لبنان القادر والعادل.. رؤية واقعية يسعى لها حزب الله

لقد فرض حزب الله نفسه على الساحة السياسية اللبنانية على مدى 40 عاماً.

  • لبنان القادر والعادل.. رؤية واقعية يسعى لها حزب الله
    لبنان القادر والعادل.. رؤية واقعية يسعى لها حزب الله

تعتبر الدولة مؤسسة إنسانية قديمة ارتبطت نشأتها بالمجتمعات الزراعية في حضارة ما بين النهرين والصين، ومن ثم ظهرت الدولة الحديثة في أوروبا، والتي حشدت الجيوش الكبيرة، وفرضت الضرائب، وامتلكت بيروقراطية مركزية، واستطاعت فرض سلطتها على مناطق وأقاليم شاسعة. 

ويعد بناء الدولة العملية التي يعزز المجتمع من خلالها قدرته على العمل. وتتمتع الدولة عموماً بمدى واسع من الوظائف المختلفة وسلطة القسر والإكراه. وقد عرَّف تشارلز تيلي بناء الدولة بأنه مقدمة لظهور موظفين متخصصين، والسيطرة على أراضي الدولة، والولاء والاستمرارية، ومؤسسات دائمة مع دولة مركزية ومستقلة تحتكر استخدام العنف. 

وبحسب معهد التنمية لما وراء البحار، إن عملية بناء الدولة تتجه إلى الإجراءات التي تتداولها الأطراف الدولية والوطنية الفاعلة لإنشاء مؤسسات الدولة وإصلاحها أو تعزيزها، ويحتاج أيُّ بناءٍ أو نظامٍ سياسي إلى الحد الأدنى من الاستقرار لتسويغ شرعيته والتوافق مع النظام الطبيعي للأشياء، وإلى حجج تكون لمصلحة أغلبية الأفراد. وقد أكد الإمام الخميني في كتابه "الحكومة الإسلامية" ضرورة بناء الدولة العادلة.

الدولة العادلة وفق رؤية السيد نصر الله

هذه الدولة العادلة هي ما يطمح إليها اللبنانيون اليوم، وما ينتظره الشعب الذي يعاني غياب هذه الدولة وإهمالها، والذي بات ينظر إلى بلده يتهاوى ومؤسسات دولته تتأكل، وهذه هي الدولة العادلة التي تحدث عنها الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في خطابه الانتخابي في الضاحية الجنوبية لبيروت بكل صدق وتجرد، إذ عبر عن رؤية الحزب للدولة التي يريدها في لبنان، وتحدث بشكل مسهب عن شكل الدولة العادلة التي يستحقها الشعب اللبناني، وعن الأسلوب الذي يفترض أن تتبعه مؤسساتها لكي تلبي طموحات هذا الشعب. 

لم يتحدث السيد عن الدولة العادلة بالمعنى الفلسفي أو بالمعنى الأفلاطوني، ولم يردد شعارات لا يمكن أن تتحقق، بل كان شفافاً إلى أقصى الدرجات، ولم يقدم الوعود بالتغيير الجذري، لكنه أكد وجزم بذل جهود كثيرة وتحمل مسؤولية كبيرة في هذا المضمار.

وبما أن المشروع الواقعي الطبيعي لأيّ حركة سياسية في لبنان يجب أن يكون مشروعاً إصلاحياً في النظام، ومشروعاً إصلاحياً في الدولة، فإن السيد وضع يده على الجروح الكثيرة التي يعانيها النظام السياسي اللبناني، ليؤكد بعد ذلك مجموعة من الثوابت التي يعمل وفقها حزب الله، فقد انطلق سماحته من الحديث عن النظام السياسي الموجود، والدولة الموجودة، والدستور المنبثق من اتفاق الطائف، حيث يوجد قوانين، وتوجد مؤسسات، مع الأخذ بالاعتبار أن لبنان يقوم على الطوائف، وأُسِّس من قبل الانتداب، ويعيش فيه اللبنانيون القلق على الكيان.

ورغم أن هناك مشاكل تعوق القدرة أحياناً على العمل والإنتاج، وعلى أن يكون ذلك بمستوى طموح اللبنانيين وتوقعات اللبنانيين، فيجب البناء على ما هو موجود، والانطلاق نحو تحسينه للخروج من الأزمات.

