القطاع الصحي يحتضر: مأساة غزة المنكوبة

غزة تنزف، ونظامها الصحي يختنق تحت الركام، وما لم يتحرّك المجتمع الدولي، فستستمر المأساة في التفاقم، وستظل حياة مئات الآلاف معلّقة بين اليأس ورجاءٍ ضئيل بأن يلتفت العالم ولو مرة إلى جرحٍ لم يندمل.

0:00
  •  عدد الوفيات بسبب سوء التغذية مستمر في غزة.
    عدد الوفيات بسبب سوء التغذية مستمر في غزة.

لم يكن من السهل الدخول إلى مستشفى الشفاء بعدما أصبح مقبرة تتسع لعشرات وربما مئات الشهداء ضمن مقابر جماعية قام بحفرها الاحتلال بشكل همجي في حدائق وباحات المستشفى، إبان اجتياح الشفاء لأكثر من مرة خلال حرب الإبادة، إلا أنّ الحاجة هي ما تدفعك لأن تذهب رغم قلة الإمكانات وشحّ الأدوات الطبية والمعدات والأجهزة التي باتت نقطة في بحر؛ فالتحفيز النفسي من وجود مشفى يمكنه تهدئة النفس قليلاً للمريض، كبير السن، إلا أنّ العكس هو ما يحدث للأسف، حيث وبرغم كلّ التجهيزات التي نفّذت مؤخراً وإعادة بعث الروح لأقسام شبه مدمّرة، لكنّ مشهد التدمير والحرق لا يزال يلقي بظلاله على واقع المأساة الحقيقي الذي يعيشه الفلسطيني في قطاع غزة مع انهيار القطاع الصحي، الذي وجب الحديث عنه كلّ يوم وكلّ لحظة أمام العالم، لأنّ هناك مئات الألوف من المرضى ممن ينتظرون العلاج أو الخلاص من ألم لا ينتهي. 

منظمة الصحة العالمية التي سبق وحذّرت من أنّ النظام الصحي على وشك الانهيار بسبب نقص الإمدادات الطبية والوقود تعرف أنّ القطاع منهار فعلاً، إذ لا يمكن تخيّل واقع الأطباء المتطوّعين والطلاب حديثي العهد مع الطب أمام عدد الإصابات التي تصل تباعاً كلّ لحظة، حيث إنني شاهدت بنفسي كيف اكتظ المستشفى الأهلي العربي "المعمداني" إبان إصابة والدي؛ نتيجة الأعداد الهائلة من الإصابات التي لا يمكن التعامل مع معظمها، تمّ تركها بانتظار قدرها المحتوم، لأنّ المفاضلة بين المرضى كانت حتى وقت قريب أمراً اضطرارياً أمام حشود الإصابات، وللقارئ أن يتخيّل لو كان ابنه مصاباً، وقد تركه الجميع لأنّ حالته ميؤوس منها، وهناك عشرات الحالات الأخرى التي يجب التعامل معها على الفور، ولا مشافي تكفي وكذلك لا أطباء، علماً أنّ الحالات التي يتمّ التعامل معها أيضاً، لا تحظى بمكان مناسب أو سرير حتى، ولا أكسجين كما لا يوجد تخدير موضعي "البنج" لأنّ الاحتلال منع إدخال جميع الأصناف والأدوية باستثناء القليل منها، لذر الرماد في عيون المجتمع الدولي الذي يغضّ الطرف عن حقيقة تدمير القطاع الصحي في قطاع غزة. 

إنّ الكوادر الطبية تعمل حتى اليوم في ظروف مستحيلة، وسط نقص حادّ في عدد الأطباء والممرضين، رغم اتفاق التهدئة الحالي، فالتحدّيات ضخمة وجسيمة، والأزمات مهولة، وعليه كان لا بدّ من الصراخ عالياً، والكتابة لكلّ النخب العربية والمهتمين بالحالة الغزية، من أنه يجب إعادة تأهيل البنية التحتية وإصلاح المستشفيات المتضرّرة وزيادة عدد العاملين في القطاع الصحي وتأمين الإمدادات الأساسية للمشافي والعيادات والنقاط الطبية، إضافة إلى إرسال فرق طبية من كلّ مكان في العالم، ثمّ العمل على إخراج آلاف الحالات المستعصية للعلاج في الخارج. 

ولأنني من سكان مخيم الشاطئ، فقد اعتدت الذهاب والمساهمة مع الأطباء والمتطوّعين بعيادة الشاطئ الطبية التي كانت تستقبل يومياً مئتي حالة فقط قبيل السابع من أكتوبر 2023، أما بعد ذلك التاريخ فقد باتت تستقبل يومياً ألف حالة مرضيّة على الأقل، في ظلّ انعدام توفّر الأدوية، وهذا ما أكده مدير عامّ قطاع الصحة في غزة من أنّ 60% من الأدوية الضرورية غير متوفرة، إضافة إلى نقص شديد في السوائل المعقّمة، الشاش، معدات العمليات، الأكسجين والوقود لتشغيل مولدات الكهرباء، وهو ما لفت انتباهي عندما حضر صديقي بالأمس لتنظيف قدمه من إصابة سابقة، حيث عبّر الأخير عن سخطه من واقع الحال، ليقول: إنّ أجسادنا باتت بلا مناعة بسبب عدم توفّر الطعام باستثناء المعلّبات التي يمكن رؤية أخطارها الكبيرة على الصحة البدنية بسبب المواد الحافظة أو انتهاء صلاحيتها، وهو موضوع توقّف الحديث عنه منذ دخول التهدئة حيّز التنفيذ في غزة رغم خطورته، فالفلسطيني في غزة بحاجة ماسة لإدخال المساعدات والطعام من الفواكه والخضروات واللحوم، ولعلّ آخر تقارير وزارة الصحة يؤكد أنّ 91% من عدد سكان قطاع غزة يعانون من أزمة سوء التغذية. 

وفي السياق ذاته، فإنّ عدد الوفيات بسبب سوء التغذية مستمر وكذلك موت أعداد ضخمة من مرضى الضغط والسكري وكذلك الكبد الوبائي والكلى وغيرها من الأمراض التي لا يتمّ الحديث عنها، فقد سبق وأخبرني أحد الأطباء قبل عام أنّ أعداد الشهداء في قطاع غزة تزيد عن مئة ألف شهيد، لكن لا تتمّ الإشارة إليها في ظلّ انشغال العالم بالدم المنساب على تراب الوطن. 

ولأنّ الحديث يجب أن يكون أكثر دقّة حول واقع القطاع الصحي، وجب لفت انتباه الجميع أنّ هناك أكثر من 400 ألف عملية جراحية مطلوبة لمئات آلاف المصابين بحسب وزارة الصحة، وأكثر من 17 ألف حالة بحاجة للسفر لأجل تلقّي العلاج في الخارج، وأنّ نسبة إشغال الأَسرّة في المستشفيات وصلت إلى أكثر من 300% مما يعكس الضغط الهائل على المشافي وتكدّس الجرحى والمرضى ونقص الأدوية والمستلزمات. 

غزة اليوم تنزف بصمت، ونظامها الصحي يختنق تحت الركام، وما لم يتحرّك المجتمع الدولي فوراً، فستستمر المأساة في التفاقم، وستظل حياة مئات الآلاف معلّقة بين اليأس ورجاءٍ ضئيل بأن يلتفت العالم ولو مرة إلى جرحٍ لم يندمل منذ عقود.. إنّ إنقاذ القطاع الصحي في غزة ليس مجرّد واجب إنساني، بل خطوة أولى لإعادة الحياة لشعب لا يزال يقاتل كي يعيش.