بعد أحداث الساحل والسويداء... هل أصبح تقسيم سوريا أمراً واقعاً؟
مع المجازر البشعة التي شهدها الساحل في آذار الفائت، واندلاع المواجهات في السويداء التي شهدت حوادث قتل وإعدامات، بات من المشروع طرح السؤال: هل أصبح التقسيم أمراً واقعاً في سوريا؟
-
هل يُكتب الفشل لمخطط تقسيم سوريا؟
لا يلبث الحديث عن مخططات تقسيم سوريا يخبو ويخف وهجه، حتى يعود ليطفو على السطح من جديد مع كل محطة مفصلية في تاريخ هذا البلد... هذه المخططات التي يجري ترويجها تُنسب غالباً إلى جهات خارجية، إقليمية أو دولية، تعمل على تكريسها من خلال الاضطرابات والقلاقل، خدمة لمصالحها، لكننا لم نسمع من أي جهة معتبرة داخل سوريا أي دعوة للتقسيم، إلا في الأشهر القليلة الماضية، والتي أعقبت سقوط النظام السابق.
وربما يرجع ذلك إلى أن السوريين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الطائفية والمناطقية كانوا يرفضون أي طرح للتقسيم، ويؤمنون بالتعايش في كنف دولة واحدة موحدة، وقد كان خير تجسيد لهذا الشعار هو النضال الذي خاضه السوريون بعد إعلان الانتداب الفرنسي على بلدهم في بداية عشرينات القرن الماضي، وسعيه لحكم سوريا من خلال تقسيمها إلى 4 كانتونات، اعتمد في تقسيمها على البعد الطائفي فقط، وهو كان أول تقسيم من هذا النوع، حتى التقسيمات الإدارية المتعددة في عهد العثمانيين لم تقم على أي أساس طائفي، بل تبعاً لمصالح الدولة ورؤيتها الاقتصادية والاجتماعية، أو للتغيرات السياسية...
التقسيم الفرنسي لسوريا سعى لأول مرة إلى تكريس الانتماء الطائفي كحالة استقلالية، وتعزيزه لدى المكونات الطائفية، كمحاولته إغراء الدروز لتأسيس دولتهم في السويداء من خلال امتيازات متعددة، أو إغراء الشيعة بمحاكم شرعية خاصة بهم، أو محاولة شراء تجار حلب ودمشق وإغرائهم بالمناصب.
لكن رفض المكونات جميعاً للتقسيم ولإجراءات الانتداب كلها، جعل السوريين بكل مكوناتهم يثورون عليه، وهنا يسجل لأبناء المكونات التي باتت اليوم تسمى (أقليات) أنهم كانوا سباقين للثورة على المحتل ورفض مخططاته، ومن هنا قاد سلطان باشا الأطرش من جبل العرب الثورة السورية ضد الاحتلال، ولاقاه صالح العلي من جبال الساحل، وبالطبع كان لقيادات الثوار في دمشق وأعيانها، وكذلك لإبراهيم هنانو في حلب دورهم المركزي الفاعل.
خطاب سياسي يرفض التقسيم... وأفعال تدفع باتجاهه
حتى الأمس القريب كان السوريون يفتخرون بأجدادهم لرفضهم الاحتلال ومخططاته التقسيمية، لكن الأحداث التي شهدناها في الأشهر القليلة الماضية رفعت من منسوب مطالبات شعبية من قبيل (التقسيم، الإدارة الذاتية، الحماية الدولية…)، وبات الكثيرون لا يجدون حرجاً في طرح التقسيم، حتى من بعض من يرون أن السلطة الحالية في دمشق تمثلهم.
ورغم أن جميع الخطابات السياسية في سوريا، من النظام وحتى من معارضيه، لا تزال تُصرّ على الحديث عن "سوريا الواحدة الموحدة" والتمسك بالوطن الواحد، إلا أن الواقع على الأرض يشي بانقسام يتجاوز الجغرافيا إلى الطوائف والهويات. كما أن بعض الأفعال والقرارات تشي بأن البعض ومن دون أن يعي يدفع الآخرين باتجاه طلب التقسيم.
