انفجار المرفأ فوق نار "الاتهام السياسي"

يعود "الاتهام السياسي" إلى واجهة النقاش العام في لبنان، من بوابة قضية انفجار مرفأ بيروت. كيف طُبخ الاتهام السياسي على نارٍ هادئة؟ وما المطلوب منه؟

  • بدعة
    بدعة "الاتهام السياسي" في لبنان.

لا يزال ملف الانفجار الهائل، والذي ضرب مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس 2020، الشغلَ الشاغل للنقاش العام في لبنان هذه الأيام، على الرغم من وصول الأزمة، اقتصادياً ومالياً، إلى سقوف لم تعرفها البلاد طوال تاريخها منذ تأسيس الدولة حتى اليوم.

لقد تحوّلت القضية خلال عامٍ، منذ بدايتها، إلى قضية رأي عامٍ بامتياز، وانتقلت بالتدرُّج من كارثة إنسانية أفرزتها النتائج المباشِرة للانفجار، إلى قضية قانونية مع بدء التحقيقات بشأن الأسباب والمسؤوليات، لتصل اليوم إلى قضية سياسية تدور حولها النقاشاتُ، من أعلى المواقع الدستورية في البلاد إلى كل مواطن فيها.

القضية، في طبيعتها، بالغة الحساسية، الأمر الذي يزيد في صعوبة البحث فيها، مع عدم كشف المحقّق العدلي تفاصيل الدلائل والمستندات التي يحوزها، وبقاء أغلبية المعلومات المتداولة عنها في إطار التحقيقات الإعلامية والتحليلات السياسية. فالحدث الجَلَل حصد أرواح 216 ضحية، فضلاً عن جرح ما يربو على ستة آلاف جريح، بالإضافة إلى دمار هائل في مناطق واسعة من العاصمة اللبنانية، بتكلفة مالية هائلة.

بدعة "الاتهام السياسي" في لبنان

إن دقّة القضية، والأثر النفسي الذي أحدثته في نفوس اللبنانيين، أدّيا إلى تعاطي مختلف القوى السياسية معها بحساسية مفرطة. وعلى الرغم من أن قوى معينة بدأت، منذ اللحظة الأولى، محاولات لتحميل المسؤوليات لخصومها السياسيين، غير أن ذلك بقي في إطار الابتكار اللبناني المسمى "الاتهام السياسي"، بحيث يخرج مسؤولون سياسيون وحزبيون باتِّهام مباشِر لخصومهم بتنفيذ اغتيال معين أو جريمة ما، وعندما يُسألون عن الدلائل والقرائن التي بنوا اتهاماتهم على أساسها، يُرجعون ذلك بكامل الثقة والاندفاع إلى كونهم لا يحكمون قضائياً، وإنما هم "يتهمون سياسياً".

لكن هذا الاتهام السياسي، على فراغه من المضامين الجدّية، لا يكون منعدم الأثر، ذلك بأنه يخلق انطباعات عند العامّة، عصية على النسيان من ناحية، وتؤدي إلى سهولة الاستثمار السياسي فيها وتحقيق نتائج سياسية ضد الخصوم، من ناحيةٍ ثانية. إنه اتهامٌ هوائيٌّ غير مُسْنَد، لكنه في الوقت نفسه أداة حرب سياسيّة فاعلة، من دون أن تتمكن سطوة الدولة وهيبتها، أو سلطة القضاء ووهجه، من منع مطلقي هذه الاتهامات، بصرف النظر عن هوية المتهِم أو المتهَم أو القضية.

يعرف اللبنانيون جيداً هذا النوع المبتكَر من الاتهام الذي ساد في البلاد بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005، بحيث دعمت القوى الغربية، بزخمٍ كبير، مساراً لإخراج سوريا من لبنان، بجيشها ونفوذها. وحمّلت القوى الحليفة للغرب، والتي انضوت ضمن تحالفٍ واسع سُمّي تحالف "14 آذار"، سوريا مسؤولية الاغتيال. ودرج يومها أن يُطلَق الاتهام السياسي بحق سوريا وحلفائها تحت صيغة أن "النظام الأمني اللبناني - السوري" هو الذي اغتال الحريري. وعلى تلك القاعدة تشكّلت موجة عارمة من الضخّ الإعلامي والترويج الجماهيري لهذه "الحقيقة المطلقة"، والتي لا يرقى إليها شكٌّ. وفي غبار تلك الموجة، تمّ اعتقال أربعة ضبّاط من قادة الأجهزة الأمنية في تلك الفترة، باعتبار أنهم المسؤولون المباشرون عن ذلك النظام الأمني، وأُودعوا السجن أشهراً طويلة، خسروا خلالها جزءاً كبيراً من سمعتهم واعتبارهم عند قسمٍ كبير من اللبنانيين، كمتهَمين مدانين "سياسياً".

