آبي أحمد.. سياسات تُهدد العرب وأخرى تدعو إلى القُرب منهم
التوجهات التي ابتدرها رئيس الحكومة الإثيوبية وجدت صدى كبيراً في المجتمع الإثيوبي، لكن تحوّلها إلى ملموس يتطلب توافر شروط موضوعية.
ثمة تناقض يُلحظ في خطاب آبي أحمد، رئيس وزراء إثيوبيا، وتوجهاته تجاه محيط بلاده الجغرافي والحضاري، فقد أبدى في أول عهده بالسلطة مواقف إيجابية تجاه جيرانه في الصومال وجييبوتي وأرتريا والسودان، وأبدى حسن نية تجاه مصر كذلك حين زارها في حزيران/يونيو/2018.
ففي الصومال عزز تعاون بلاده مع حكومته، وساهم من خلال بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال المعروفة بــــ (AMISOM) في بسط سلطان الدولة على أنحاء من أرض الصومال، وفي تأمين العاصمة مقديشو، إذ كانت المشاركة الإثيوبية في قوة عسكرية قوامها 10 آلاف عسكري. لكنّ توقيع إثيوبيا مطلع العام مذكرة تفاهم مع إدارة أرض الصومال الانفصالية نصّت على منح الأخيرة الأولى ميناءً على الساحل الصومالي مقابل الاعتراف بها دولة مستقلة قد عكر صفو العلاقات الصومالية- الإثيوبية، إذ رأت حكومة الصومال في هذا التفاهم تهديداً لسلامة ووحدة أراضيها ونيلاً من سيادتها على كامل التراب الصومالي.
وعززت إثيوبيا علاقاتها مع جارتها جيبوتي التي فكت الإغلاق الإثيوبي حين خصصت لأديس أبابا ميناءً على ساحلها، وشاركتها في بناء خط سكك حديد تربط البلدين، وتمكن من نقل 95% من الصادرات والواردات الإثيوبية. دخل الخط العمل منذ عام 2016، لكن العلاقات توترت بين البلدين بسبب التطور الذي طرأ على العلاقات الإثيوبية- الأرترية بمساعدة إماراتية، جاءت في ظروف توتر في علاقات جيبوتي بأبي ظبي، بسبب رفض السلطات الجيبوتية تمكين شركة مؤانئ دبي من السيطرة على الموانئ الجيبوتية، حينها حمّل أحد مستشاري الرئيس الجيبوتي الإمارات مسؤولية الفتور الذي أصاب علاقات بلاده مع أديس أبابا، وتجددت مخاوف جيبوتي بعد التفاهم الذي أجرته حكومة آبي أحمد مع إدارة أرض الصومال.
أما مع إرتريا، فقد تحسنت العلاقات بين أسمرا وأديس أبابا حين وقع زعيما البلدين اتفاق مصالحة في 9 تموز/يوليو/2018، أنهى عقدين من القطيعة بينهما، لكن سرعان ما ساءت العلاقة بين البلدين بسبب عدم وفاء الحكومة الإثيوبية بمضامين تفاهماتها مع أرتريا التي كان لها دور بارز في إنقاذ تلك السلطة من السقوط في أيدي متمردي إقليم التقراي، والتي استمرت لمدة عامين وانتهت باتفاق مصالحة في العام 2022.
إن ما وسم علاقات إثيوبيا بجاراتها الثلاث: الصومال وجيبوتي وأرتريا انسحب على السودان ومصر، فقد تأزمت العلاقات مع السودان لأربعة أسباب؛ الأول هو سد النهضة، والثاني الأطماع الإثيوبية في أراضي السودان بمنطقة الفشقة، وتمثل السبب الثالث في الدعم السياسي الكبير الذي قدمته حكومة آبي أحمد لمليشيا الدعم السريع في حربها على الدولة السودانية، أما السبب الرابع فيعود إلى الدور الذي تضطلع به إثيوبيا في ملف اتفاقية الإطار الخاصة بمياه النيل المعروفة باتفاقية عنتيبي التي تُمكن بعض دول حوض النيل من إدارة ملف مياه نهر النيل والملفات المجاورة لها، بمعزل عن مشاركة السودان ومصر، وقد أثرت تلك الأسباب سلباً على علاقات إثيوبيا بالسودان، كما أشعل السببان الأول والرابع حرباً باردة بين مصر وإثيوبيا.
