بعد ضبط عناصر إرهابية: الجيش الجزائري يُصعّد تحذيراته
تصريحات شنقريحة الأخيرة مثّلت تصعيداً من جانب المؤسسة العسكرية في الجزائر في مواجهة العناصر التي تهدد استقرار البلاد، ما أثار موجة من الجدل والنقاش حول حجم تلك التهديدات وعمق خطورتها.
اختار رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق أول السعيد شنقريحة إجازة عيد الفطر لإطلاق تصريحات لاقت اهتماماً واسعاً من وسائل الإعلام. وقد حذّر فيها من عودة الأصوليين والمتطرفين إلى النشاط في البلاد، مشيراً إلى أنَّ انتشار مظاهر التشدد يمثل تهديداً عميقاً للأمن القومي الجزائري.
أتى خطاب شتقريحة الذي ألقاه خلال زيارته قيادة قوات الدفاع الجوي بعد نحو أسبوعين من إعلان الجيش ضبط 14 عنصراً إرهابياً خلال عمليات عسكرية في العديد من الولايات على مدار أسبوع، إضافةً إلى رصد نشاط بعض المجموعات السلفية، كما حصل في وسط العاصمة الجزائرية، حين أقدمت مجموعة من المتطرفين على تعطيل عرض فني/مديح شعبي/ من تنظيم وزارة الثقافة والفنون، بدعوى أنه "محرم دينياً" ولا يتلاءم مع شهر رمضان الكريم.
التصريحات الأخيرة لشنقريحة مثّلت بالنسبة إلى العديد من متابعي الشأن الجزائري تصعيداً من جانب المؤسسة العسكرية في مواجهة العناصر التي تهدد استقرار البلاد، ما أثار موجة من الجدل والنقاش حول حجم تلك التهديدات وعمق خطورتها، بالشكل الذي جعلها تستدعي هذا النوع من التصعيد من جانب قائد المؤسسة العسكرية.
في كلمته، قال شنقريحة إن "هؤلاء المتطرفين يجب أن يعلموا أن ذلك الزمن انتهى إلى غير رجعة، وأن مؤسسات الدولة راسخة، ولن تسمح بأيِّ حال من الأحوال بعودة هؤلاء المغامرين الذين كادوا أن يدفعوا البلاد إلى الهاوية".
وأضاف: "نحن على يقين تام بأنّ هذا الخروج إلى العلن، بعدما كان يجري في السر وفي فضاءات مغلقة، جاء بإيعاز من دوائر التخريب المعادية التي اعتدنا منها مثل هذه التحركات المريبة كلما لاحظت أن الجزائر استرجعت دورها".
وأكّد رئيس أركان الجيش "أنّ المتطرّفين يستغلّون تعلّق الجزائريين بدينهم الحنيف لتحقيق أغراض سياسية مشبوهة تندرج من دون شكّ في إطار مشاريع تخريبية وأجندات أجنبية معادية".
تحذيرات استباقية لـ"التيارات المتشددة"
منذ اللحظات الأولى، تمَّ الربط بين تصريحات شنقريحة وعمليات الجيش الجزائري التي نفّذها للقبض على العناصر المتطرفة وإحباط العمليات الإرهابية خلال الأسابيع الأخيرة، لكن البعض أكّد أن الأطراف التي يعنيها قائد الجيش ربما تضم مجموعات سلفية تتبع "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، وهي تنظيم إسلامي حظرته المحاكم الجزائرية منذ آذار/مارس 1992.
وينشط عدد من قادة هذا التنظيم المحظور في الساحة الجزائرية، مثل علي بلحاج الذي يُعدّ الرجل الثاني في "جبهة الإنقاذ"، والذي تُنسب إليه العديد من الخطابات المتشددة، وهو يصرّ منذ مغادرته السجن منذ نحو 20 عاماً على توجيه خطابات عنيفة ضد قيادات الدولة الجزائرية من داخل حلقات في المساجد أو عبر صفحته الخاصة في موقع "فيسبوك" أو من خلال استضافته في بعض المحطات الفضائية التي تبث من خارج الجزائر.
وكان بلحاج قد ألقى خطاباً مثيراً أمام حشد من أنصاره في 2 نيسان/أبريل الحالي، الذين هتفوا بشعارات الجبهة في تسعينيات القرن الماضي: "عليها نحيا وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد".
بحسب هذه القراءة، ستكون المؤسسة العسكرية التي تتحمل أعباء حفظ الأمن الداخلي وقت الأزمات قد اختارت أن تبعث رسائل استباقية إلى بلحاج وأعوانه بأنهم تحت الرصد والمراقبة، وأن أي تمادٍ في هذا المسار ستتم مواجهته بجدّية.