لقد استدل السيد نصر الله على الدولة العادلة الممكنة من الآية الكريمة 25 في سورة الحديد، إذ قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.

وهنا يوجد أحد الأهداف الرئيسية للرسالات السماوية، ولأنبياء السماء، وللكتب السماوية، هي أن يقوم الناس بالقسط، أن يقوم الناس بالعدل، أن تكون حياتهم فيها عدالة إذا استطاعوا، أن تكون كلّ حياتهم عدالة، وإلا فليعملوا للوصول إلى أعلى مستوى ممكن من العدالة. 

وقد ضرب سماحته أمثلة عديدة على الدولة العادلة، وعلى المساعي التي يبذلها حزب الله للوصول إلى بعض تجلياتها، ومنها "القانون النسبي الذي نادينا به منذ سنة 1992 بعد سنوات طويلة، لكن في النهاية تحقق سعينا - نحن وقوى سياسية أخرى - وأنا أقول لكم إنه كان صعباً جداً حتى كيف سار. هذه كانت عناية الله سبحانه وتعالى، لكن هذه صورة لدولة عادلة؛ الدولة العادلة هي التي تقدّم قانوناً انتخابياً يشعر فيه جميع المكوّنات اللبنانية ضمن التركيبة الخاصة بأنّهم قادرون على أن يوصلوا من يمثّلهم إلى مجلس النواب. هذه دولة عادلة".

كذلك، تحدث سماحته عن أن "الدولة العادلة يعني الدولة التي تهتمّ بشعبها، بحياته، بجوعه، بفقره، بعوزه، ببطالته، بمياه شربه، بصحته، بتعليمه. هذه الدولة العادلة. وهنا الدولة العادلة هي التي تمارس الإنماء المتوازن بين كلّ المناطق، ولا تميّز منطقة عن منطقة، والدولة التي ترعى غير القادرين على العمل. (موضوع) العجزة هنا تأتي ضمان الشيخوخة، موضوع الأيتام ودعم المؤسسات التي ترعى الأيتام، المرضى أصحاب الأمراض المزمنة".

لكنّ سماحته أكَّد أن "مسؤولية بناء الدولة العادلة والقادرة تقع على الجميع. لا يستطيع أي حزب أو تيار أو حركة أو تنظيم أو جماعة سياسية في لبنان أن تدّعي وتقول: أنا قادرة على بناء دولة عادلة وقادرة بمفردي. هذا لا يكون صادقاً مع الناس. وإذا قلت لكم إن حزب الله قادر لوحده على بناء دولة عادلة قادرة، لا أكون صادقاً معكم. هذا أمر غير واقعي. لا يستطيع أحد أن يدّعي ذلك، لأن هذه تركيبة لبنان، تحويل الدولة إلى أفضل صيغة تكون فيها دولة عادلة وقادرة يحتاج فيها إلى تعاون الجميع؛ تعاون القوى السياسية، والأحزاب، والتيارات، والقيادات. هذا بلد قائم على الشراكة، وهذا ما ندعو إليه، الشراكة وعدم الإلغاء وعدم الإقصاء".

هذا ملخص رؤية حزب الله للدولة، وهو ما قدمه منذ العام 2009 عبر الوثيقة السياسية، فهوية حزب الله هي من هوية لبنان، ولا يمكن أن تُحفظ هوية هذا الوطن إلا بقوة أبنائه. وكما كان واضحاً من خلال الحشد الجماهيري في مهرجان الضاحية والأطياف المشاركة فيه، فإن حزب الله اليوم لم يعد حزباً للطائفة الشيعية فحسب، بل هناك مؤيدون كثر يلتفون حوله، لما يمثله من شرعية مقاومة تحرر لبنان وتحميه وتساهم في بناء الدولة.

رؤية حزب الله لبناء الدولة في الوثيقة السياسية

لقد أكَّد حزب الله في وثيقته السياسية التي أعلنها السيد نصر الله في العام 2009 أن رؤيته للوطن تنطلق من "أنّ لبنان هو وطننا ووطن الآباء والأجداد، كما هو وطن الأبناء والأحفاد وكل الأجيال الآتية، وهو الوطن الذي قدّمنا من أجل سيادته وعزته وكرامته وتحرير أرضه أغلى التضحيات وأعزّ الشهداء".

