النخب العربية في اختبار غزة: الغياب المؤلم

التاريخ لا ينسى أولئك العظماء الذين قالوا "لا" في وجه من قالوا "نعم". لكنه بالتأكيد سيتجاهل الجبناء الذين خافوا الأنظمة وانغمسوا في الخطاب الرسمي المتخاذل عن الانتصار للدم،

0:00
  • النخبة في أيّ مجتمع هي صوت الضمير، القوة التي تواجه الظلم وتصوّب المسار.
    النخبة في أيّ مجتمع هي صوت الضمير، القوة التي تواجه الظلم وتصوّب المسار.

لم يكن من السهل على المواطن الفلسطيني في قطاع غزة، والذي يتعرّض للإبادة منذ أكثر من تسعة عشر شهراً، أن يبصر عجز الشعوب والأنظمة عن نصرته أو على الأقلّ التحرّك لمنع الاحتلال من تجويعه وقتله، إذ كان يأمل أن تتحرّك الأنظمة منذ الشهر الأول، خصوصاً بعد مجزرة المعمداني لوقف الدم النازف، وبدأ المواطن العادي في غزة يتساءل عن دور النخبة العربية وقدرتها على تحريك الشارع للضغط على الأنظمة الحاكمة، خصوصاً زعماء دول الطوق وبقية قادة المنطقة العربية، أسوة باليمن الذي اتخذ موقفاً أخلاقياً شجاعاً بالدفاع والذود عن أطفال ونساء غزة، وكذلك أسوة بحزب الله الذي دفع ثمناً نفيساً من دم أمينه العامّ سماحة السيد حسن نصر الله ومعظم قيادات الحزب. فما الذي يمنع النخبة من التحرّك؟ أين صوتها وصراخها؟ ولماذا وصلنا إلى حالة الهوان تلك؟

النخبة في أيّ مجتمع هي صوت الضمير، القوة التي تواجه الظلم وتصوّب المسار وتوقظ الجماهير، وهذا ما قاله الشهيد الراحل فتحي الشقاقي عن النخبة فالمثقّف هو أوّل من يقاوم وآخر من ينكسر، لكن النخب العربية للأسف ـــــ باستثناءات ظاهرة ـــــ اختارت الصمت وأحياناً التواطؤ المغلّف بلغة الدبلوماسية الباردة، وهي تعلم أنّ الحياد في المواقف الأخلاقية لا ينصر الباطل ولكنه يخذل الحقّ كما قال مارتن لوثر كنج. 

ففي الوقت الذي تباد فيه غزة أمام أعين العالم، وتقصف البيوت فوق رؤوس ساكنيها، ويقتل الأطفال في أحضان أمهاتهم، وبينما تتحوّل المدارس والمستشفيات والمتنزّهات وكذلك الشوارع إلى مراكز إيواء أو مقابر جماعية، تلوذ النخبة بالصمت، الأدباء والفنانون والأكاديميون والساسة ورجال الدين، في صمت رهيب يشبه الخيانة أمام صور ومشاهد الأطفال المدماة، المبتورة الأطراف أو الممددة على الأرض تصارع البقاء. فهل كان الصمت متعمّداً أم هو عجز قسري؟ 

ويبدو أنّ النظم الشمولية العميقة استطاعت أن تسيطر على وعي النخبة ذاتها، فتحرّكها كيف تشاء حتى في أحلك الأوقات، بدلاً من أن تكون النخبة هي صمام الأمان للشعوب، تدافع عن شعوبها وعن قضايا الأمة القومية والعروبية حتى لو كان ذلك على حساب اغتيالها أو زجّها في السجون، لكن للأسف فإنّ الدغمائية التي باتت تسيطر على تلك الفئة من خلال الانزياح باتجاه السلطة وإرضاء الحاكم والرقيب جعلت منها "نخبة" هشّة، مكسورة العين، لأنها تخضع للإملاءات السياسية أو أحياناً التمويلية من الجهات الرسمية وكذلك لإملاءات المؤسسات الدولية، كما تمّ إشغال تلك النخب بالقضايا الفردية حتى وصلت إلى درجة اللامبالاة بما يجري في قطاع غزة، بل ربما التطبيع الوجداني مع الرواية الإسرائيلية. 

