الكردستاني سلاحه، فإن أنقرة ستنظر إلى الإدارة الذاتية على أنها قضية داخلية سورية، هل يعني هذا الموقف أن تركيا ستنسحب من الصراعات التي تتورط فيها خارج حدودها؟ أم أن الأمر كله يتعلق بالتكيف مع الاقتراح الأميركي لصفقة جديدة؟ وبطبيعة الحال، يمكن للولايات المتحدة أن تسند دور الوصي في النظام الجديد إلى تركيا إذا أصبحت خالية تماماً من المشكلة الكردية.