معتقل جلبوع وقصة الغرفة رقم 5.. الرمز الشهيد سليماني

في ضوء ما كشفته سلسة الميادين التوثيقية لعملية التحرر من سجن جلبوع، "الأبطال"، بشأن تسمية الغرفة، التي تمّ حفر النفق منها، بغرفة "الشهيد سليماني"، ما هو الرابط بين القائد الشهيد والأبطال الستة؟

  • "معتقل جلبوع، القسم 2، رمز الغرفة سليماني"

كشفت السلسلة التوثيقية، "الأبطال"، التي عرضتها قناة الميادين أمس، تفاصيل خاصة عن أسرار عملية التحرر من سجن جلبوع الإسرائيلي، "نفق الحرية"، والتي تمّت العام الفائت، وقادها 6 من أبطال فلسطين. ولعلّ أبرزها كان إطلاق الأسرى الأبطال على الغرفة الرقم 5، في القسم الـ2 من السجن الأكثر تحصيناً في كيان الاحتلال، تسميةَ "غرفة الشهيد قاسم سليماني".

فلسفة

في علم الرمز، للرقم 5 فلسفة خاصة. ومع تعدد المذاهب والمشارب واختلاف الحضارات والثقافات، لم يزدد هذا الرقم إلاّ غموضاً، ولم يزدد أيضاً من يحاول الإحاطة بمعانيه إلا دهشةً.

فهو العدد الأوسط، وكلّ الأعداد الأساسية الأخرى من الـ1 إلى 9 تلتقي عليه، وتدور حوله. ومهما ابتعد بعضها عن بعض، فإن هذا الرقم يبقى نقطة ارتكاز الخط الواصل بين الطرفين. وبالرغم من كونه رقماً أساسياً صعباً، فإن الرقم 5 لا ينحاز إلى أيّ من طرفي الأعداد من دون الآخر، لكنه في الوقت نفسه يُحسَب على الطرفين، فيقفل نصف الدائرة الأول، ويفتح النصف الآخر، لتكتمل به الدائرة.

ويُرمز إلى العدد الخامس كتابةً، بالكتابة المشرقية (التي تُعرف أحياناً بالكتابة العربية، لكنها في الأصل هندية)، بدائرة كاملة، لا يمسك بأولها ولا يدرك آخرها لأنه لا طرف لها، ولا تشوب رسمتها الدائرية أي ثغرة أو شائبة تزعج نسق شكلها الكامل. فكيفما أتيت حدودها الدائرية وجدتَها نفسها، وقد تُرسم في بعض الرسوم بيضاويةً، لترمز إلى أصل الحياة وتجددها.

وفي الرسم العربي للأعداد، يُرمز إليها بمخمّس الأضلاع "5"، يفتح ذراعيه إلى اليمين وإلى اليسار. كما يُرمز إليها في الكتابة الرومانية برأس السهم "V"، يخترق رتابة أعمدة روما الطويلة التي سادت قبله، أو كوتدٍ في الأرض يثبت حين الزلازل، ويُتكأ عليه بين المراحل.

أمّا في علم التحرّر، وفي مدرسة صناعة الإنجاز من غير مواد أولية، وخلق الإرادة من العدم، فمنذ 6 أيلول/سبتمبر الفائت، أصبح للرقم 5 فلسفة خاصة، فلسفة إضافية جديدة، أضفت على رمزيته هيبةً وقداسة، وعلى معناه ترسيخاً لقيم يريد المجرمون أن تموت وتُنسى في غياهب السجون وتحت أسقف الباطون المسلّح.

لا يدرك البعض تماماً معنى أن تكون واقعاً في الطرف الآخر لآلة الحرب الإسرائيلية - الأميركية، فكيف لمن عاش هذا الواقع، واستشعر ثقل ركامه على صدر كلّ تفصيل من تفاصيل حياته اليومية؟ أن تفكّر في التحرّر من قيد المستكبر، إنجاز. أن تقرّر التمسّك بفكرتك هذه، وتبني عليها خططاً ومسارات وفرضيات، إنجاز. أن تقوم من مكانك وتبدأ الدوران حول أملٍ لا يكاد يراه أحد سواك، وأنت في غرفة لو مدّدت رجليك فيها نافستك في مساحتها الحيطان السميكة، إنجاز.

