الهدم في الشيخ جراح والتجريف في النقب لم يهزما الإرادة

الاستيطان في الفكر الصهيوني مرتكز أساسي من مرتكزات المشروع الصهيوني، والذي لا يجرؤ أيّ حزب صهيوني على الاقتراب منه.

  •  المحتل تصرّف كلصّ خائف ومرتعب، سارع إلى إزالة ركام بيت صالحية
    المحتل تصرّف كلصّ خائف ومرتعب، سارع إلى إزالة ركام بيت صالحية

هُدم بيت صالحية في الشيخ جرّاح وجُرفت أراضي عرب الأطرش بالقرب من قرية سعوة في النقب... والهدف واحد في كلتا الحالتين، وهو الاستيلاء على المكان، والأرض، وتغيير هويتها وطابعها، وطرد وتهجير قسري، وتطهير عرقي، وجرائم حرب... وذلك بفعل آلتهم العسكرية وميزان القوى المختل لصالحهم... وفي ظل حالة الضعف والتشظي والانقسام الفلسطيني، وعجز القيادة غير المسبوق، وانهيار النظام الرسمي العربي وانبطاحه، الذي لم يعد "يهرول" نحو التطبيع مع المحتل فقط، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بتبنّي روايته حول قضيتنا وحقوقنا الفلسطينية، وإقامة أحلاف استراتيجية عسكرية وأمنية معه، وهناك مَن "أوغل" أكثر من ذلك بتوقيع اتفاقيات عسكرية مع المحتل، كما هي حال النظام المغربي، المغتصب لشرعية تمثيل لجنة القدس.

نعم، نجح المحتل بقوة السلاح والحراب في هدم منزلَي صالحية وشقيقته في الشيخ جرّاح. المحتل تصرّف كلصّ خائف ومرتعب، سارع إلى إزالة ركام بيت صالحية، وهو الذي كان يحرص دائماً على مطالبة المقدسي الذي يهدم بيته بإزالة ركامه على حسابه... صالحية المعتقل الآن، والمتوقع الإفراج عنه الليلة، والذي شُرّدت عائلته في نكبة جديدة، بعد نكبة التهجير من قرية عين كارم في القسم الغربي من المدينة عام 1948... سجّل موقفاً نوعياً مشرّفاً، في الدفاع عن بيته... حاول قدر الإمكان أن يحمي بجسده بيته الذي تمترس وتحصّن فيه، رافضاً الخروج منه إلا إلى القبر أو العودة إلى"عين كارم"... ولكن حدود طاقات وإمكانيات صالحية لم تمكّنه من البقاء في البيت، الذي تسلّل إليه الغزاة فجراً، وقاموا بتدميره بآلياتهم وجرافاتهم، بعد أن حشدوا أعداداً كبيرة من جيشهم وشرطتهم وقواتهم الخاصة، وآليات التدمير. اقتحموا البيت فجراً واعتدوا على كل من كان موجوداً فيه من سكانه ومن المتضامنين معهم، قبل أن يعتقلوهم... ولكن رغم كل هذا الدمار والخراب والهدم، لاستكمال مشاريع التهويد في منطقة الشيخ جراح، المغلّفة بحجج وذرائع كاذبة ومخادعة ومضلّلة، إقامة مدارس للسكان الفلسطينيين في تلك المنطقة.

صالحية رغم هدم بيته واعتقاله، أضحى أيقونة وأنموذجاً... ومن يزايدون عليه كانوا كالفئران مختبئين في جحورهم.

هدموا بيت صالحية، ولم ينتظروا قرارات محاكمهم، تلك المحاكم التي أصدرت قراراً بإبعاد  صالحية، وليس والدته وأسرة شقيقته، ولم يكن هناك قرار بهدم البيت، وعيّنت جلسة للنظر في قرار الإخلاء في الـ25 من الشهر الحالي، ولكن هذه المحاكم المتفرعة من جهاز قضاء عنصري، يوظّف لخدمة الجمعيات الاستيطانية، استعجلت الأمر، حتى لا تصبح قضية بيت صالحية كقضية بيوت أهالي حيّ الشيخ جرّاح الشرقي "كرم الجاعوني"، قضية رأي عام وقضية دولية، وهذا يعطّل عليهم مخططاتهم ومشاريعهم الاستيطانية، هم يتحدثون عن بناء مدارس للسكان الفلسطينيين في المنطقة، ولذلك يجب توكيل محامين  فلسطينيين وعرب ودوليين، لمتابعة مصير تلك الأرض، هل ستُبنى عليها مدارس حقيقةً، أم هي ستُستغلّ لصالح المشاريع الاستيطانية والتهويدية، فما حدث في الشيخ جرّاح مِن هدم لبيت صالحية، جريمة حرب بامتياز. 

