الانتقام الساحق بين روسيا وكييف يفشل الوساطة التركية
استغل الغرب حرب أوكرانيا لتحقيق أهدافه ضد روسيا، ورسم شكل النظامين السياسي والاقتصادي العالمي في العقد المقبل.
-
الغرب يستغل الحرب الأوكرانية في وجه روسيا.
تلعب أنقرة دور الوسيط في الصراعات، وهو الدور الذي حدّدته لنفسها بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2023، وشدّدت عليه، وهي ترى أنه يدعم مكانتها؛ إذ يمكّنها من التأثير ولعب أوراق تقوّي من خلالها علاقاتها بالغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية.
كانت أنقرة قد اتخذت موقفاً محايداً في الحرب بين أوكرانيا وروسيا منذ شباط/فبراير 2022، وأبقت على العلاقات الدبلوماسية مع طرفي الصراع، ودعمت التسوية السياسية للأزمة. عقدت الجولة الأولى في إسطنبول بين البلدين، لكنها لم تؤدِ إلى أيّ حلّ، لا بل استمرت الحرب بدعم أميركي وأوروبي.
تركيا تكسب ثقة الطرفين الروسي والأوكراني كوسيط محايد، يعود القبول الغربي بالوساطة التركية إلى تأييد أنقرة مبادرة ترامب لإنهاء الحرب، وكانت تركيا قد رفضت المشاركة في العقوبات ضد موسكو لكنها، في الوقت عينه، كانت تقدم الدعم العسكري والطائرات المسيرة لأوكرانيا، و رفضت الاعتراف بانضمام شبه جزيرة القرم والدونباس إلى روسيا.
تركيا وتعزيز المكانة
عبر لعب دور الوسيط في الأزمة الأوكرانية، تحاول تركيا تعزيز مكانتها الدولية، لا سيما أن الأميركي والأوروبي يدعمان تحركاتها الأخيرة تجاه طرفي الصراع، وهو ما يعزز الثقة بها.
كذلك فعلت الأمم المتحدة. تحاول أنقرة عبر الانخراط الدبلوماسي في الأزمة الأوكرانية إعادة بناء صورتها باعتبارها داعمة للسلام العالمي.
ترى أنقرة أن استمرار الحرب ينعكس سلباً على أمن البحر الأسود، ما يعنى استمرار تصاعد المخاطر التي تهدد طرق التجارة والطاقة الحيوية لأنقرة، بجانب الارتدادات العكسية على الاقتصاد التركي. لذلك، تسعى إلى تعزيز حالة الاستقرار في الفضاء الجغرافي الاستراتيجي لمنطقة البحر الأسود ذات الأهمية الحيوية لمسارات نقل إمدادات الطاقة والتجارة.
وهي تتماهى مع سياسات ترامب، وتعمل على تحسين العلاقة بالولايات المتحدة وحلّ خلافاتها معها، في ما يخص التسليح والتكنولوجيا العسكرية وتمرير صفقة "إف-16" المتقدمة، إلى جانب دفع الولايات المتحدة الأميركية إلى دعم التحركات التركية في سوريا من جهة، وإقناع واشنطن بالتخلي نهائياً عن دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
صعوبات وتحديات التفاوض
عقدت جولة المفاوضات الثانية في إسطنبول في 2 حزيران \يونيو ، لكن لم تسفر سوى عن توقيع اتفاق يتضمن تبادل أسرى الحرب بين البلدين، ولم يتم بحث اتفاق وقف إطلاق النار، والملفات الخلافية بين طرفي النزاع، كان الرئيس التركي يطمح إلى جمع زيلينسكي وبوتين مع ترامب من أجل إيقاف الحرب.
تواجه جهود الوساطة التركية تحديات عديدة، أهمها تراجع التفاهمات بين موسكو وواشنطن، وهذا ما حصل عندما وجّه ترامب انتقادات حادة إلى بوتين، وسبق أن أبدى استياءً إزاء قيام الجيش الروسي في أواخر شهر أيار/مايو بشنّ هجوم جوي على أوكرانيا. يبدو أن العلاقة بين موسكو وواشنطن دخلت مرحلة جديدة من التصعيد، على خلفية اتهامات لروسيا بتطوير قدرات نووية جديدة، من خلال توظيف صواريخ جو–جو مزوّدة برؤوس نووية، بالإضافة إلى أنظمة نووية حديثة أخرى.
