إيران تنتصر: من الردع الصاروخي إلى تقويض الغطرسة الإسرائيلية

لا يمكن حصر الحرب بين إيران و"إسرائيل" بنتائج عسكرية بحتة، فالحقيقة أن ما جرى هو نقطة تحوّل استراتيجية، إذ أثبتت إيران قدرتها على الصمود والردع، فيما ظهرت "إسرائيل" مرتبكة تخفي خسائرها.

  • مشوار النصر: البداية التي صنعت الفرق.
    مشوار النصر: البداية التي صنعت الفرق.

نفذت "إسرائيل"، بدعم استخباري مباشر من الولايات المتحدة، هجوماً مباغتاً على الدولة الإيرانية في يوم ١٣/٦/٢٠٢٥، تحت اسم له أبعاد توراتية: "Operation Rising Lion" (الأسد الصاعد)، استهدف منشآت نووية (نطنز، أصفهان، فوردو)، وقواعد صواريخ أرض-أرض، وعلماء نوويين وقيادات عسكرية عالية الرتب في طهران. في الساعات التي تلت الإعلان عن نتائج الهجوم، كان الإعلام العبري يحتفي به باعتباره أنجح وأوسع هجوم ضد إيران، ويكشف عن قدرات اختراق فذة لجهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد"، لكن الأمور انقلبت رأساً على عقب ما إن بدأ الردّ الإيراني.

على الأغلب، كان رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وحلفاؤه من أحزاب أقصى اليمين، على علم نسبي بالقدرات العسكرية الإيرانية، لكنهم كانوا يجهلون تماماً العقيدة الصَلبة التي منحت الإيمان والصبر والعزيمة، حتى تمكنت إيران من بناء تلك القدرات، رغم عقود من العقوبات الأميركية التي بدأت بتجميد أصول وأرصدة إيرانية (نحو 12 مليار دولار) عقب انتصار الثورة عام ١٩٧٩، واستمرت حتى تطبيق حظر كامل على الصادرات النفطية الإيرانية عام ٢٠١٨ خلال فترة حكم دونالد ترامب الأولى. وبين هذا وذاك، مزيج من العقوبات يشمل قيوداً على تحويل الأموال والتعاملات البنكية وحظر تصدير المعادن والمعدات الصناعية الدقيقة.

استوعبت القيادة الإيرانية الضربة الإسرائيلية، وبدأت بتحصين الجبهة الداخلية، والقبض على شبكات التجسس الموجودة في البلاد، مع تصعيد نخبة من العسكريين إلى مواقع القيادة لملء الفراغ بأقصى سرعة، ثم بدأت الصواريخ تنهمر على رؤوس الإسرائيليين طوال ليلة الرد الأولى، وبات نتنياهو محاصراً في ملجأ أسفل الأرض، يفكر في تلك الحرب التي بدأها ولا يعرف كيف ينهيها، واستمر الأمر على هذا المنوال ١٢ يوماً، تمكنت فيها الصواريخ الباليستية الإيرانية من تثبيت معادلة ردع جديدة في المنطقة، وأثبتت قدرتها، لا على تحدي "جيش" الاحتلال فحسب، بل على تحدي رأس الأفعى ذاتها أيضاً، عبر توجيه ضربة إلى قاعدة العديد الأميركية في قطر، التي تحتضن مقر القيادة المركزية الأميركية المتقدمة (CENTCOM Forward HQ) وقيادة المركزية للقوات الجوية، إضافة إلى قيادة العمليات الخاصة.

مشوار النصر: البداية التي صنعت الفرق

على مدار ٤٦ عاماً، هو عمر الثورة الإيرانية، فرضت الدول الغربية حظراً على توريد الأسلحة إلى إيران، إذ اعتبرت كواحدة من "الدول المارقة" التي ترفض الخضوع للتعليمات الأميركية. ظهر تأثير هذا الإجراء العقابي بشكل كبير في مجال الطيران، بشقيه المدني والعسكري، وبالتالي كان البديل أمام القيادات العسكرية الإيرانية هو تطوير البرنامج الصاروخي ليصبح قادراً على إصابة أهدافه خارج البلاد بدقة وبكفاءة، مع تعزيز كفاءة سلاح البحرية، لتصبح كل المسطحات المائية التي تطل عليها إيران من حدودها الشمالية والجنوبية (بحر قزوين - الخليج - بحر العرب) تحت تصرفها بشكل كامل وقت الخطر، إضافة إلى تطوير مستمر للقوات البريّة من حيث العناصر والمعدّات، لتصبح أكبر منظمة قتالية في القوات المسلحة الإيرانية تتألف من 350 ألف مقاتل، فضلاً عن عدد مماثل كقوات احتياط، ولديها اكتفاء ذاتي في إنتاج معدات دفاعية برية، بما يشمل دبابات وأنظمة تشويش إلكتروني وأسلحة مدرعة.