فمع المجازر البشعة التي شهدها الساحل في آذار الفائت، واندلاع المواجهات في السويداء التي شهدت حوادث قتل وإعدامات وإهانات، بات من المشروع طرح السؤال: هل أصبح التقسيم أمراً واقعاً في سوريا، حتى وإن لم يُعلن رسمياً؟
السلطة: وحدة الدولة... ولكن؟
النظام السوري الحالي لا يفوّت فرصة لتأكيد تمسكه بوحدة البلاد وسيادتها، كما أن حرصه على فرض سلطة الدولة على الساحل السوري وسحب السلاح من مختلف المناطق، ومحاولة إعادة مؤسسات الدولة إلى السويداء، وأيضاً مفاوضاته مع الكرد، يشي كل ذلك بحرصه على الحفاظ على وحدة البلاد.
لكن السياسات التي يتبعها تُظهر تناقضاً بين الخطاب والممارسة.
ففي الوقت الذي تروّج فيه السلطة لخطاب وطني جامع، تغضّ الطرف عن تصاعد الخطاب الطائفي، وتسمح لأذرعها الإعلامية والأمنية بل حتى العسكرية بتكريس الفروقات والتمييز في التعامل مع مختلف المكونات.
بل إن عدم قدرتها – أو عدم رغبتها – في حماية مناطق كالسويداء، أو وضع حدّ للفوضى الأمنية في الساحل، يجعلها تظهر كأنها تدير أزمة التقسيم بدلاً من أن تُحاربها.
في السويداء، تُركت المنطقة لمصيرها الأمني، وسُمح للصدامات بين البدو والدروز أن تتوسع وتأخذ مداها، ولم يُعمل على حل، سواء كان أمنياً أم اجتماعياً لمنع الصدام، بل إن بعض الممارسات أوحت للبعض بأن السلطة تنتظر الصدام حتى تجعل منه ذريعة للقضاء على المسلحين الدروز والسيطرة على المحافظة بالقوة العسكرية.
وفي الساحل، رغم أن السلطة أعلنت عن لجنة للتحقيق في المجازر، إلا أنها لم تعلن نتائجها حتى ساعة كتابة هذا المقال، ولم تحاسب أحداً أو تسجن مقاتلاً، كما أن حوادث القتل والخطف استمرت بوتيرة يومية هناك، وتصاعد الفلتان الأمني يوماً بعد آخر، ما عكس احتقاناً داخلياً واسعاً شمل حتى المحسوبين على البيئة المؤيدة للسلطة.
تقسيم الأمر الواقع
خريطة السيطرة في سوريا اليوم لا تعكس وحدة دولة، بل فسيفساء سلطات أمر واقع ومجتمعات منفصلة وخائفة ومعزولة عن بعضها:
- شمال شرقي البلاد بيد الإدارة الذاتية الكردية (قسد).
- الجنوب في السويداء تحت سلطة الدروز، التي تأكدت بعد أحداث اليومين الماضيين.
- الساحل، وبرغم سيطرة السلطة عليه أمنياً إلا أن النداءات والدعوات ما زالت تنطلق مطالبة بالحماية الدولية.
أما الوسط والأطراف فتسيطر عليها حكومة الشرع اسمياً، أما السيطرة الفعلية فهي لقادة بعض الفصائل والمتزعمين، وخصوصاً في الأرياف.
كل منطقة من هذه المناطق لها قوانينها، ومرجعياتها الطائفية، وإن بقيت خاضعة اسمياً لدمشق. هذا الانقسام الإداري والفعلي قد لا يُعتبر "تقسيماً رسمياً"، لكنه يؤسس لواقع يصعب التراجع عنه، وخصوصاً أن الأفق بات مسدوداً على الاتفاق مع الكرد، وفرض سيطرة الدولة في الشمال والشمال الشرقي، وبعد أحداث السويداء باتت عودة مؤسسات حكومة دمشق وأذرعها الأمنية إلى المحافظة أمراً صعباً جداً، يحتاج إلى اتفاقات تتدخل فيها دول إقليمية ودولية وضمانات، قد لا تقوى حكومة الشرع على الوفاء بها.
التدخل الإسرائيلي: "حماية" أم استثمار في الانقسام؟
"إسرائيل"، التي ما زال القانون السوري يعتبرها "عدوة"، لا تكتفي بالمراقبة عن كثب، بل تتدخل بشكل كبير بما يحقق مصالحها، ويكرس الضعف والانقسام السوريين، وهي التي لطالما كانت من أبرز المستفيدين من تفكك سوريا وضعفها، كونها كانت داعمة للمقاومة الفلسطينية واللبنانية، ورافضة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وغير مستعدة للتفريط بأي شبر من الأراضي المحتلة.