كرمان، إيران - 1978

تطوّع الشاب قاسم سليماني في قوات الثورة الإسلامية في إيران وهو ابن عشرين، وقيود الشاه بهلوي - حليف "إسرائيل" وراعي مصالح واشنطن على حساب مصالح شعبه - تكبّل أيدي الأجنّة في إيران، وهم في بطون أمهاتهم. 

وعندما بدأ عاري اليدين حفر نفق ثورة يتيمة نحو حرية بعيدة الملامح، وفي عتمة أرضٍ أمعن فيها جلاوزة "السافاك" و"الموساد" و"السي آي أيه" إرهاباً وإجراماً، آمن بضرورة العمل الجماعي، فاجتمعت له إرادات عشرات الشبان في كرمان ممن شاركوه في الإيمان والعزم، فعبر معهم ومع آخرين إلى صناعة التحرر والحياة لإيران، ومنها للمنطقة وللأمة والعالم. 

إنجازٌ متواصل ومتراكم لشخصية قلّ نظيرها في تاريخ النضال والبطولة. وظنّ العدوّ أنّه، عبر اغتياله في بغداد مطلع عام 2020، سيقتل الإنجاز، فهل فعل؟

جلبوع، فلسطين - 2021

أن تبدأ العمل، وتعقد أملك على قطعة معدنية، لو رأيتها يوماً أمامك وأنت تمشي في طريق لما تكلّفت حتى عناء ركلها بعيداً، إنجاز. أن تنجح في أن تكتم سرّك، وأن تكتم صوت الحفر وترابه وغباره وجروح يديك وركبتيك، أمام سجّان يملأ أرجاء المكان بالعيون والآذان، إنجاز. أن تضع نصب عينيك شعاع الشمس، ولا تيأس من قضبان الحديد، ولا من طول المسافة، ولا من حيطان الباطون المسلّح المغروزة تحت الأرض، فتتجاوز الحاجز تلو الحاجز، إنجاز.

فكيف إذا عزمت، وأنت الذي لو سمع الناس القابعون في أقبية الظلم منذ الأزل بأحلامك عن شمسٍ ساطعة فوق طبقات الأرض لاتّهموك بالجنون، على من يدور حول شمعة الأمل معك، ويغزل خيطان الإرادة معك، ليمهّد أرض جلبوع الوعرة معبراً لأجسام عجز الاحتلال عن سجن أرواح أصحابها؟

هنا تبدأ الحكاية، وتنتهي. 

تبدأ، لأنّ كلّ مسار تحرّر لا يبدأ من هذا المستوى من الروح المفعمة بإرادة القتال والمشتعلة عزماً على صناعة المستحيل، لا يعوَّل عليه.

وتنتهي، لأنّ كلّ مسارٍ يبدأ من هذا المستوى من الروحية المقاومة، هو حتماً محكوم بالنصر، ولا تفصله عنه إلاّ خفقة جناح، أو ضغطة زناد، أو نقرة في آخر صخرة في نفق الحرية.

نفق الحرية، بين كرمان وجلبوع

لم يكن قائد فيلق القدس في حرس الثورة الإسلامية، الفريق قاسم سليماني، شخصية عادية، بل كان أشبه بتجسّد حقيقي لأسطورة الرجل الذي يأخذ على عاتقه صناعة المستحيل.

لو وقف ذلك الشاب الأسمر عام 1978، هو ومجموعة من رفاقه الذين تبعوه في طريق الثورة والقتال، ليقول إنّ هدفه هو مواجهة الاحتلال الأميركي، سياسياً وأمنياً وثقافياً، في إيران، ثمّ مواجهة سياسات الناتو في الشرق الأوسط والمنطقة الإسلامية، وجعل هذه البلاد جحيماً على المستعمر الأميركي، ودعم المقاومتين الفلسطينية واللبنانية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي بكل سلاح وعتاد ومساندة لدحر "الجيش الذي لا يُقهر" من بيروت، ثمّ الجنوب اللبناني، ومواجهة موجة الإرهاب التكفيري، المدعوم أميركياً وإسرائيلياً، وهزم مشروع خلق "إسرائيل" تكفيرية جديدة، وتدمير "دولة" "داعش" المزعومة، ونقل المعركة إلى أرض العدو تمهيداً لمعركة التحرير الكبرى، التي تحتاج إلى إنشاء محور للمقاومة والتحرّر، يمتدّ من صنعاء إلى دمشق، مروراً بطهران وبيروت وغزة والضفة والقدس وجنين ونابلس وغيرها، ويمتلك أسلحة استراتيجية رادعة وتكنولوجيا عسكرية كاسرة للتوازن، لكان ذلك، في نظر "عقلاء السياسة"، أقرب إلى سلسلة من الأحلام الوردية من كونه توجّهاً وعزماً وإرادةً واقعية.