رغم الهجوم الواسع النطاق داخل العمق الروسي، الذي أسفر عن تدمير أكثر من 40 مقاتلة استراتيجية روسية، فضلاً عن تدمير جانب من قدرات قاعدة عسكرية في سيبيريا، استمرت موسكو في التفاوض، وأيقنت أن كييف وأوروبا تودّان تعطيل هذا التفاوض.
الضربات أثارت غضب موسكو التي توعّدت بالردّ، كان واضحاً أن محادثات السلام التي أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب إطلاقها في الأشهر الأخيرة، وصلت إلى طريق مسدود. رفضت أوكرانيا مسودة روسيا، التي طرحت في إسطنبول في 2 حزيران/يونيو 2025، ووصفتها بإنذارات غير واقعية لإنهاء الحرب.
قامت روسيا بضربات في تسع مناطق أوكرانية، وخصوصاً كييف، رداً على الهجمات الأخيرة التي نفذتها كييف. محاولة ترامب ثنيها فشلت، فاستنتج أنه من الأفضل ترك روسيا وأوكرانيا تتقاتلان لفترة من الوقت، وأكّد أنه كان قد طلب من بوتين عدم الردّ على الهجوم الأوكراني على القواعد الجوية.
وعند استقباله الرئيس الألماني، صرّح بأنه لا يعتقد أن روسيا وأوكرانيا ستبرمان اتفاقاً. وهذا مؤشر على أن أوروبا الداعمة لزيلينسكي لن ترضخ لشروط روسيا، وهي لا تزال تطلب مساعدة الولايات المتحدة.
يمكن فهم حرص تركيا على تكثيف جهودها تجاه الأزمة الأوكرانية، بيد أن قدرة الوسيط التركي على تحقيق اختراق جذري في الأزمة محدود جداً، في ظل الصراع الأوروبي مع روسيا.
الموقف الأوروبي في دعم أوكرانيا واضح. قروض من بريطانيا ودعم بولندي غير محدود. أصبحت برلين ثاني أكبر مورّد للأسلحة إلى أوكرانيا بعد واشنطن. رفعت القيود عن إطلاق كييف صواريخ بعيدة المدى على روسيا، ودعمت أوكرانيا في تطوير صواريخ بعيدة المدى، كذلك رصدت فرنسا في 26 آذار/مارس 2025، مساعدات عسكرية لأوكرانيا بنحو ملياري يورو. كانت حرب أوكرانيا فرصة لأوروبا لإعادة ضبط أمنها.
زادت دول الاتحاد من إنفاقها الدفاعي، وأطلق التكتل الأوروبي في 5 آذار/مارس 2024، أول استراتيجية صناعية دفاعية، ما يجعله أكثر قدرة على المنافسة والمرونة لتحقيق زيادة بمعدل مشتريات بنسبة (40%) بحلول 2030.
الغرب يستغل الحرب الأوكرانية في وجه روسيا
استغل الغرب حرب أوكرانيا لتحقيق أهدافه ضد روسيا، ورسم شكل النظامين السياسي والاقتصادي العالمي في العقد المقبل. ويستهدف الغرب هزيمة روسيا، وتحميلها مسؤولية إعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب، كشرط لتسوية الأزمة أو بمصادرة أصولها المجمّدة.
لن يسمح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للآخرين بفرض شروط عليه؛ إذ يفضّل تحديدها بنفسه. ويوسّع نفوذه السياسي ويعزّز صورته في الداخل. أما زيلينسكي فلن يتراجع ما دامت المساعدات الدولية تتدفق، والسيطرة القوية على السلطة، ويخشى إسقاطه في الداخل، إذا قبل التنازلات. يبدو الغرب مستعداً لتوفير الموارد لمواصلة الجهد الحربي، ما يمنح كييف مزيداً من الثقة. يحمل ضرب جسر كيرتشي في جزيرة القرم طابعاً رمزياً، إذ يعدّ شرياناً إستراتيجياً يربط روسيا بالقرم.
قد تدخل الحرب مرحلة جديدة وأكثر خطورة تحددها الخطوط الأمامية والهجمات الرمزية والانتقام الساحق. لا يبدو أن القيادات الأوكرانية والروسية مستعدة للتوصل إلى حلّ وسط. وهذا يعني أن لا وساطة تركية يمكنها أن تنجح في ظل الرفض المتبادل. إسطنبول هي مكان التفاوض الإيجابي الذي لم تصل الأطراف المتحاربة إليه .