في ذكرى استقلالها.. الجزائر لا تزال تواجه غطرسة فرنسا
ما يميّز الذكرى الستون لاستقلال الجزائر وخروج المستعمر الفرنسي منها هو التوترات القديمة - الجديدة بين البلدين، والناتجة من سلسلة من المواقف والتصريحات وردود الفعل بينهما.
الأسبوع الماضي، كانت الذكرى الستون لاستقلال الجزائر وخروج المستعمر الفرنسي منها عام 1962. وما ميّز الذكرى كان التوترات القديمة - الجديدة بين البلدين، والناتجة من سلسلة من المواقف والتصريحات وردود الفعل بينهما.
منذ استقلالها، كان موقف الجزائر واضحاً من فرنسا، وكانت مطالبها محددة: مستعدون لعلاقات طبيعية وودية مع فرنسا، ولكن على 3 أسس: الاعتراف والاعتذار والتعويض. تريد الجزائر من فرنسا اعترافاً بماضيها الاستعماري البشع.
هذا الاعتراف، من وجهة نظر الجزائر، مهم جداً من لأجل بناء علاقة صحية وفتح صفحة جديدة لمستقبل مبني على الاحترام المتبادل، إذ لا يمكن غضّ النظر عن تاريخ طويل من الفظاعات والسياسات الإجرامية التي ميزت الحكم الفرنسي للجزائر، والذي دام 132 سنة!
في عام 2019، قال أحمد قايد صالح، رئيس أركان الجيش، وهو من قدامى المحاربين خلال ثورة التحرير (1954- 1962)، في ظهور علنيّ له، مخاطباً الشباب الجزائري: "هل تعتقدون أنني سأنسى شهداء دفنتهم بيدي خلال الثورة؟!"، وتابع: "لن أنسى ذلك ما حييت.. بالنسبة إليّ، شهداء الجزائر ليسوا شهداء الثورة التحريرية فحسب، بل منذ بداية الاستعمار عام 1830 أيضاً". وفي ذكرى "عيد النصر"، يوم 19 آذار/مارس 2022، قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في رسالة إلى الشعب "إن جرائم الاستعمار البشعة لن يطالَها النسيان، ولن تسقط بالتقادم".
أهم المحاور التي تتطلَّب اعترافاً فرنسياً لا لبس فيه هي:
- جرائم القتل الهمجي الذي كثيراً ما كان أشبه بمذابح جماعية نفذتها سلطات الاستعمار بحق الجزائريين، المجاهدين والمدنيين. الأمثلة على ذلك كثيرة جداً، لعلّ أبرزها ما حصل في أيار/مايو 1945. بدأ الأمر حين نظم الجزائريون تجمعات ومسيرات وتظاهرات شعبية كبيرة وسلمية في عدة مدن، للمطالبة بالاستقلال وإطلاق سراح الزعماء الوطنيين المسجونين، ورفعوا العلم الوطني، فكان الرد الفرنسي بأسلوب القمع والقتل الجماعي الذي شمل استعمال القوات البرية والجوية والبحرية، وتدمير قرى وأحياء بأكملها، تحولت الشوارع فيها إلى ركام من الجثث الملقاة، قبل أن تقوم السلطات الفرنسية برميها في الوديان والشعاب من دون دفنها في الغالب. نتج من هذه المجازر قتل ما بين 45 ألفاً و90 ألف جزائري على اختلاف التقديرات.
- النهب الممنهج لخيرات الجزائر وثرواتها خلال سنوات الاحتلال، والذي شمل استغلال مناجم الذهب والحديد والفحم ومختلف المعادن وتحويلها إلى خدمة الاقتصاد الفرنسي، وتمليك الأراضي الزراعية الخصبة للمستعمرين الأوروبيين الذين قدموا من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ومالطا.
وذكر باحثون ومؤرخون في مؤتمر عقد في شباط/فبراير 2021 في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية أنَّ ما يزيد على 110 طن من الكنوز الجزائرية من ذهب وفضة وسبائك وغيرها تقدر قيمتها اليوم بأكثر من 80 مليار دولار نهبتها فرنسا.
- سلسلة التجارب النووية التي أجرتها فرنسا بين عامي 1958 و1962 في منطقة رقان في الصحراء الجزائرية جنوبي البلاد. وإلى اليوم، لا تزال الجزائر تعاني آثار الإشعاعات النووية في تلك المنطقة على شكل تشوهات خلقية تصيب المواليد الجدد وانتشار أمراض السرطان والجلد وغيرها. والتقديرات تشير إلى أن فرنسا قامت بــ17 تفجيراً نووياً في الجزائر.
- محاربة الثقافة واللغة العربية والتلاعب بمكونات الأمة الجزائرية وخلق الفتنة الوطنية. ومن ذلك، مثلاً، سلخ الطائفة اليهودية عن بقية مكونات الشعب الجزائري، عن طريق منح اليهود حصراً الجنسية الفرنسية دون المسلمين. وما زالت فرنسا إلى اليوم ترعى حركات وتيارات أمازيغية مشبوهة ومتطرفة.
وقد تحدث الرئيس عبد المجيد تبون علناً عن إحدى جرائم فرنسا عام 1832، عندما قررت تحويل المسجد الكبير في كتشاوة في الجزائر العاصمة إلى كاتدرائية، فاعتصم في داخله 4 آلاف جزائري للدفاع عنه، ولكن فرنسا قامت بقتلهم جميعاً، وحولت الجامع إلى "كنيسة سانت فيليب"، ثم أحرق جنودها المصاحف.
إضافةً إلى ذلك، هناك 3 ملفات مرتبطة بالحقبة الاستعمارية لا تزال عالقة بين البلدين وموجودة على طاولة أي اجتماع جزائري - فرنسي:
- الأرشيف الوطني الجزائري الذي يضم ملايين الوثائق والسجلات والخرائط، والذي ترفض فرنسا إعادته للجزائر.
- استرجاع جماجم قادة الثورات الشعبية الجزائريين الموجودة في متحف الإنسان في العاصمة باريس.
- ملف المفقودين من المجاهدين وقادة الثورة، وعددهم 2200، والذين أخفت فرنسا آثارهم، ولم تسجلهم كَوفيات.
على الجانب الفرنسي، لا تزال روحية الغطرسة الاستعمارية موجودة. ترفض فرنسا الاعتراف بجرائمها وتاريخها الاستعماري في الجزائر. لقد اعترفت ألمانيا بمسؤوليتها عن جرائم النظام النازي، واعتذرت عنها، وعوّضت المتضررين، ولم تكتفِ بالقول إن ذلك تاريخ ومضى، كما تفعل فرنسا، بل إن البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية) اعتمد عام 2005 قانون "تمجيد الماضي الاستعماري لفرنسا"، وكاد يصدر في الجريدة الرسمية ليصبح نافذاً، لولا اعتراض الرئيس شيراك على توقيعه تحت ضغط حسابات اقتصادية وسياسية.
وعندما زار الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الجزائر عام 2007، سألته الصحافة عن سبب رفض فرنسا الاعتذار إلى الجزائر عما ارتكبته فيها من فظائع طيلة أكثر من 130 سنة من الاستعمار الاستيطاني، رغم إلحاحه على توقيع "معاهدة صداقة" مع الجزائر، فرد: "الصفحات القاتمة، وكذلك الآلام وأوجه الظلم، كانت كثيرة خلال السنوات الــ132 التي قضتها فرنسا في الجزائر. أنا مع الاعتراف بالوقائع، لا مع الندامة. الندامة مفهوم ديني، ولا مكانة لها في العلاقات بين الدول. لم آتِ إلى هنا لجرح المشاعر، ولا لطلب الصفح، فتلك أحداث تاريخية، والتاريخ جزء من الماضي. أما الآن، فلنبنِ المستقبل".
معنى ذلك أنه يقول للجزائريين: عفا الله عما سلف، ولا اعتذار أو ندم! علماً أن الدولة الفرنسية ذاتها اعتذرت إلى اليهود عن ممارساتها بحقهم في زمن حكومة فيشي المتواطئة مع النازية، ولم تقل إن ذلك مجرد تاريخ.
الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون قدم في عام 2020 لفتة رمزية للجزائر، وإن كانت أتت بعد 4 سنوات من المماطلة، وذلك حين سمح بإعادة رفات وجماجم 24 جزائرياً من أصل ما يزيد على 500 مجاهد قتلتهم فرنسا واحتفظت برفاتهم (حتى لا تكون قبورهم رمزاً للمقاومة في الجزائر).
كما اعترف ماكرون بأنّ ضباطاً فرنسيين عذبوا المحامي الجزائري علي بومنجل وقتلوه في عام 1957، ودان "الجرائم التي لا مبرر لها" خلال حملة عام 1961 ضد المتظاهرين الجزائريين المؤيدين للاستقلال في باريس (كلام ماكرون انحصر بشأن أحداث وقعت على الأراضي الفرنسية)، ولكن تلك اللفتة الإيجابية سرعان ما نُقِضت ومُسِحت على يد ماكرون ذاته في العام 2021، عندما اتخذ موقفين في غاية السوء تجاه الجزائر؛ الأول عندما أطلق تصريحه الشهير: "لم تكن هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي"، وأضاف مُتهماً الجزائر ما بعد الاستقلال: "إن ذلك النظام هو الذي أعاد كتابة التاريخ الاستعماري الفرنسي للبلاد بمرجعية نابعة من الكراهية لفرنسا".
والموقف الآخر هو قيامه بتكريم علني لـ"الحراكيين"، واعتذاره رسمياً إليهم عن تقصير فرنسا تجاههم، ومنح بعض أبنائهم وأحفادهم وسام الاستحقاق ورتبة فارس في جوقة الشرف للدولة الفرنسية، و"الحراكيون" هم الخونة الجزائريون الذي ساعدوا المحتل، وخدموا في صفوف جيشه، وشاركوه في جرائمه ضد أبناء شعبهم، وخرجوا معه عندما غادر، أي أن ماكرون، بدلاً أن يعتذر إلى الأمة الجزائرية عن جرائم فرنسا تجاهها، يقوم بنفي وجودها، ثم يكرّم القتلة الذين شاركوا في تلك الجرائم!
خلاصة موقف فرنسا من الجزائر: لا اعتراف، ولا اعتذار، ولا تعويض! لذلك كلّه، نقول إن العلاقات بين الجزائر وفرنسا لن تكون طبيعية ما دامت فرنسا مصرّة على رفض المطالب الشرعية الجزائرية، ومتمسكة بغطرستها الاستعمارية القديمة. وسياسة الدولة الجزائرية، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، هي المزيد من الإصرار على حقوقها التاريخية من فرنسا، وعدم التفريط فيها أبداً.