حسناً. لقد أنجز الشهيد القائد سليماني ورفاقه المقاومون، على امتداد محور المقاومة، كلّ ذلك.
تشهد عليه أسوار المستوطنات الإسرائيلية، التي باتت تحجب عن المستوطنين أشعة الشمس، خوفاً وتحصيناً. لقد قلب سليماني المعادلة، وجعل كيان الاحتلال سجناً للسجان، وعبئاً على داعميه.

كذلك، لو وقف محمود العارضة وزكريا الزبيدي وأيهم كممجي ومناضل نفيعات ومحمد العارضة ويعقوب القادري، في عام 2021، ليقولوا إنهم سينجحون، وسط كلّ موجة التخلّي الرسمي عن القضية والتطبيع الرسمي العربي العلني مع الاحتلال، ووسط كلّ الانقسام والخلافات الداخلية في البيت الفلسطيني، ووسط غياب أي دعم ومساندة، في كسر قيد أحد أكثر السجون تحصيناً في العالم، وتحيير المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، في طول الأراضي المحتلة وعرضها، وإدخال الأرق أياماً إلى أعين ملايين المستوطنين ممن أمسوا معتقلين داخل مساكنهم التي سرقوها من أصحابها، وفي إحياء الأمل في قلوب الشبان العرب والفلسطينيين بأنّ الحرية "المستحيلة" ممكنة، على رغم كلّ هذا الظلام - وهو الأهمّ -، لما صدّقهم أحد.

حسناً أيضاً. لقد أنجز هؤلاء الأبطال الستة كلّ ذلك.

لقد أمعنت خطواتهم المطمئنة انتقاماً، حين داست أرجلهم أرض وطنهم فلسطين، ومشت مبتعدةً عن حائط السجن المرتفع وحراسه؛ أمعنت كلّ خطوة وكلّ نفَسٍ حرٍّ لهم في هواء فلسطين الطلق انتقاماً من كلّ زارعي الأوهام ومثبطي العزائم من أبواق الاحتلال الأميركي - الإسرائيلي.

في الواقع، كسر أبطال نفق الحرية، كما بطل كرمان، كلّ قيود الأوهام التي كبّلت عزم ملايين آخرين من شبان يملكون طموحات كبيرة ورؤىً تحررية ونضالية.

لقد غرسوا، على نحو إعجازيّ، في قلوب كانت تئنّ تحت وطأة التخاذل والخيانة والتخلي والانبطاح والاستسلام أمام الأميركي والإسرائيلي والإرهابي التكفيري، شجرةَ الأمل بأنّ كلّ الأحلام التي راودت يوماً عقول الشبان العرب بشأن التحرر والعزة والسيادة والقوة والاقتدار، هي قابلة للتحقق، وأنّ الذي يصفه جلاوزة الاستكبار بالمستحيل، تَحَقَّق، و لا يزال يتحقق كلَّ يومٍ مع رصاصات المقاومين وسكاكينهم في الضفة وجنين والداخل المحتل، ومع كلّ صاروخ يخرق عتمة ليل غزة متصدياً لغطرسة الاحتلال، ومع كلّ جندي محتلّ بات يرى مطارات دول العالم أقرب إليه كثيراً من بنت جبيل أو جنين أو غزة.

فليكتبِ الباحثون في علم الرمز، أنّ غرفة الشهيد سليماني، التي تحمل الرقم 5، بجهود 6 أبطال تحرروا من سجن جلبوع، ومعهم 5 أبطال آخرين، أحيت الأمل في قلوب ملايين المقاومين والمناضلين، وليحسبوا، على هذا الأساس، موعدَ تحرير فلسطين.