من عفرين إلى عين عيسى.. التاريخ يعيد نفسه
بات واضحاً أنَّ أنقرة مصمّمة على احتلال البلدتين الاستراتيجيتين اللتين تتواجد فيهما وحدات حماية الشعب الكردية؛ العدو الأهم بالنسبة إلى القوات التركية في المنطقة.
تتحدّث المعلومات منذ فترة عن مساعي الفصائل الموالية لأنقرة لاحتلال بلدتي عين عيسى وتل تمر، بعد أن سيطرت على بعض النقاط على طريق الحسكة - حلب الدولي الذي يربط المدينتين، وتتمركز في هذه النقاط قوات سوريا الديموقراطية. وتتحدّث المعلومات اليوميّة عن اتصالات مستمرة بين الروس والأتراك لوقف العمليات القتالية، وبالتالي إيجاد مخرج للأزمة التي يبدو أنّها لن تنتهي.
وقد بات واضحاً أنَّ الطرف التركي مصمّم على احتلال البلدتين الاستراتيجيتين اللتين تتواجد فيهما وحدات حماية الشعب الكردية؛ العدو الأبرز بالنسبة إلى القوات التركية في المنطقة. ويفسر ذلك الحشود العسكرية الضخمة التي وصلت إلى ريفي الرقة والحسكة، والتواجد العسكري الممتد على طول الشريط الحدودي السوري مع تركيا، وهو بعمق يصل إلى 30 كم وطول 110 كم من رأس العين إلى تل أبيض، التي سيطر عليها الجيش التركي خلال عمليات "نبع الفرات"، بعد أن توغل في المنطقة في 9 تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي بضوء أخضر روسي وأميركي معاً.
كلّ ذلك مع استمرار تناقضات وتعنّت وحدات حماية الشعب الكردية التي ترفض الانسحاب من عين عيسى وتسليمها للجيش السوري، كخطوة أولى على طريق عودة مؤسَّسات الدّولة السورية إليها بوساطة روسية تمنع التقدم التركي صوبها، وهو الخطأ الّذي ارتكبته الوحدات المذكورة بداية العام 2018 في عفرين، وشجّع ذلك الجيش التركي على التوغل واحتلال المدينة وجوارها بضوء أخضر روسي وأميركي، بعد أن قتل أكثر من 3 آلاف من مسلحي الوحدات المذكورة التي خسرت موقعاً استراتيجياً على الحدود مع تركيا، كما خسرت المنطقة الممتدة من رأس العين إلى تل أبيض، وقريباً عين عيسى وتل تمر، وسط السيناريوهات التي تتوقع أن يفاجئ الجيش التركي الجميع بعملية عسكرية واسعة تستهدف منبج وجوارها، ولاحقاً عين العرب/ كوباني.
وسيمنح ذلك القوات التركية في الشمال السوري تفوقاً استراتيجياً يعرقل تحركات الوحدات الكردية، كما يعرقل أيضاً الجيش السوري خلال تنقلاته بين حلب والرقة، ثم الحسكة ودير الزور والقامشلي.
وهنا، لا بدَّ من التذكير بمقولة محمد عاكف، كاتب النشيد الوطني التركي، الذي قال: "يقولون عن التاريخ إنه يكرر نفسه. لو استخلصت الدروس منه، لما كرر نفسه".
هذا هو حال الوحدات الكردية التي راهنت أكثر من مرة على الدعم الأميركي، فخسرت كل ما خسرته حتى الآن، وهي مرشحة بتصرفاتها الحالية إلى مزيد من الخسارة، فالجميع يعرف أن أنقرة لن تسمح بكيان كردي مستقل شرق الفرات إلا في حالة واحدة، وهي أن يكون هذا الكيان تابعاً لها، وهو ما كانت تريده من الكيان الكردي شمال العراق.
ويفسر ذلك استمرار التنسيق والتعاون التركي مع مسعود البرزاني الذي قاتل منذ العام 1992 إلى جانب الجيش التركي ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني التركي، كما يفسر مساعي أنقرة للتنسيق مع بغداد في هذا المجال، وهو مهم أيضاً بالنسبة إلى إيران وأميركا، باعتبار أن قسد وجناحها الكردي يسيطران على مساحات واسعة من الحدود السورية مع العراق.