وهنا مجدّداً يتساءل الفلسطيني: أين البيانات الصحافية؟ أين المقالات التي تفضح الرواية الإسرائيلية؟ أين التصريحات التي يمكنها أن تكون محفّزاً للشارع العربي كي يقرأ عوام الناس الواقع بشكل واضح؟ أين التحقيقات الجادة والبرامج الحوارية؟ للأسف فقد تمّ تجاهل الإبادة حتى في المسلسلات التي عرضت في شهر رمضان الماضي لدرجة أنها لم تذكر غزة نهائياً، كما لم يتمّ ذكر المقتلة العظيمة في أيّ فيلم أو رواية أدبية أو معرض فني، بل والأسوأ من ذلك حاول البعض التماهي مع الاحتلال بالتطبيع المعرفي والفني والأكاديمي إبّان الإبادة. 

هذا الصمت متعدّد الطبقات اليوم، يُظهر كيف اختارت ثلة كبيرة ممن أطلق عليهم "النخبة" الاصطفاف الضمنيّ مع المنظومات السياسية التي ترى في فلسطين عبئاً على مشاريعها الاقتصادية، بل وتعتبر المقاومة عائقاً أمام علاقاتها الخارجية، لذلك انتشر الذباب الإلكتروني لتلك الجهات الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي لطرح سرديات مضلّلة تعادي الضحية الفلسطيني أو تنتصر للأنظمة وأحياناً تصنع البطل الخارق في قصة بلا روح تشبه الوشق المصري. وخلال هذا الصمت، ثمّة من انسحبوا نفسياً من المشهد العامّ، وفضّلوا السلامة على الصدح بالانتصار لفلسطين، مما قتل قضيتنا رويداً رويداً بلا ضجيج. 

وأمام كلّ هذا فإنّ الرأي العام سيظلّ رهينة العواطف المتقلّبة أو الروايات المضادّة، حيث صارت المجازر بمثابة ترند إعلامي مؤقت على منصة x، لا قضية مركزية، وصار الدم الفلسطيني مادة للاستهلاك العاطفي لا للالتزام الأخلاقي القومي الإنساني، والأسوأ أنّ هذا الصمت بات يطبع في وعي الجمهور العربي التعايش مع المجازر، حيث بات المشهد لا يحرّك أيّ مشاعر، وصار المواطن العربي يألفها ويمرّ عليها كأيّ خبر عابر. 

وتبعاً لذلك، فإنّنا أمام معضلات كبيرة، حيث سينشأ قريباً جيل بلا أدب أو فنّ مقاوم، بلا خطب نارية أو مقالات ناقدة تصوغ وعي الجيل، فالنخبة التي كانت سابقاً حائط الصدّ لأيّ أزمة، تحوّلت بكلّ خجل إلى جدار صمت، لا يشارك في تشكيل الوعي بأيّ حال، والمقبل سيكون مريعاً لهذا الجيل الذي يتحكّم فيه صنّاع المحتوى الإمبريالي، وسيكون عرضة للتشويه والتفاهة والفراغ. 

إنّ التاريخ لا ينسى أولئك العظماء الذين قالوا "لا" في وجه من قالوا "نعم". لكنه بالتأكيد سيتجاهل الجبناء الذين خافوا الأنظمة وانغمسوا في الخطاب الرسمي المتخاذل عن الانتصار للدم، وسيسجّل لا مبالاتهم وضعف الحسّ الإنساني العروبي لديهم، وبيعهم لعقولهم من أجل منصب أو جائزة أو حظوة سلطان، في الوقت الذي كان يجب عليهم فيه أن تضجّ الدنيا بالصراخ انتصاراً لغزة الجريحة. 

لقد سقطت النخبة في اختبار غزة، وسجّلت هزيمة مدوّية أمام الدم، حيث ستظلّ أشلاء الأطفال لعنة تلاحق الصمت المغمّس بالعار، ورحم الله أمل دنقل صاحب قصيدة: لا تصالح، التي نسي النخبويون أبجدياتها بعدما باعوا كرامتهم بثمن بخسّ، لا يساوي ثمن الحبر الذي يكتبون فيه هراءهم وبطولاتهم الجوفاء. 

فهل ستعود النخبة إلى مربّع الكرامة وتنصر للإنسان العربي المسلم؟