وتضيف الوثيقة: "إننا نريد هذا الوطن واحداً موحَّداً، أرضاً وشعباً ودولةً ومؤسسات، ونرفض أي شكل من أشكال التقسيم أو "الفدرلة"، الصريحة أو المقنَّعة، ونريده سيداً حراً مستقلاً عزيزاً كريماً منيعاً قوياً قادراً".

ويعتبر الحزب في هذه الوثيقة أن "من أهم الشروط لقيام وطن من هذا النوع واستمراره أن تكون له دولةٌ عادلةٌ وقادرةٌ وقويةٌ، ونظامٌ سياسيٌ يمثّل بحق إرادة الشعب وتطلعاته إلى العدالة والحرية والأمن والاستقرار والرفاه والكرامة، وهذا ما ينشده كل اللبنانيين ويعملون من أجل تحقيقه، ونحن منهم".

ونشير هنا باختصار إلى رؤية حزب الله للدولة وفق الوثيقة السياسية. وقد وردت كلمة الدولة فيها أكثر من 15 مرة، نظراً إلى أهميتها بالنسبة إلى الحزب، إذ تقول إنَّ الدولة التي نتطلع إلى المشاركة في بنائها مع بقية اللبنانيين هي:

-الدولة التي تصون الحريات العامة، وتوفر كلّ الأجواء الملائمة لممارستها.

-الدولة التي تحرص على الوحدة الوطنية والتماسك الوطني.

-الدولة القادرة التي تحمي الأرض والشعب والسيادة والاستقلال.

-الدولة القائمة في بنيتها على قاعدة المؤسسات الحديثة والفاعلة والمتعاونة.

-الدولة التي تلتزم تطبيق القوانين على الجميع.

-الدولة التي يتوافر فيها تمثيل نيابي سليم وصحيح لا يمكن تحقيقه إلا من خلال قانون انتخابات عصري.

-الدولة التي تعتمد على أصحاب الكفاءات العلمية والمهارات العملية وأهل النزاهة.

-الدولة التي تتوافر فيها سلطة قضائية عليا ومستقلة وبعيدة عن تحكّم السياسيين.

-الدولة التي تُقيم اقتصادها بشكل رئيس على قاعدة القطاعات المنتِجة، وتعمل على استنهاضها وتعزيزها.

-الدولة التي تعتمد وتطبق مبدأ الإنماء المتوازن بين المناطق، وتعمل على ردم الهوّة الاقتصادية والاجتماعية بينها، وتعتمد اللامركزية الإدارية.

-الدولة التي تهتم بمواطنيها، وتعمل على توفير الخدمات المناسبة لهم من التعليم والطبابة والسكن.

-الدولة التي تَجهدُ لوقف الهجرة من الوطن؛ هجرة الشباب والعائلات، وهجرة الكفاءات والأدمغة، ضمن مخطط شامل وواقعي.

-الدولة التي ترعى مواطنيها المغتربين في كلِّ أصقاع العالم، وتدافع عنهم وتحميهم، وتستفيد من انتشارهم ومكانتهم ومواقعهم لخدمة القضايا الوطنية.

لقد فرض حزب الله نفسه على الساحة السياسية اللبنانية على مدى 40 عاماً. ومع دخوله المعترك السياسي، فإنَّ ذلك كان دفاعاً عن المستضعفين من هذا الشعب ونصرة لهم، ولكي يحمي هذه المقاومة في السياسة أيضاً، وثمة الكثير من البنود التي يطول الحديث عنها في وثيقته السياسية، إلا أنَّ رؤيته لبناء الدولة واضحة، وهو يقوم بذلك بشكل حثيث. 

وقد وقف إلى جانب الدولة اللبنانية وهي تنهار، فساهم في كسر الحصار وتأمين المساعدات، كما ساهم في تشكيل حكومات لبنانية لا يتدخل فيها الخارج، فضلاً عن محاربة الفساد عبر إثارة العديد من الملفات وتحويلها إلى القضاء والنيابة العامة، والذي ما زال يتابعها إلى الآن. هذه هي الدولة القادرة العادلة التي يسعى إليها حزب الله، وعلينا كشعب أن نسعى معه ونؤازره لكي نصل إليها.

انتخابات تشريعية مصيرية يشهدها لبنان، بعد ما يزيد على العامين من أزمة اقتصادية سياسية غير مسبوقة، تشابك فيها المحلي مع الإقليمي والدولي، فكيف سيكون وجه لبنان بعد هذه الانتخابات؟