أما في النقب، والأسلوب الجديد للسيطرة على أرضها وتهجير سكانها العرب هناك، استخدموا ما يُعرف بسياسة "تحريج" الصحراء... بعد أن فشل مخطط ومشروع "برافر" التهويدي في حزيران/ يونيو 2013، في تحقيق الهدف والغرض، بسبب صلابة موقف أهل النقب والانتفاضة الشعبية التي اجتاحت كل مدن وقرى وبلدات الداخل الفلسطيني - 48 - وأجبرت المحتل على التراجع عن تنفيذ مخططه التهويدي في كانون الأول/ يناير 2013

نجح المحتل في هدم قرية العراقيب للمرة السادسة والتسعين بعد المئة منذ مطلع عام 2000، وكذلك هدموا قرية "أم الحيران" في عام 2017، ولكنهم لم يستطيعوا كسر إرادة عرب النقب. 

الآن، المحتل يجرّب مشروعاً تهويدياً جديداً، يُعنى بـ"تحريج" الصحراء، ما يُسمى أراضي الدولة... الهادف الى تجريف أكثر من 55 ألف دونم من أراضي عرب النقب، وتهجيرهم وتجميعهم، في أماكن تركيز محددة... مشروع يستهدف، تدمير ومسح قرى النقب الـ 38 السابق وجودها وجود دولة الاحتلال، وتحويل سكان النقب العرب، بعد مصادرة أكثر من 800 ألف دونم من أراضيهم، إلى معازل و"غيتوات" مغلقة وجزر متناثرة في محيط إسرائيلي واسع... النقب لها أهميتها الإستراتيجية في الاقتصاد والأمن الإسرائيليين وفي التجارة الدولية، في ظل تنامي العلاقات التطبيعية مع دولة الإمارات، حيث يُراد له نقل الغاز المسيّل براً من الإمارات الى النقب، ومن ثم الى الموانئ "الإسرائيلية" فأوروبا... والنقب فيها أكبر مخزون مائي، 11 مليار متر مكعب من الماء، وسلة غذاء فلسطين، ويشكل 52% من مساحة فلسطين التاريخية.

رئيس وزراء الاحتلال الحالي "بينيت"  القادم من جبهة الاستيطان، حيث كان رئيس المجلس الإقليمي للمستوطنات سابقاً، يمثل الشكل الأكثر عنفاً بالنسبة إلى الحركة الاستيطانية الاستعمارية؛ فالاستيطان بالنسبة إليه، كما هي الحركة  ا ل ص ه ي و ن ي ة  يبدأ من التلال، وإذا لم يكن ذلك ممكناً، فلا بأس من "برج وسور" ، ومعسكر جيش قريب يحمي ما سُرق من أرض.

الهدم في الشيخ جرّاح والتجريف في النقب، يندرجان في إطار الصراع المستمر على الأرض، وهذا الصراع ليس وليد اللحظة، بل هو قائم منذ الغزوة الصهيونية الأولى. والاستيطان في الفكر الصهيوني مرتكز أساسي من مرتكزات المشروع الصهيوني، والذي لا يجرؤ أيّ حزب صهيوني على الاقتراب منه، فالذي يقول من الأحزاب الإسرائيلية بمجرد تجميد هذا الاستيطان، لا اقتلاع أي بؤرة استيطانية، يعرف أنه سيدفع ثمناً سياسياً باهظاً، بالخسارة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وأبعد من ذلك يجري تخوينه واعتباره خائناً لمبادئ وتعاليم الآباء والأجداد الصهاينة.

الأمور لن تقف عند حدّ هدم بيت صالحية في الشيخ جرّاح لصالح المشاريع الاستيطانية، ولا عند تجريف أراضي النقب و"تحريجها" لما يسمّى المصلحة العامة، بل هو مسلسل متدحرج  سيستمر ويتواصل، وفي المقابل ستستمر  م ق ا و م ت ه والتصدي له والعمل على إفشاله، ولعل الموقف النوعي المشرّف الذي سجله المواطن صالحية في التصدي لهدم بيته، وما قامت به جماهير النقب من تظاهرات واحتجاجات شعبية واسعة، ضد تهويد أرضها وطردها وتهجيرها... جاءت لتقول إن شعبنا الفلسطيني لن يكون هنوداً حُمراً ولن يختفي... بل هو الآن في مرحلة نهوض كبرى واستعادة لوعيه، والتشبث بأرضه والتمسّك بها أكثر.