قبل أن تودع الحياة.. ابتسم للكاميرا!

 شكّلت مظاهر الصبر والثبات لدى الشعب الفلسطيني نقطة تحول أسَّست نواة ثورة تحررية غربية على ممارسات الألوهية لدى السلطة العالمية التي دخلت عصر التهالك.

  • كيف وصل الطوفان إلى العالم؟
    كيف وصل الطوفان إلى العالم؟

"الله خلقنا، والله بياخدنا، والله يفعل ما يريد، واحنا الحمد لله صابرين". عبارات حوَّلت رشفة قهوتنا إلى غصة باردة حين تلاها رجلٌ خسر طفله في أحد مشافي غزة.

كيف وصل الطوفان إلى العالم؟!

لم تقف تلك الكلمات وغيرها عند حدود العالم العربي والإسلامي الذي ترجمها كأعظم درس في العقيدة، بل أثارت رد فعل رهيباً لدى الشعوب الغربية أيضاً؛ فقد علقت إحدى الشابات البريطانيات في مقطع مصور نشرته صفحة  "AL Arab in UK"في فايسبوك قائلة: "ما زال الفلسطينيون المسلمون يقولون الحمد لله، الله يفعل ما يريد".

كذلك، انتشر مقطع لشابة أميركية في منصة "Tik Tok" تبكي قائلةً: "هؤلاء هم المؤمنون. ما هذا الأمل الذي لا يقهر لديهم؟!"، وأخرى قالت: "لا ييأسون من الحياة أبداً. الشيء الوحيد الذي يخافه أولئك الناس هو الله"!

الكثير من رواد التواصل الاجتماعي في الغرب، وخصوصاً فئة الشباب، علّق على هذه الكلمات معرباً عن انبهاره بهذا السلام الداخلي للفلسطينيين، كما لو أنه إبداع يشبه انبهارنا بالذكاء الاصطناعي الذي بلغ أعلى صور تطوره في الآونة الأخيرة.

كيف تجاوز الطوفان تحصينات الترسانة الإعلامية الأميركية؟

تستخدم الترسانة الإعلامية للسلطة العالمية وسائل متعددة للتحكم في الرأي العام العالمي بين تسكينه وتحريكه وتوجيهه بحسب ما تتطلب مصالحها وسياساتها، وبما تمتلكه من إمكانات ضخمة وأساليب ووسائل متعددة لها مصطلحاتها وسراديبها في مضمار الحرب النفسية.

تستفيد السلطة العالمية من الجغرافيا واختلاف اللغة في التعتيم على المجتمعات الغربية فيما يتعلق بقضايا منطقة الشرق الأوسط، مثل قضية فلسطين وسوريا والعراق وغيرها. أما حين لا يكفي التعتيم وحده، فتسعى لتقدم بديلاً يراعي الرواية الإسرائيلية والأميركية ليخدم سيناريو الهولوكست المفقود من خلال تصوير المقاومة في غزة كحركة إرهابية تذبح الأطفال الإسرائيليين وتعتدي على منازل المدنيين، فيما تتعامل مع الرأي العام في العالم العربي والإسلامي بصورة مختلفة نوعاً ما.

على سبيل المثال، قد تلجأ السلطة العالمية إلى أسلوب الإلهاء، فتسلط الضوء على حدث عالمي تختار توقيته ومكانه في كل مرة تريد أن تمرر حدثاً سياسياً أو عسكرياً من دون أن تصل ضجته إلى مسامع الرأي العام العربي، كما حدث في مونديال قطر الذي تزامن مع إعلان العملية العسكرية التركية في الشمال السوري، وكما ألقى موسم الرياض بظلاله على الشاشة العربية كأضخم حدث في السعودية، على أمل أن يشيح الرأي العام العربي الغاضب بطرفه عما يحدث في غزة، أو قد تلجأ إلى أسلوب الترهيب الإعلامي عبر تعويم مشاهد الدمار وآثار الحرب لدى الفئة المستضعفة من أجل كم أفواه المتضامنين مع المقاومة خشية من العاقبة.

وقد رأينا منذ بدء الحرب في 6 تشرين الأول/أكتوبر وسائل إعلام عربية تهول من حجم خسائر المقاومة في غزة وتصوره كعقاب لأهلها بسبب ضربات المقاومة الفلسطينية على المواقع العسكرية الإسرائيلية من دون ذكر خسائر الطرف المقابل.

وبينما استخدم إعلام السلطة العالمية كل الأساليب معاً، إلا أن جملة من الأسباب حالت هذه المرة دون نجاحها في التحكم في الرأي العام العالمي وحجبه عما يحدث في كوكب غزة.

أولاً: المعاملة الجيدة غير المتوقعة من قبل عناصر المقاومة الفلسطينية التي نفذت اقتحام المستوطنات الإسرائيلية في صباح 6 تشرين الأول/أكتوبر. وقد شاهدنا فيما بعد شهادات نساء إسرائيليات على حسن معاملة عناصر المقاومة لهن، والتركيز على مقولة "نحن مسلمون لن نؤذيكم"، وهذا منهج أسس له من قبل الفدائيون الفلسطينيون في القدس المحتلة والضفة.

هذا المنهج ساعد في تحطيم شبح الإسلاموفوبيا الذي عملت سياسة السلطة العالمية سنوات طويلة وبتكاليف طائلة على ترسيخه في أذهان شعوب العالم.

كما فند أيضاً ادعاءات "إسرائيل" بقيام المقاومة الفلسطينية بذبح الأطفال في مستوطنات الغلاف.