انتصرت إيران في معركة الـ١٢ يوماً، رغم أن قدراتها العسكرية لم تُختبر بالكامل، إذ استطاع قدر يسير من القدرات الصاروخية على شلّ الحياة كلياً في الأراضي المحتلة. ورغم أن "إسرائيل" من أول يوم في الحرب حرقت أوراقها الاستخباراتية عبر استخدامها -بشكل مكشوف- في عمليات الاغتيال والإرشاد عن منصّات إطلاق الصواريخ، فإنَّ إيران في المقابل أجّلت استخدام تلك الورقة، رغم أنها تملك عناصر ناجحة في اختراق مختلف الأجهزة الرسمية التابعة لحكومة الاحتلال.

وللدلالة على عمق الاختراق الإيراني للكيان الإسرائيلي، تكفي الإشارة إلى ثلاث وقائع، الأولى في أكتوبر ٢٠٢٥، مع إعلان الشرطة الإسرائيلية القبض على "إسرائيلي" كان قد تم تجنيده من قبل إيران لاغتيال عالم إسرائيلي. أما الثانية، ففي سبتمبر من العام ذاته، عندما تم الكشف عن عملية كبرى أدارتها مخابرات الحرس الثوري لاستهداف مسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى (نتنياهو - غالانت- رونين)، إلى جانب تنفيذ عمليات لتخريب البنية التحتية للاتصالات وأجهزة الصراف الآلي، إضافة إلى إشعال النار في الغابات. أما الثالثة، ففي عام ٢٠١٨، عندما تم اعتقال غونين سيغيف، وزير الطاقة الإسرائيلي السابق، وأدين قضائياً بسبب تجسسه لمصلحة إيران.

هذا يعني أن الصمود الإيراني خلال الأيام الماضية لم يكن من فراغ، بل هو نتاج سنوات طويلة من العمل والتخطيط وبناء القدرات وجمع المعلومات والاستعداد المستمر، وقبل كل ذلك إيمان راسخ بإمكانية تحقيق النصر، ما دام قد تم استيفاء شروطه المادية.

كيف عمّقت واشنطن من صورة "إسرائيل" كطرف خاسر؟

قبل أربعة أيام من وقف إطلاق النار، وخلال لقاء نادر باللغة العبرية مع هيئة الإذاعة والتلفزيون الإسرائيلية "كان ١١"، اعترف نتنياهو بحدوث استنزاف لمخزون صواريخ الدفاع الجوي، وخصوصاً صاروخ آرو / حيتس، لكنه أكد أن الولايات المتحدة ستعيد تزويد "إسرائيل" بما تحتاجه. إذا أضفنا مشهد عجز الدفاع الجوي الإسرائيلي عن التصدي للصواريخ الإيرانية إلى مشهد حاملات الطائرات التي أرسلها الرئيس الأميركي السابق جو بايدن إلى الشرق الاوسط بعد عملية "طوفان الأقصى"، قبل أن يهبط بنفسه إلى مطار بن غوريون في ١٨/١٠/٢٠٢٣، مؤكداً دعمه اللامشروط لحكومة الاحتلال، محذراً محور المقاومة من التصعيد.. فإن المشهدين كفيلان بأن يؤكدا أن "إسرائيل" كيان هشّ لا يملك عوامل البقاء ذاتية، وأن انهياره مسألة سهلة للغاية، في حال رفعت أميركا يدها.

هذا الأمر بحدّ ذاته شكّل معضلة بالنسبة إلى اليمين الصهيوني داخل "إسرائيل"، والذي شيّد خطابه على فكرة أن "دولتهم" مستقلة وقادرة على الدفاع عن نفسها، وأنها قد تتحدى البيت الأبيض إذا لزم الأمر، لكن ما إن دخلت المعارك مع إيران أسبوعها الثاني، حتى تكشّف الوهن الإسرائيلي، إلى درجة أن تمويل صواريخ الدفاع الجوي، الذي يتراوح سعر الواحد منها بين ٢ و١٢ مليون دولار، بات أزمة، ولم يكن هناك مخرج سوى الإلحاح على الإدارة الأميركية للتدخل لوقف الحرب، شرط ضمان الخروج المشرّف لـ"جيش" الاحتلال، وهو الهدف الحقيقي لعملية القصف التي نفذتها الطائرات الأميركية B-2 للمنشآت النووية الإيرانية فجر يوم ٢٢ يونيو.