وما زال حوالى 250 كم من الحدود السورية مع تركيا تحت سيطرة هذه الميليشيات الكردية التي ما زالت تحظى بدعم من واشنطن ولندن وباريس وروما وبرلين، بل وحتى تل أبيب.
وقد تحدثت المعلومات أكثر من مرة عن تدريب الكوادر العسكرية والاستخباراتية الكردية في "إسرائيل"، وبتمويل سعودي إماراتي، لإزعاج تركيا وسوريا وإيران معاً، ما دامت وحدات حماية الشعب هي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي، الذي يمتلك ذراعاً أخرى في إيران (باجاك)، وهي تحظى جميعاً باهتمام القوى والدول الغربية، التي يبدو واضحاً أنها لا تريد للمشكلة السورية أن تنتهي بانتصار الرئيس الأسد، وهو ما سيعني انتصار إيران وحزب الله وروسيا، وسيدفع القوى والدول المذكورة، حتى في عهد الرئيس بايدن، لاستخدام الكرد كورقة مساومة مع كل الأطراف، ما دامت قابلة للاستهلاك، كما هو حالها منذ اتفاقية "سايكس بيكو" ومن بعدها اتفاقية "سيفر" (1920)، التي يبدو أنّ الغرب يسعى إلى إحيائها بعد مئة عام.
ويفسّر كلّ ذلك التحركات العسكرية التركية في المنطقة التي يتواجد فيها الجيش التركي مع عشرات الآلاف من المسلّحين السوريين والأجانب الّذين لن تتردّد أنقرة في استخدامهم لمنع المشروع الكردي، حتى لو كان ذلك على الأرض السورية، فقد سعت أنقرة للفترة 2011-2014، ومن خلال استضافة زعيم الاتحاد الديموقراطي الكردستاني صالح مسلم في تركيا عدة مرات لإقناع كرد سوريا بالتمرد ضد الرئيس الأسد مقابل دعمهم للحصول على حقوقهم في سوريا الجديدة!
ومع فشل هذه المساعي بدخول الأميركيين على الخطّ خلال أحداث عين العرب/ كوباني، لم تتردد أنقرة في تنفيذ مخططاتها ومشاريعها التي استفادت خلالها من مسلّحي الفصائل المختلفة، كما فعلت خلال عملية "نبع السلام" في تشرين الأول/أكتوبر 2019. وشجع ذلك أنقرة على الاستفادة لاحقاً من هؤلاء المسلحين في ليبيا وكاراباخ، وقريباً في أماكن أخرى، بعد أن أعلنت نفسها الحامي والداعم الوحيد لهم، كما هو الحال في إدلب!
ولم تدرك قيادات الاتحاد الديموقراطي الكردستاني وقواتها المسلَّحة أنّ أنقرة لن تتردّد في القيام بالمزيد من العمل العسكري، وأن الغرب لن يحرك ساكناً إلا في إطار ضيّق يخدم مشاريعه ومخطّطاته في المربع السوري– التركي– العراقي– الإيراني، حيث يعيش الكرد، وكانوا دائماً عرضة لتجاذبات إقليمية ودولية، وهم دائماً الضّحية فيها طيلة السنوات المئة الماضية.
وفي معظمها، كان الاقتتال الكردي – الكردي هو الأكثر دماراً بالنسبة إلى الكرد في هذه البلدان الأربعة، وخصوصاً العراق وتركيا، من دون أن يحالف الحظ الكرد والبلدان الأربعة في استخلاص الدروس اللازمة للتوصل إلى معالجة سياسية واجتماعية وثقافية، والأهم إنسانية وأخلاقية، لقضايا الكرد، الذين غدر بهم الغرب أكثر من مرة، فكانوا والدول التي يعيشون فيها الضحية، ويبدو أنهم سيبقون كذلك ما داموا يراهنون على من غدر بهم في الخارج والداخل!