في هذا لمناخ الإقليمي المحتشد بالتوتر، جدد آبي أحمد خطابه الذي ابتدره عام 2022، وهو الخطاب الداعي إلى تقارب إثيوبي- عربي، ففي ذلك الوقت بدأت المدارس الحكومية في أديس أبابا تعليم اللغة العربية بتوجيه حكومي، وأبدت الدولة رغبتها في تلقي مساعدات من الدول العربية للتوسع في هذا المنحى، و دعا رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مواطني بلاده إلى تعلم اللغة العربية، وقال إنه سيطلب تدريسها في كل المدارس الحكومية الإثيوبية، وحثّ الإثيوبيين كافة، على تعلم اللغة العربية وإتقانها، وقال: "إن اللغة العربية هُضم حقها في إثيوبيا، معرباً عن أمله في دخول إثيوبيا جامعة الدول العربية "لأنه سيعود عليها بالفائدة".
وفي خطاب له أمام البرلمان في 31/تشرين الأول/أكتوبر/2024، أكد رئيس الحكومة الإثيوبية عزم حكومته على تعزيز علاقاتها مع دول الشرق الأوسط"، مشيراً إلى ضرورة "بناء شراكات قوية مع هذه الدول في ظل الروابط الثقافية والدينية المشتركة، وأشار إلى أن "السياسات الإثيوبية السابقة تجاه دول الشرق الأوسط كانت خاطئة"، وأكد ضرورة تغيير هذا النهج، وقال: "يجب أن نقيم علاقات قوية معهم، لأننا نتشارك كثيراً من جهة الثقافة واللغة والإيمان".
ولفت آبي أحمد إلى أن دول الشرق الأوسط تملك موارد مالية كبيرة ومعرفة وخبرة، وتمثل سوقاً واسعة ومصدراً مهماً لتوافر فرص العمل للشباب الإثيوبي. وقال "العالم يتعاون معهم، ولا فائدة لنا إذا بقينا مكتوفي الأيدي بينما الآخرون يفعلون ذلك".
وأشار أحمد إلى أن "إثيوبيا بدأت بالفعل محادثات للانضمام إلى بعض المنظمات العربية"، مؤكداً أنه في حال سنحت الفرصة، ستسعى أديس أبابا إلى الانضمام إلى جامعة الدول العربية. وأضاف، "نحن عازمون على جعل صوتنا مسموعاً في أي منظمة دولية نشارك فيها، ورأينا بالفعل الأثر الإيجابي للمشاركة في المنظمات المتعددة الجنسيات".
إن التوجهات الجديدة لأديس أبابا الهادفة إلى تصحيح أخطاء إثيوبيا التاريخية تجاه الدول العربية -كما سمّاه رئيس الوزراء آبي أحمد- أمر محمود، بل هو أمر مطلوب من دولة تُعدّ بحسابات التاريخ والجغرافيا جزءاً من الفضاء العربي، لأن الطابع الأبرز لهذا الفضاء طابع حضاري نتج من تفاعلات حضارية واسعة بين حضارة وادي النيل الكوشية، والحضارة البابلية، وحضارة سبأ وحضارة أكسوم الحبشية التي تفاعلت كما كل الحضارات المذكورة مع المسيحية والإسلام الديانتين اللتين نبتتا في الأرض العربية وكمّلتا مكارم الأخلاق والقيم العربية.
الناظر في سمات الهوية الإثيوبية يلحظ بشكل واضح ظلال التفاعل الحضاري العربي- الإثيوبي، وبخاصة في منظومة قيم المجتمع الإثيوبي ومعتقداته، وفي مكوّنات اللغات الإثيوبية التي تحتشد بالمفردات العربية، إذ تسهم اللغة العربية بأكثر من 40% من جملة مفردات هذه اللغات، وهذا دليل آخر يدلل على عمق الترابط العربي- الإثيوبي.
إن التوجهات التي ابتدرها رئيس الحكومة الإثيوبية وجدت صدى كبيراً في المجتمع الإثيوبي، لكن تحوّلها إلى ملموس يتطلب توافر شروط موضوعية، أولها، أن تتحوّل إلى برامج عمل من قبل إثيوبيا، تضمد من خلالها جراحاً قائمة، وتستبدل سياسات طالما رأى فيها العرب الأقربون أنها تقوم على التوسع والأطماع في أراض ومياه عربية، وثانيها أن تعزز إثيوبيا خطواتها تجاه القضايا العربية لا لتخاطب الأنظمة العربية، بل لتخاطب الشعب العربي، فالعلاقات الاستراتيجية بين الدول يجب أن تؤسس على مرئيات الشعوب الثقافية والسياسية والاقتصادية، وثالث الشروط وآخرها هو تعزيز المصالح العربية- الإثيوبية من خلال المصالح المشتركة في كل أبعادها بما يحقق التكامل المفضي إلى وحدة الأمن الاستراتيجي العربي- الإثيوبي.