لم تُصدر الحكومة الإسرائيلية بيانات دقيقة تكشف حجم الخسائر، وناشد المتحدث العسكري الإسرائيليين كي يمتنعوا عن تصوير الآثار الناجمة عن الصواريخ الإيرانية، والتي كان معلوماً بشكل مسبق أن القبة الحديدية ومقلاع داوود سيكونان خارج حسابات الدفاع عن سماء "إسرائيل" بحكم أنهما مخصصان للتصدي للصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى فقط.

في نهاية المطاف، حصل الإعلام على أرقام متضاربة حول حجم الخسائر البشرية في "إسرائيل"، فهيئة الإسعاف تحدثت عن ٢٨ قتيلاً وأكثر من ١٣٠٠ مصاب، بينهم خمسة قتلوا بصاروخ إيراني على بئر السبع قبل لحظات من وقف الحرب، لكن وزارة الصحة الإسرائيلية تحدثت عن أعداد أضخم، إذ أعلنت إصابة ٣٣٤٥ شخصاً، وتشريد أكثر من ١١ ألف إسرائيلي، وتسجيل نحو ١٩ ألف طلب دعم نفسي، فيما وصفته مصادر عبرية بأنه "أحد أكبر التحديات الصحية منذ سنوات".

وأدت الهجمات الصاروخية إلى إغلاق كامل المجال الجوي الإسرائيلي، بما في ذلك مطار بن غوريون، ما عزل أكثر من ١٥٠ ألف إسرائيلي في الخارج، وتسببت بشلل كامل للقطاعات التجارية والصناعية والخدمية في مناطق الوسط والجنوب، كما أثبتت فشل منظومة الملاجئ والغرف المحصنة، رغم الإنفاق السخي عليها منذ عام ١٩٥١، والذي تم تعزيزه بعد إطلاق الصواريخ العراقية عام ١٩٩١. إضافة إلى ما سبق، ارتفع متوسط أعداد اليهود الذين غادروا "إسرائيل" ضمن ما يعرف بـ"الهجرة العكسية" من ٣٦ ألفاً (الفترة من ٢٠١٨ - ٢٠٢٢) إلى ٨٢٧٠٠ خلال العام الجاري، وهو ما يمثل تهديداً ديمغرافياً خطيراً بالنسبة إلى كيان الاحتلال.

دفع الوضع الإسرائيلي الصعب دونالد ترامب إلى اتخاذ قراره بالتدخل المباشر، ولم تنجح الضربة في تحقيق أهدافها المتمثلة في تدمير البرنامج النووي الإيراني، بحسب تقارير سرية سُرّبت عبر الكونغرس الأميركي، ونشرتها نيويورك تايمز وسي إن إن، لكنْ ثمة أهداف أخرى كانت ضمن برنامج عمل الرئيس الأميركي عندما اتخذ قراره بقصف إيران، وهي أن يكون الطرف الأميركي/الإسرائيلي صاحب الطلقة الأخيرة في المعركة، وهو ما يحرِم إيران من جني ثمار منجزها العسكري، وخصوصاً بعدما ارتفع منسوب شعبيتها في الشارع العربي والإسلامي على نحو غير مسبوق.

لذا، كان مهماً للغاية أن ترد إيران على الضربة الأميركية. ورغم أن محور المقاومة كان بإمكانه توجيه ضربة إلى قاعدة عين الأسد في شمال العراق أو القواعد الأميركية عموماً في مناطق الكرد، فإنّه اختار للرد أن يكون مزلزلاً على مستوى الأثر النفسي قبل أي شيء آخر. لذا جاء عبر قصف قاعدة العديد، أكبر القواعد الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أعاد الأمور إلى نصابها، بعد نجاح إيران للمرة الثانية في قلب موازين المعادلة إلى مصلحتها ومصلحة القيم والمبادئ التي تمثلها.

مكاسب الأنظمة العربية من النصر الإيراني

لم تكن إيران في هذه الحرب تمثّل نفسها، بل كانت صوتاً عنيداً باسم كل الشعوب التي تنشد العدالة في عالم تسوده الغطرسة ومنطق القوة؛ لقد كان بإمكانها، لو أرادت، أن تختار العزلة والمصالح الضيقة، وأن تنأى بنفسها عن الاشتباك مع الهيمنة الأميركية والصهيونية. وتبعاً لتلك المعادلة، كان بإمكانها أن تعزز نفوذها في المنطقة بالتنسيق مع واشنطن، لكنها اختارت طريقاً أكثر كلفة وأشد وعورة: طريق الانحياز إلى قيم التحرر العالمي ومسار الدفاع عن القضية الفلسطينية.