ثانياً: الابتسامة الفلسطينية والتفاؤل الذي تناقلته الميديا كأعجوبة العصر في كوكب فلسطين وغزة، حيث يشاهد الإنسان الغربي المتطور والمتحضر صوراً من أسرار السعادة لم يعهدها في أوج تطور الحياة ورفاهيتها من حوله، إذ يجد نقصاً حاداً في الفلسفة الوجودية داخل مجتمعه على حساب المادة وطوفان الآلة.

هذا النقص تجسد على شكل محاولات بائسة للبحث عن السعادة المفقودة في التحول الجنسي والفصل بين النوع والجنس، والذي لم يقف عند حدود مجازفة بعض الذكور والإناث بطبيعتهم من أجل البحث عن السعادة وإرضاء الذات، ولكن بلغ بهم اليأس والحيرة مبلغاً جعل الجنسين يضحيان بإنسانيتهما ويختاران التحول إلى كلاب أو حيوانات أخرى بحثاً عن كنز السعادة والرضا المفقود، والذي صدم الكثيرين برؤية آثاره في وجوه شعب يفقد كل المقومات المادية للحياة في غزة.

ثالثاً: إمعان الجيش الإسرائيلي في ارتكاب المجازر وسفك دماء الأطفال والنساء والمدنيين والصحافيين بضوء أخضر من الإدارة الأميركية من دون تحقيق أي نتائج أو أهداف قرأها الإسرائيليون فشلاً وعدم مبالاة بحياة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، وكذلك قرأها الرأي العام العالمي ضعفاً وعجزاً من جيش مدعوم من كل دول أوربا وأميركا أمام مدينة محاصرة منذ 17 عاماً؛ فقد رسم تزاحم الأرواح في سماء غزة سماء ثامنة تقطر دماً توقظ فيها الضمائر النائمة والقلوب المغيبة في أنحاء العالم.

الطوفان يتحدى الأديان والجغرافيا واللغة وينتصر

تعدّ تهمة معاداة السامية في الدول الغربية جريمة تتجاوز كل الخطوط الحمر. بهذه العصا، لجمت السلطة العالمية كل صوت يهمس ضد "إسرائيل"، لكن بالرغم من ذلك تضامن الكثير من المشاهير والشخصيات العالمية ورفعوا أصواتهم لإيقاف الحرب.

وهناك من الأمثلة الكثير، فقد رفع عدد من المحامين من مختلف الدول الأوروبية دعوى قضائية ضد "إسرائيل"، كالمحامي الفرنسي جيل ديفرز الذي جمع حوله أكثر من 300 محامٍ يؤيدون دعوته، بحسب وكالة "TRT عربي".

تزامن ذلك أيضاً مع مواقف المسؤولين الغربيين التي بلغت حد الشتم والإدانة لـ"إسرائيل" والمطالبة بمحاسبتها، إذ دعت بيترا دي سوتر، نائبة رئيس الوزراء في بلجيكا، إلى فرض عقوبات على "إسرائيل" بسبب تصرفاتها، فيما وضع هتاف "من النهر إلى البحر" نائبة الكونغرس الديمقراطية عن ولاية ميتشيغن رشيدة طليب تحت الرقابة في إطار معاقبتها رسمياً بعدما شاركت فيديو لمتظاهرين يهتفون "من النهر إلى البحر"، متهمةً الرئيس الأميركي جو بايدن بارتكابه إبادة جماعية في غزة.

وعلى هذا المنوال، لم يمنع فقدان الكثير من منتقدي العدوان الإسرائيلي على غزة وظائفهم ووضع الطلاب الداعمين لفلسطين في القوائم السوداء في الولايات المتحدة الأميركية من امتداد الطوفان ليخرج الوضع عن السيطرة في سائر دول الاتحاد الأوروبي والعالم الغربي عموماً.

كم مرة سيكرر محمد صلاح نفسه؟

تزداد المخاوف الأميركية والإسرائيلية من تبعات فقدان السيطرة على شعوب العالم يوماً بعد يوم. وقد تطورت المواقف الشعبية بشكل نوعي بعد 6 تشرين الأول/أكتوبر، وانتهى عصر المواقف الفردية والتظاهرات المحدودة، وأصبح الطوفان يجرف تحصينات الحرب الإعلامية والنفسية والضغوطات التي تمارسها السلطة العالمية على العالم.

والخوف كل الخوف أن يتطور الأمر من إشهار سلاح الكلمة إلى خلق بيئة داعمة للفلسطينيين بكل أنواع السلاح في كل مكان يكون فيه الإسرائيليون أو مصالحهم في العالم. وقد ذاق الإسرائيليون مثل هذا السم من قبل، آخره كان العملية الفدائية التي نفذها الجندي المصري محمد صلاح في أكثر الأماكن أمناً وهدوءاً على الحدود الفلسطينية المصرية.

الخلاصة

 شكّلت مظاهر الصبر والثبات لدى الشعب الفلسطيني نقطة تحول أسَّست نواة ثورة تحررية غربية على ممارسات الألوهية لدى السلطة العالمية التي دخلت عصر التهالك، فالله صانع السعادة والسلام والرضا الذي لم يجده الإنسان الغربي في مظاهر الترف والتطور والتفوق المادي والسلطوي يجده المستضعفون من الشعب الفلسطيني.

 بالرغم من ذلك، بعض الشباب العربي لا يملك الإيمان بنفسه، ولا يستطيع أن يرى تجليات النصر في مواجهة مقاومة غطرسة "إسرائيل"، لكن قبل أن نحسم النصر لأيٍ من الطرفين، علينا أن نفكر جيداً، فإن وجدنا أن قتل المدنيين والأطفال يطيل عمر "إسرائيل"، فحتماً علينا الاعتراف بأن هذا يعد نصراً لها، ولكن إن وجدنا أن عمليات المقاومة تنبئ بنهايتها وبطرد المستوطنين، فعلينا إذاً أن نؤمن بأن النصر حليف المقاومة.