إذْ كانَ نصرُ الله
هل يحدث فعلاً أنْ يُشيّع المرء نفسه؟ أنْ يحمل الإنسان جسده على كتفه ويمضي به إلى مثوىً آخر أو أخير؟ أن يسير خلف نعشه ويندب نفسه مع النادبين؟ هل هذه إحدى عجائبك الكثيرة يا سيّد الحُسن؟
-
هل يحدث فعلاً أنْ يُشيّع المرء نفسه؟
"أيدري النّعشُ أيَّ فتىً يُواري
وهذا القبرُ أيَّ فتىً يَصونُ؟
فتىً جُمِعَتْ ضًروبُ الحُسْنِ فيهِ
وكانتْ فيهِ للحُسنى فُنونُ"
إيليّا أبو ماضي
هذا الثلجُ بكاءٌ أبيض، لكنّه، رغم كلّ تلك الغزارة، لا يتجمّع على سفوح الروح. ثمّة ما يُذيبه قبل أنْ يستقرّ، ثمّة حرارة غريبة تُحيل كلّ هذا الصقيع إلى نهرٍ من البياض الجارف الذي يأخذ معه كلّ شيء باتّجاه واحد، باتّجاه نعش تستقرّ فيه أمّة تامّة الأركان والبهاء، نعش تحمله أمّةٌ كاملة الدّمع.
هل يُعقَل هذا؟ هل يحدث فعلاً أنْ يُشيّع المرء نفسه؟ أنْ يحمل الإنسان جسده على كتفه ويمضي به إلى مثوىً آخر أو أخير؟ أن يسير خلف نعشه ويندب نفسه مع النادبين؟ هل هذه إحدى عجائبك الكثيرة يا سيّد الحُسن؟ هل أنت نحن، كلّنا؟ وهل تلك جنازتنا حقّاً، أمْ إنّه الوعد بقيامتنا الجديدة؟ هل تمضي بنا محمولين جميعاً على أكتافنا وعلى كواهل أرواحنا، إلى عالم جديد؟ تلك إحدى عجائبك، أنا واثق، لكنّني لم أتمكّن من استيعابها أو فهمها جيّداً بعد، سامحني، فهذه المرّة الأولى التي أشهدُ فيها أوطاناً وبلداناً وبحوراً وعصافير وأشجاراً وأمطاراً وثلوجاً وأشعاراً وقصائد وبنادق وقضايا وأزمنة عديدةً وأمكنة كثيرةً، تسير بانتظامٍ وخشوعٍ في جنازةٍ واحدة.
هل هو الرثاء؟ لا والله، فكلّ الكلام وكلّ البلاغة وكلّ العَروض، لا يفي ببعض هذا الغرض، ثمّ إنّ الرثاء يكون للميت. وليس هو المديح بالتأكيد، فأيّ مديحٍ واللغة تقصُرُ عن بلوغ أطراف ابتسامتك. إنّه أمرٌ ما عظيم جدّاً ومدهشٌ وغير مألوف، لكنّني لا أعرف كنههُ أو اسمه، فسامحني.
أتلك فلسطين التي ترفع مقدّمة النعش بساعدَينِ سمراوين؟ كيف استطاعت فلسطين الوصول إلى هنا، وكيف لا تزال قادرة على حمل كوكبٍ يضجّ بالحياة على كتفها والسير به، رغم كلّ جراحها، ورغم كلّ ما يُقال ويُروى عن ظهرها المكسور؟ تلك القدس مذ كان اسمها "إيلياء"، والتاريخ كلّه يتأبّط ذراعها مواسياً، سامحني يا سيدي، هذه المرّة الأولى التي أرى فيها تاريخاً يمشي في جنازة. هؤلاء شهداء غزّة، هذا يحيى الشقاقي، إنّي أميّزه كما أميّز نزار بنات، وهؤلاء أطفال غزّة، وبيوت غزّة، وبحر غزّة، وتلك كلّ أحلام أهل غزّة، كيف استطعت أنْ تفعل كلّ هذا يا سيدي؟ ويقولون إنّك مُتّ؟!
لا أنسى أبداً، في العام 1996، في إثر عدوان نيسان (عناقيد الغضب)، كيف استمعت إليك بعنايةٍ حتى آخر كلمة، كمن يُذاكر مستقبل حياته المقبل. كنّا جيلاً يبدأ وعيه السياسيّ فوق قواعد الانكسار الحاضرة بقوةٍ كلّها، وكانت "قانا" كافية لتحفر عميقاً في تلك الندوب التي تملأ أرواحنا. كان العرب جميعاً غارقين في اللا شيء، في اللا معنى، في اللا جدوى، في هاويةِ "العين التي لا يمكنها أنْ تقاوم المخرز" السحيقة والمُذلّة. أذكر صوتك جيّداً كما أذكر كلماتك، وأذكر ذاك الحضور الذي ملأ كلّ فراغ، والذي جعل لكلّ شيء معنىً عظيماً، كما أذكر أنني رأيت فلسطين واضحةً للمرّة الأولى في حياتي، وحلمت أني أسير في شوارعها. ومنذ ذلك اليوم، لم يراودني الشك لحظة واحدة في أمر تحرير فلسطين، وكنت أنت، وما زلت، رسول ذاك اليقين.