ولا شك في أن النصر الإيراني الأخير ستكون له انعكاسات إيجابية على مستوى العالم بأسره، غير أن أثره في الساحة العربية سيكون مضاعفاً، ولا سيما إذا أُحسن استثماره والتعامل معه بوعي استراتيجي. ومن أبرز المكاسب العربية التي يمكن أن تترتب عليه:

  هزيمة اليمين الإسرائيلي.. ضربة للعداء العلني تجاه العرب:

عاجلاً أو آجلاً، سيؤدي النصر الإيراني إلى تآكل النفوذ السياسي للتيارات اليمينية داخل "إسرائيل"، والتي مثلت تهديداً للاستقرار الإقليمي، ودخلت في صدامات حتى مع دول الاعتدال العربي، كما جرى مع مصر والأردن، عندما أثير ملف تهجير الفلسطينيين من أراضيهم إلى الدول المجاورة، أو كما حصل مع تصريحات سموتريتش، التي طالب فيها دول الخليج بتمويل الحرب على إيران، وهو ما استدعى رداً إماراتياً يصف هذا النوع من التصريحات بـ"الحماقة".

قصف "العديد": فرصة تاريخية للخليج للتحرر من التبعية العسكرية لواشنطن:

الضربة التي تلقّتها قاعدة العديد الأميركية في قطر شكّلت صدمة استراتيجية، فهذه القاعدة، التي أُنشئت بدعوى حماية الخليج، تَحوّلت إلى هدفٍ يُجرّ الأخطار على دوله. ولعلها اللحظة المناسبة للخليج العربي كي يعيد التفكير في جدوى الارتهان للمظلة العسكرية الأميركية التي لم تَجلب لهم سوى التهديدات.

ذلك مع الأخذ في الاعتبار تحاشي القوات الإيرانية عن توجيه أي ضربة إلى القواعد الأميركية في دول الخليج، حتى آخر مراحل الحرب، في مقابل تركيز العمل العسكري كله على "إسرائيل"، وهذا بدوره دليل على أن أفكار القيادة الإيرانية المتعلّقة بحسن الجوار ومدّ الأيادي للتعاون هي أفكار جادة. وعندما تم اختبارها في الميدان، أثبت الإيرانيون التزامهم بها.

 اهتزاز صورة "إسرائيل التي لا تُقهر".. يعيد التوازن:

تفكك الردع الإسرائيلي أمام صواريخ إيران الدقيقة أظهر حدود القوة الإسرائيلية، وهو ما يفتح المجال لإعادة رسم توازن القوى على المستويات كافة، بما يشمل "إسرائيل" والدول العربية التي لطالما فُرض عليها موقع الضعف في ظل "أسطورة القوة الإسرائيلية التي لا تُهزم".

حرب رسائل وانتصار استراتيجي لطهران

لا يمكن حصر الحرب بين إيران و"إسرائيل" في يونيو 2025 بنتائج عسكرية بحتة أو بلغة الأرقام، فالحقيقة أن ما جرى هو نقطة تحوّل استراتيجية، إذ أثبتت إيران قدرتها على الصمود والرد والردع، فيما ظهرت "إسرائيل" مرتبكة، تخفي خسائرها، وتخسر هيبتها تدريجيًا أمام شعوب المنطقة.

الإعلام الأميركي، وإن حاول التخفيف من وقع النتائج، إلا أنه اعترف صراحة بأن الضربات على إيران لم تحقق هدفها، وأن ردّ طهران فاجأ الجميع. أما المكاسب العربية، فبدأت تظهر في صورة فرص جديدة لإعادة التوازن الإقليمي بعيدًا عن ثنائية "إسرائيل–الولايات المتحدة".

لقد كانت هذه الحرب، بكل ما فيها من تدمير وخسائر، صفحة جديدة في معادلة الردع ومرآة عاكسة لواقعٍ لم تعد فيه "إسرائيل" قادرة على حسم المواجهات، ولا الولايات المتحدة قادرة على فرض نتائجها بالقوة. إيران، وإن لم تدمر أعداءها، إلا أنها انتصرت بأنها ظلّت واقفة.. وردّت في العمق.. وأجبرت الجميع على إعادة الحسابات.

"إسرائيل" تشن عدواناً على الجمهورية الإسلامية في إيران فجر الجمعة 13 حزيران/يونيو يستهدف منشآت نووية وقادة عسكريين، إيران ترد بإطلاق مئات المسيرات والصواريخ التي تستهدف مطارات الاحتلال ومنشآته العسكرية.