الوحدة الداخلية لن تدوم: "إسرائيل" أمام تحديات وجودية
بعد الحرب، ستعود الانقسامات الداخلية أكبر مما كانت، وقد تؤدي فعلاً إلى احتراب إسرائيلي داخلي في ظل قيام بن غفير بتسليح المستوطنين المتطرفين، وسعي اليمين لتحويل "إسرائيل" إلى "دولة توتاليتارية" يمينية متطرفة.
نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن وزير الأمن الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، قوله إنه تم توزيع 170 ألف قطعة سلاح على المستوطنين، منذ بداية الحرب على غزة، مؤكداً مواصلة تسليحهم. بالتوازي، تزداد الانقسامات داخل "إسرائيل" حول موضوع تجنيد الحريديم الذي أقرته المحكمة العليا، والذي يرفضه اليمين الإسرائيلي بقوة، فيما يرى العديد من الإسرائيليين أن هذا الموضوع يحتوي تمييزاً غير مقبول بين المواطنين، إذ يموت البعض بينما يجلس آخرون في مدارسهم الدينية ويقبضون الأموال الطائلة.
من ناحية أخرى، يسعى اليمين الإسرائيلي إلى استغلال الحرب الدائرة في غزة ولبنان لفرض قوانين كان قد تمّ رفضها في السابق، ومنها قانون مراقبة التعليم. يدرس الكنيست الإسرائيلي حالياً مشروع قانون تقدم به نواب من الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة، وعلى رأسهم حزب الليكود، يدعو إلى إخضاع القطاع التعليمي لسلطة "الشاباك"؛ وذلك لمراقبة المدارس والمناهج التعليمية والجهاز التعليمي. وكانت تلك الأحزاب - قبل حرب غزة- دعت إلى مراقبة ما يزيد على 250 ألف معلم إسرائيلي "يهود وعرب" والغوص في ملفاتهم الشخصية وتفنيدها إذا لزم الأمر، وذلك "من دون إجراء تحقيق قضائي مسبق"، بذريعة تسهيل فصل المشتبه بهم في "دعم الإرهاب".
ومع نمو اليمين المتطرف، يخشى العديد من الإسرائيليين من أن يكون مصير "إسرائيل" كمصير الممالك التي أسسها اليهود في التاريخ، إذ إن "التفكك الوطني" الذي دمّر المملكتين اليهوديتين السابقتين في التاريخ، يظل خطراً حاضراً على الدوام في الوعي الجمعي الإسرائيلي، ويحذّر هؤلاء من أن اليمين المتطرف قد يكون شرارة التفكك، أو ما يطلق عليه "لعنة العقد الثامن"."
ما هي "لعنة العقد الثامن" اليهودية؟
تشير المصادر اليهودية إلى أن اليهود حكموا أنفسهم مرتين تاريخياً، ولكن خلافاتهم الداخلية أدت إلى تبديد تلك "الممالك"، وتشريد اليهود في أقاصي الأرض، وهما:
- المملكة اليهودية الأولى أسسها الملك داود، وحققت إنجازات وظلت موحدة لمدة 80 عاماً. وفي العام الحادي والثمانين، وبسبب الصراعات الداخلية، تفككت مملكة داود إلى مملكتين منفصلتين هما يهودا وإسرائيل، وهكذا بدأ سقوطها، وتفتّت القبائل الموجودة فيها وتشرذمت.
- المملكة اليهودية الثانية هي مملكة الحشمونائيم (استمرت لغاية سنة 37 قبل الميلاد). وقد استمرت هذه المملكة 77 عاماً كمملكة موحدة. وفي العقد الثامن من عمرها، بدأ الاقتتال الداخلي على العرش، ما دفع المتحاربين إلى اللجوء إلى روما للحماية. وبعدها، أصبحت مملكة الحشمونائيم تابعة للإمبراطورية الرومانية.
وفي محاولة لتبديد هذا القلق الوجودي، وعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الإسرائيليين، في عام 2017، بالعمل على تخطي عقدة العقد الثامن، قائلاً: "سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمناً، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة".
الوحدة الحالية لن تدوم
أما اليوم، وبالرغم من الوحدة الظاهرية، فإن الانقسامات الإسرائيلية العميقة قد تجعل مسألة الاحتراب الداخلي مسألة وقت فحسب.
إن ما يظهره الإسرائيليون من "وحدة" اليوم، لا يمكن أن يُبنى عليه، لأنه ينطلق من مبدأ معروف في العلاقات الدولية وعلم الاجتماع السياسي، ويسمى "متلازمة الالتفاف حول العلم"، وهو مفهوم يستخدم لشرح زيادة الدعم الشعبي "قصير الأمد" لحكومة دولة ما أو قادتها السياسيين خلال فترات الأزمات الدولية أو الحروب.
وتشير نظريات الحرب إلى أن أحد أسباب الحروب قد تكون محاولة أحد الزعماء استغلال ظاهرة "الالتفاف حول العلم"، فيقوم بافتعال أزمة دولية لتحويل الانتباه عن القضايا المحلية وتعزيز معدلات شعبيته عندما تبدأ في التدهور.
وعليه، وبالرغم من أن استطلاعات الرأي الحالية تظهر نوعاً من "الوحدة الداخلية" الإسرائيلية وتأييداً لسياسات اليمين المتطرف وحكومة نتنياهو، لكن هذا لا يلغي أنه بمجرد أن تنتهي الحرب (مهما كانت نتائجها العسكرية التكتيكية)، ستكون "إسرائيل" أمام أخطار استراتيجية كبرى، في ظل تحوّلها إلى "دولة" منبوذة عالمياً.
بعد الحرب، ستعود الانقسامات الداخلية أكبر مما كانت، وقد تؤدي فعلاً إلى احتراب إسرائيلي داخلي في ظل قيام بن غفير بتسليح المستوطنين المتطرفين، وسعي اليمين لتحويل "إسرائيل" إلى "دولة توتاليتارية" يمينية متطرفة، خصوصاً إذا ما عانى الاقتصاد الإسرائيلي من أزمات حادة، وهو أمر متوقع بشدة بعد الحرب.
إن ما سبق يدفع عدداً من الباحثين الإسرائيليين إلى التنبيه إلى أن الفلسطينيين واللبنانيين وحتى إيران ليسوا التهديد الحقيقي لـ"إسرائيل"، بل إن الانقسام والاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي، ونمو اليمين المتطرف يشكل تهديداً وخطورة أكبر على مستقبل المشروع الصهيوني في "إسرائيل".