بعد أشهر قليلة، وتحديداً قبل الذكرى الثالثة للجريمة في عام 2008، تغيّرت الأجواء الخليجية - السورية، فزار حلفاء سياسيون للخليج من قوى "14 آذار" سوريا، أبرزهم سعد الحريري، نجل الرئيس رفيق الحريري الذي تعرض للاغتيال. وكانعكاس لهذا التحوّل، تحوّل الاتهام باغتيال الحريري من سوريا نحو حزب الله. اتهامٌ سياسيّ مرة أخرى. خرج الضباط الأربعة من السجن، ثم تبيّن أن لا أساس قانونياً لاتهامهم. إنه مجرد انطباع قاد المتهِمين إلى الاتهام السياسي، لكن النتيجة السياسية في المحطات التي جرت كانت قد تحققت من الاتهام السياسي نفسه. فاز فريق "14 آذار" في الانتخابات النيابية عام 2005، وشُكّلت الحكومات بعد ذلك على قاعدة هذا الانتصار المبني، في جانبٍ أساسي منه، على الاتهام السياسي الذي ثبت بطلانه لاحقاً.

جرى ذلك في كنف محكمةٍ دولية خاصة تشكّلت على أساس أن تكون مستقلةً لكشف حقيقة من اغتال الحريري. ومع ما يفوق مليار دولار من التكلفة المالية، ومئات الأفراد المتخصّصين بمجالات متعددة، ودعم دولي من دول ومنظمات، لم تتمكن المحكمة الدولية من النجاة من شرك الاتهام السياسي؛ هذا الاختراع اللبناني الجاهز عند كل منعطف، للاستخدام السياسي بكل خفّة.

"الاتهام السياسي" على نارٍ هادئة

أدّت الخسائر التي أحدثها انفجار مرفأ بيروت إلى إطلاق موجة غضبٍ شعبيّ عارم، وإلى طرح تساؤلاتٍ كبرى محيِّرة للبنانيين: من أتى بشحنة "نيترات الأمونيوم" إلى مرفأ بيروت عام 2013؟ وهي التي كانت عابرة من جورجيا إلى الموزمبيق. لأي غرض؟ ومن أبقاها في مرفأ بيروت؟ وكيف تم الحجز على حمولة الباخرة؟ ولماذا لم ترحَّل هذه المواد أو تُتلَف؟ من أراد إبقاءها في قلب العاصمة اللبنانية عبوةً نائمة؟ ولماذا لم يتحرك المسؤولون من أجل درء هذا الخطر عن اللبنانيين طوال سنواتٍ سبع قبل انفجار الشحنة؟ وتبعاً لذلك، لماذا لا يبدو أحدٌ مسؤولاً اليوم عن هذا الخطأ، أو تلك الجريمة؟

لعلّ هذه الأسئلة ــ كما الضحايا ــ لا تقتصر على فئة لبنانية بعينها، بل تمتد لتشمل جميع اللبنانيين من دون استثناء، بحيث إنّ من الواضح جداً أن جميع اللبنانيين غاضبون اليوم، ويريدون فعلاً معرفة حقيقة هذه القضية. في جريمة اغتيال الحريري، كان اللبنانيون جميعاً يريدون معرفة الحقيقة أيضاً. لكن التفاعلات السياسية اللاحقة - محلياً وخارجياً - جعلت بعضهم يريد "أي حقيقة": أعطِنا مجرماً وسوف نرضى به. في حين أن البعض الآخر كان يشعر بالاستهداف، وبالحاجة إلى معرفة المجرمين الحقيقيين، وليس مجرد ختم الملف على نتائج سياسية مربحة لطرفٍ معين، ومريحة لأولياء الدم.

اليوم، بعد أشهر من بدء التحقيقات، وتغيير المحقق العدلي الأول في القضية القاضي فادي صوّان، واستبدال القاضي طارق البيطار به، على خلفية دفع عددٍ من المتهمين الذين استدعاهم بـ"الارتياب المشروع" ضده، كونه أعلن تضرّر منزله جراء الانفجار، وتبعاً لكلامٍ نقلته عنه الصحافة يتوعَّد فيه المتهَمين، تتجه القضية إلى مزيد من التعقيد.