التدخل الإسرائيلي الأخير والوقح في ملف السويداء، تحت عنوان "الدفاع عن الدروز"، لا يمكن فصله عن المصلحة الإسرائيلية في خلق كيان درزي مستقل أو شبه مستقل يُشكّل "حزاماً آمناً" على حدود الجولان، وكذلك الإسهام في إضعاف سلطة دمشق، حتى لا تملك أي أوراق قوة في المفاوضات التي كانت تجري بين الطرفين، برعاية أميركية.
وخصوصاً أن التدخل الإسرائيلي الأخير وضرب قلب دمشق في مبنى الأركان وقصر الشعب، جاءا عقب أيام من لقاءات مباشرة في باكو بين الشرع ومسؤولين إسرائيليين، وربما بإدراك الإسرائيليين أن الشرع غير قادر على إتمام صفقة تطبيع معهم أو الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، واقتصار مطالباته على العودة إلى اتفاق فض الاشتباك 1974.
الخطاب الإسرائيلي المتكرر عن "حماية الأقليات"، وخصوصاً الدروز، يحاول اللعب على الخوف من التجاوزات التي يقوم بها المتطرفون في قوات الحكومة أو المسلحين المحسوبين عليها، وإظهار "إسرائيل" بصفة الحامية لهم، وتحقق بذلك بقاء الجنوب السوري منزوع السلاح وحديقة خلفية للقوات الإسرائيلية التي باتت تسيطر على أجزاء منه سيطرة فعلية، وتحلم بالسيطرة على الباقي من خلال الولاءات.
ناهيك عن الصراع الإقليمي بينها وبين تركيا التي باتت ترعى النظام الجديد في دمشق، وترى فيها "إسرائيل" تهديداً لسلطتها في المنطقة، بحيث لا يرغب الإسرائيليون برؤية قوات تركية بالقرب من حدود فلسطين المحتلة، بعد أن شعروا أنهم تخلصوا من الخطر الإيراني قرب هذه الحدود.
هل يُكتب الفشل مجدداً لمخطط التقسيم؟
لكن، ورغم كل المؤشرات ورغم كل الحشد والتجييش الطائفي المقيت الذي يزرع الخلاف والتباغض بين المكونات السورية، لا تزال في الجغرافيا السورية عوامل وحدة قوية:
- الذاكرة الجمعية لشعب قاوم الانتداب والاحتلال بوصفه شعباً موحداً.
- رفضٌ شعبيٌ واسعٌ لدى معظم المكونات لأي تقسيم رسمي، وخصوصاً لدى النخب.
- الروابط الاجتماعية والاقتصادية بين المناطق المختلفة، والاختلاط الكبير بين هذه المكونات طوال قرن كامل من الزمن.
كما أن فشل مشروع التقسيم الفرنسي في العشرينات، يُظهر أن مثل هذه المشاريع قد تُبنى على الورق، لكنها تنهار أمام صمود المجتمعات ووعيها.
التقسيم في سوريا اليوم ليس مجرد سيناريو نظري أو نظريات مؤامرة، بل هو واقع يتكرّس شيئاً فشيئاً عبر الجغرافيا، والطوائف، والمصالح الإقليمية والدولية. لكن تكريسه وتعميقه مرهون بعدم تحرك وطني حقيقي؛ تحرك يقع على عاتق الفئة الطائفية الأكبر (السنة) والتي مطلوب من رموزها الدينيين ووجهائها قيادة تحرك مجتمعي جامع لتطمين المكونات الأخرى والدفاع عنها في وجه المتطرفين والأجانب، وإعادة وصل ما انقطع في هذه الشهور المريرة.
أما إذا استمرّت السلطة في إدارة الانقسام بدل مواجهته، وتغذية التجييش الطائفي عبر الحلول الأمنية والعسكرية، وعدم ضبط الخطاب الطائفي وتجريمه، وكذلك عدم ضبط الأمن، والإصرار على التفرد في السلطة وعدم إجراء تغييرات سياسية جذرية في المرحلة الانتقالية تشعر الجميع بالانتماء والمشاركة، فإن دعوات التقسيم ستتعمق وستلاقي أيدي خبيثة من الخارج تدفعها وتدعمها، وسيتحول هذا الواقع المؤلم إلى مصير.
أما إذا انتبه السوريون إلى خطورة اللحظة، وبدأت قوى الداخل – لا الخارج – بصياغة مشروع وطني جامع، فقد يُكتب الفشل مجدداً لهذا المخطط، وتبقى سوريا، كما كانت، وطناً واحداً لكل أبنائها ومكوناتها.