لن ننسى أبداً، كيف بدأت تُقرّب فلسطين يوماً بعد يوم، كيف شيّعت هادي على هذا الطريق وأنت واثق من قبول القربان العظيم، ثمّ جعلتنا نقف عند "بوابة فاطمة" نستقبل ظهور أعدائنا الفارين ونتنفّس ذاك الهواء المقدّس الذي خلنا أنّه بات مُحرّماً علينا. لم يكن الأمر عاديّاً أو يمضي في سياقٍ طبيعيّ تصنعه كلّ مقاومة مهما كانت باسلة، ثمّة ما هو مختلف جدّاً وفريد في التاريخ، وهو أنت.
القائد الذي استطاع، بخُلُقهِ وصدقهِ وبساطته وسماحته ونبله وإيمانه وبلاغته وذكائه، أنْ يُحوّل ما يشبه المستحيل إلى ممكن، أنْ يُقنع ملايين البشر حول العالم، أنّ ما يرونه بعيداً جدّاً، هو قريب جدّاً في الحقيقة، وأنّ أعتى قوى الشرّ التي تملك كلّ أدوات البطش والظلم والدمار، لا يمكنها أنْ تلغي حقيقة "كم مِنْ فئةٍ قليلة" التي جاءت ترجمتها وشروحها بصوتك واضحة وكافية بكلّ لغات العالم.
القائد المعلّم الذي تنير أفكاره الدروب الوعرة وتضع كلماته العلامات على طرقات الحقّ والعدل بيقينٍ كامل للسائرين، القائد الذي لم ينقض عهداً ولم يحنث بوعدٍ إلى أنْ صار عنواناً للصدق حتى لدى جمهور عدوّه، القائد الذي بات، لوحده وبشخصه، مدرسةً فريدةً في الحرب النفسية القائمة على الصدق، وتلك لوحدها، سابقة في التاريخ.
المعلّم الملهِم الذي رسم طريق فلسطين بعناية فائقة واستطاع أنْ يكون ركيزةً راسخة لمحورٍ كامل راح ينمو على جنبات صوته ووعوده وبطولات أبنائه وانتصاراتهم التي كانت كلّ مآلاتها واضحة ومطمئِنة في عينيه، والذي بات حضوره في كلّ معركة داخل فلسطين، أقوى من كلّ آلة حرب العدو، بات سلاحاً هناك، وصار قائداً يتقدّم ظلّه الفدائيّين في غزة ورفح والخليل، صار بشخصه، جزءاً من حرية فلسطين الموعودة والأكيدة، قولاً وفعلاً ورصاصاً وتضحيات وآمالاً.
القائد الذي أعاد مع أبنائه ورفاقه في لبنان والداخل المحتل، فلسطين إلى العرب والعالم، بعد أنْ جهدت قوى كبرى وعظيمة بكلّ ما تملك من موارد وقدرات، أنْ تحوّل فلسطين إلى قضية منسية ومعزولة.
مع نصر الله، وبواسطة نصر الله، رأينا فلسطين خلف نوافذ قلوبنا في 2006، أقرب ممّا كنّا نتخيّل يوماً. من كان يُصدّق، أنّ ثلّة من الشباب الذين يقودهم سيّد هاشميّ نبيل، وفي بلد لا يكاد يُرى على خارطة العالم، سيسحقون أعتى وأقوى الجيوش في هذه المنطقة من العالم، وسيتحوّلون إلى واحد من أصعب الأرقام في المعادلات السياسية والعسكرية المعاصرة؟ لقد أعدتنا إلى فلسطين بكامل يقينك ويقيننا يا سيدي، وما عاد ممكناً لأيّ قوة في العالم، أنْ تثبّط من يقيننا ذاك أو تزعزعه.
أدركُ أنك لم تكن وحدك، وأعرف أنك لا تُحبّ أنْ يُبخَس أصحابك وأبناؤك العِظام حقوقهم، لكن صرت أنت صورتهم كلّهم، كلمتهم كلّهم، صوتهم كلّهم، وأنت ابتسامتهم التي يُلقونها في وجوه فقراء ومظلومي هذه الأمّة، بينما هم يجهدون ويسهرون ويتعبون ويقاتلون بلا أسماء أو وجوه معروفة، وهم سُعداء بأنّك هويّتهم الواضحة التي بات كلّ مظلوم في هذا العالم، يحفظها عن ظهر قلب. ولا أدري إنْ كنتَ، بتواضعك الفريد، قد عرفت بأنّك صرت هويتنا كلّنا نحن أيضاً، أصواتنا ووجوهنا وابتساماتنا، بتَّ أنت اختصارها الكثيف كلّها، لهذا، وغيره كثير جدّاً يا سيدي، أرانا اليوم محمولين في نعشٍ على أكتافنا.
أهذا رفيقك، صفيّك؟ ابن الأكرمين الذي كان يمكن له أنْ يُسهّل علينا بعض الشرح لو بقي، أهذه اليمن الذي ترفع عمامته عالياً؟ السّلام عليكما، السلام على الحاضرَيْن الباقيّيْن الجميليْن، السّلام على قمر نصرنا الآتي وبدره، وإنّا على العهد والوعد ما بقينا وما حيينا. وتلك، وأنت أدرى وأعلم أيّها المعلّم، ليست جنازةً، تلك رحلة جديدة وعظيمة قد وعدتنا بها، يا صادق الوعد.
وإلى لقاءٍ دائم.