الاتهام السياسي بدأ من الأيام الأولى بعد الانفجار. قوى مناهضة للمقاومة وجَّهت مباشَرةً أصابع الاتهام إلى حزب الله والدولة السورية. لكن ذلك بقي خافتاً وغير جديّ، مع عدم صدور إشارات عن التحقيق ترسّخ هذا الانطباع، وتمتّن ذلك الاتهام. تعاطت المقاومة مع الملف طوال الأشهر الماضية على أساس ترك التحقيق لأهله، مع المطالبة المتكررة بكشف الحقائق للناس بصورة عامة، ولأهالي الضحايا بصورة خاصة، من باب العدالة، وشعوراً إنسانياً مع العائلات المفجوعة.

عزّزت هذه المقاربةَ مفارقةٌ لافتة يتبايَن فيها التعاطي مع هذه القضية عن التعاطي مع قضية اغتيال الحريري. وهي تتمثّل بعدم ظهور الضغط الغربي للتوجيه السياسي للاتهام ضد المقاومة إلى العلن. اكتفت القوى الغربية بدعم التحقيقات، من دون أن تتهم المقاومة أو سوريا. وركزت على دعم منظمات المجتمع المدني، وتحضيرها لدورٍ سياسي، من خلال تكرار المواقف الرسمية الأميركية والفرنسية تحديداً، والتي تقول فيها الدولتان إن الطبقة السياسية اللبنانية غير مسؤولة، وهي فاسدة. وبالتالي، فإن المساعدات يجب أن تقدَّم مباشرةً إلى الشعب اللبناني. تعبير "الشعب اللبناني" انعكس عملياً وعملياتياً على أنه "جمعيات المجتمع المدني" حصراً.

الاستحقاقات تقرّب الاتهام المباشِر

خلال الأشهر الأخيرة، وخصوصاً الأسابيع الأخيرة، سُجِّل تزخيم إعلامي للاتهام السياسي للمقاومة بالضلوع في القضية. حدث ذلك من خلال مواقف سياسية متطرّفة، صدرت بصورةٍ مباشِرة عن ناشطين في منظمات المجتمع المدني، وعن قيادات سياسية متطرفة حليفة للغرب، وكانت أكثر وضوحاً وفجاجةً في الاستماتة الإعلامية لتوجيه الاتهام نحو المقاومة، ومعها سوريا. وصل الأمر إلى حدود أن تستقبل وسائل إعلامية متلفَزة أشخاصاً من موظفي المرفأ، وتلقينهم الإجابة التي تتهم المقاومة على الهواء مباشرةً. لم تكن الأسئلة إيحائية فقط، بل كان الجواب في السؤال أكثر وضوحاً من علامة الاستفهام في آخره. يسأل المحاور: أنت فعلت كذا وكذا، ونقلت موادَّ من المرفأ، إلى أين؟ يجيب: إلى الجنوب. ثم يعلو التصفيق، ويٌثْني المحاوِر على الشاهد المزعوم محفّزاً: يقولون لك في الخارج إن ما تقوله مهم جداً وخطير، لا تَخَف.

بالمناسبة، خلال مرحلة التحقيق في اغتيال الحريري، والتي كانت مرحلة "الاتهام السياسي"، اشتهرت قضية "شهود الزور"؛ أولئك الذين تم تلقينهم للإدلاء بإفاداتهم التي تتهم سوريا باغتيال الحريري. وهو ما افتُضح أمره لاحقاً. واليوم، يعيد هذا الاستنطاق التلفزيوني تذكيرَ اللبنانيين بتفاصيل تلك المرحلة. وهذا ما يعزز انطباعاً بدأ يتسع، مفاده أن القضية الإنسانية الكبيرة المتمثّلة بضرورة معرفة حقيقة الانفجار، لإراحة أرواح الشهداء وعائلاتهم والجرحى وأُسرهم وكل اللبنانيين، باتت في مساحة خطر الاتهام السياسي.

الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، صبر سنةً كاملة قبل قولها. قبل أيام قليلة، خرج في خطاب متلفَز، وفي لحظة سياسية دقيقة، شهدت خلالها البلاد سلسلة كمائن لاستدراج المقاومة إلى صراعٍ داخلي خسرت خلاله أربعةَ مقاومين في خلدة، وتعرّضت قافلة صواريخ للتوقيف والمضايقة في أثناء عودتها من تنفيذ الرد على قصف الطائرات الإسرائيلية للأراضي اللبنانية في اليوم السابق؛ خرج نصر الله ليعلن أن قاضي التحقيق في ملف الانفجار طارق البيطار "مسيَّس"، وأنه "يشتغل سياسة"، وأن التحقيق بذاته مسيَّس أيضاً. ومع أن كلام السيد لم يرقَ إلى درجة الهجوم على المحقق العدلي، إلا أنه طالبه بـ"إعادة الملف الى المسار الطبيعي".

أتت هذه المطالبة بعد تحوّل التقارير الإعلامية إلى محاكم متنقّلة، منقولة على الهواء مباشرة. موجة من التقارير التي توجّه أصابع الاتهام إلى المقاومة. ومجدَّداً اتهام سياسي لا قرائن فيه. لكنّ اللافت في هذه التقارير، المتكاثرة على جنبات التحقيق القضائي، أن كثيراً منها يستند إلى معلوماتٍ وإيحاءاتٍ يقول ناقلوها إنها صادرة عن قلب التحقيق القضائي نفسه، وصولاً إلى نقل كلامٍ عن لسان المحقق نفسه، وخروج هذا الأخير عبر الإعلام مرةً وحيدة ليدافع عن تحقيقه.

إلى جانب ذلك، يستند كلام نصر الله إلى وقائع أخرى؛ وقائع فعلية تؤكدها الأحداث، تُخرج اتهامه للمحقق بتسييس القضية من خانة "الاتهام السياسي"، وتضعه في خانة الاستنتاج المنطقي، حيث يصر المحقق العدلي على استدعاء عدد قليل من المسؤولين (رئيس حكومة ووزراء وقادة أجهزة أمنية) شغلوا مناصب مرّت خلالها المعلومات عن وجود المواد المنفجرة، أو تدخلت في القرار بشأنها، من دون أن يستدعي مسؤولين آخرين شغلوا المواقع نفسها التي مرّت بها تلك المعلومات خلال فترة وجود المواد في المرفأ (أيضاً رؤساء ووزراء وقادة أجهزة أمنية)، في تجاوز واضح لمبدأ "موازاة الصيغ"، ومن دون تبرير قانوني، سوى ما تتناقله وسائل إعلام "الاتهام السياسي" بقولها إن لدى المحقق العدلي دلائلَ لا يكشفها إلاّ في الوقت الملائم. 

بناءً على تجربة التحقيق في اغتيال الحريري، يسود تخوُّف، عند قسمٍ كبير من اللبنانيين، من أن يكون هذا "الوقت الملائم" مرتبطاً بالاستحقاقات الدستورية المقبلة بعد أشهر في عام 2022، بحيث يتم استغلال الاتهام لتحقيق نتائج سياسية ضد المقاومة وحلفائها. ثم بعد أن يتحقق ذلك، لا ضير من القول إنه كان مجرد "اتهام سياسي" آخر، فآذان اللبنانيين اعتادت مبدأ الاتهام السياسي، وقبلته سابقاً، ويمكنها قبوله الآن.

ولمنع ذلك، تجب الإجابة عن مجموعة من الأسئلة الجوهرية، والتي تساعد على إبعاد التسييس، ولا تضر المسار القضائي: ما الفوارق بين المسؤولين المستَدْعين إلى التحقيق ونظرائِهم في المواقع نفسها، خلال فترة وجود المواد الخطرة نفسها، والتي استدعت من المحقّق التمييزَ بينهم؟ أين الدليل؟ لماذا لا ينشر القضاء نتائج التحقيق الفني التقني؟ ما علاقة ما يجري بشركات التأمين وموقفها من دفع قيمة التأمينات على الأضرار التي وقعت؟

في المرة الماضية، كان الاتهام السياسي غربيَّ المنشأ والتزخيم والتمويل (مع مشاركة اللبنانيين في تمويل المحكمة). اليوم، ترى المقاومة في الاتهامات الموجَّهة إليها "استهدافاً سياسياً، مدفوعاً ثمنه أميركياً وسعودياً، وفي خدمة إسرائيل".

في 4 آب/أغسطس 2020 دوى الانفجار وغطى الغبار شوارع بيروت، تفجرت شحنة نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت وتغير شكل المدينة منذ ذلك الوقت، شهداء وجرحى ودمار.. تصاحب ذلك مع أسوأ أزمة اقتصادية سياسية عاشها لبنان.