ويخشى الجزائريون عموماً أن تشهد بلادهم اضطرابات تعيدهم إلى الأجواء المرعبة التي عاشوها خلال فترة "العشرية السوداء" طوال تسعينيات القرن الماضي، إذ شهدت الجزائر صراعاً عنيفاً بين قوى الأمن الجزائري وفصائل مسلحة تتبنى أفكاراً موالية للجبهة الإسلامية للإنقاذ والسلفية الجهادية. وقد أدى هذا الصراع إلى وفاة نحو 150 ألفاً، إضافةً إلى خسائر اقتصادية فاقت الـ25 مليار دولار.
وكانت الجزائر قد شهدت في الآونة الأخيرة نشاطاً مكثفاً لبعض الحركات والجمعيات الإسلامية، يمكن رصده من خلال الحفلات التي أقيمت لتكريم الطلاب المتفوقين في المجالات الدينية والحملات التي تبناها شباب سلفيون لتحجيب الفتيات في الجامعات، إضافةً إلى تشكيك خطباء المساجد المحسوبين على التيار السلفي في فتاوى وزارة الشؤون الدينية، وهو ما برز في الآونة الأخيرة حين احتدم الخلاف حول آلية إخراج زكاة الفطرة (نقود أم حبوب).
لا تهويل ولا تهوين
في مواقع التواصل الاجتماعي، يقول ناشطون جزائريون إنَّ البلاد لا تزال تعاني التطرف والتعصب الديني، لكن لا يجب أن يتضخَّم الإحساس بالخطر من هذه الأمور إلى الحدّ الذي يجعلها تحتلّ الصدارة لدى المسؤولين، فيما تغيّب الموضوعات السياسية والاقتصادية ذات الأولوية.
في السياق ذاته، يرى معارضون أنَّ عودة الحديث عن أوضاع الجزائر خلال حقبة التسعينيات ربما تتّسم بالمبالغة، وتستهدف حشد الرأي العام خلف الدولة، باعتبارها القوة المناوئة للتنظيمات المتطرفة، والتي تستطيع لجمها والسيطرة عليها. كذلك، فإنَّ هذا الخطاب يسعى لاسترضاء "تيارات تقدمية" لديها حساسية من نشاط الجمعيات والحركات الدينية.
في مقابل وجهة النظر تلك، تبرز رؤية أخرى تؤكّد أنَّ العناصر السلفية المتطرفة لا تزال تمثل خطورة في مختلف الأقطار العربية، وأنها تنتهز فرصة ضعف الدولة أو تراجع شعبية السلطات الحاكمة لتطفو على السطح وتبدأ بتنفيذ أجندتها.
وقد برز هذا الأمر خلال أحداث "الربيع العربي"، إذ سيطر المتشددون على العديد من المناطق، وبدأوا بتطبيق أفكارهم المضادة للتنوع والمدنية والحداثة التي تخدم أجندات خارجية.
انطلاقاً مما سبق، يرى أصحاب تلك الرؤية أنّ على السلطات تحذير المواطنين من هذه المخاطر، وخصوصاً أنها تملك معلومات مُفصلة عن نشاط تلك الجماعات المتشددة.
رؤية الجيش الجزائري للتطرف وسبل مقاومته
في نهاية العام الماضي، كان السعيد شنقريحة قد كشف عن رؤية المؤسّسة العسكرية للتعصب الديني، إذ قال إن "التطرف ظاهرة تاريخية تتسم بالتحور والتعقد، ولا ترتبط بديانة دون أخرى، أو بمجتمع دون غيره، أو حتى بأيديولوجية دون سواها"، مشيراً إلى أنَّ "الاستغلال الخاطئ أو الوظيفي للأفكار والقناعات يؤسّس لمسارات تهدد الهوية والفكر، وحتى استقرار الدول".
وأوضح أنّ "ظاهرة التطرّف تأخذ أشكالاً تعبيرية مختلفة، وتقوم على منطلقات فكرية وعقائدية متباينة، بحسب الزمان والمكان، ولكنها تشترك في بعض المنطلقات القائمة على الاعتقاد الخاطئ بامتلاك الحقيقة ورفض الآخر ونبذه"، مشيراً إلى أنَّ بلاده عانت 10 أعوام كاملة من ويلات الإرهاب الذي هدد أركان الدولة ونظامها الجمهوري وسلامة المجتمع وتجانسه وتماسك هويته وخرّب الاقتصاد.
في الوقت ذاته، يتحسّس الجيش الجزائري من اتخاذ ملف الإرهاب مطية للتدخلات الخارجية، وهو ما برز مطلع نيسان/أبريل الجاري في تصريحات شنقريحة التي أكد فيها رفض الجزائر كلّ أشكال التدخل الأجنبي في المنطقة بذريعة مكافحة الإرهاب، لأنها مقاربة أثبتت التطورات الأخيرة الحاصلة في المنطقة إخفاقها الذريع، مؤكداً "إرادة الجزائر في إضفاء ديناميكية جديدة على جهود مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء".