عن حزب الله والإحباط المسيحي
من أبرز إنجازات "وثيقة التفاهم"، تعزيز السلام الأهلي واحتضان النازحين من الجنوب اللبناني وضاحية بيروت الجنوبية خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006، وخلال حوادث السابع من أيار 2008، تحديداً المناطق المسيحية آنذاك.
عُرفت الحقبة الزمنية ما بين 1991 و2005 بحقبة "الوصاية السورية على لبنان" أو حقبة "الإحباط المسيحي"، إثر توصل غالبية من تبقى من أعضاء المجلس النيابي اللبناني المنتخب عام 1972 إلى التوافق على ما يعرف باتفاق الطائف أو "وثيقة الوفاق الوطني" عام 1989، برعاية أميركية سعودية سورية، وبمباركةٍ أوروبيةٍ وعربيةٍ كبيرةٍ.
وتم إثرها تكليف دمشق بالإشراف على تطبيق هذا الاتفاق، لكونها قادرة على جمع سلاح الميليشيات المتقاتلة في لبنان ما بين الأعوام 1975 و1990، على اعتبار أن قوات الردع العربية السورية في لبنان كانت تشكل القوة الضاربة على الأرض في لبنان حينذاك.
وحظي "الطائف" أيضاً بمباركة غالبية القوى المسيحية اللبنانية، على رأسهم البطريرك الماروني الراحل مار نصر الله صفير والقوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع، التي ساهمت في تطبيقه، من خلال الهجوم على وحدات الجيش اللبناني بقيادة العماد ميشال عون المنتشرة في مناطق شرق بيروت والمتنين الشمالي والجنوبي وجبيل وكسروان في العام 1990، لأن عون شكل يومها العقبة الأساسية أمام تطبيق "الطائف"، فقد اعتبر قائد الجيش ورئيس الحكومة العسكرية الانتقالية أن "هذا الاتفاق يعبر عن إملاءات خارجية، بمعزلٍ عن آراء اللبنانيين وإرادتهم، بالتالي هو منافٍ لمبادئ السيادة والاستقلال".
ولا ريب في أن "الطائف" من جهةٍ أخرى نزع بعض صلاحيات رئيس الجمهورية اللبنانية الماروني، وأسندها إلى سلطة مجلس الوزراء مجتمعاً، أي تقليص دور رئيس الجمهورية المسيحي في السلطة، الأمر الذي بدأ ينعكس سلباً على الدور المسيحي في لبنان برمته، وعلى معنويات المسيحيين.
وما زاد "الطين بلة" هو الاعتراف الدولي بنتائج الانتخابات النيابية عام 1992 التي قاطعتها معظم القوى المسيحية. ولم تتعد نسبة المشاركة المسيحية في تلك الانتخابات أكثر من 13% من أصوات المسيحيين حينذاك. لذا، أطلقت على المرحلة التي تلتها "مرحلة الإحباط المسيحي". وقد سبق ذلك إبعاد الزعيم العماد ميشال عون إلى فرنسا عام 1991، ثم سجن سمير جعجع عام 1994.
وبقي حال المسيحيين على ما هو عليه لغاية منتصف شباط من العام 2005، إثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في بيروت، تلاه انسحاب الجيش السوري من لبنان في أواخر نيسان من العام عينه، ما أفسح المجال أمام عودة عون من منفاه، ثم خروج جعجع من سجنه بموجب قانون عفوٍ عامٍ أقره المجلس النيابي في صيف العام 2005، عقب خروج القوات السورية من الأراضي اللبناني.
ورغم الانسحاب السوري وعودة القادة المسيحيين إلى لبنان وإلى المشهد السياسي فيه، استمر نهج إقصاء المسيحيين عن الحكم والمواقع الأساسية في الدولة بعد وصول ما يسمى بقوى "الرابع عشر من آذار" إلى السلطة، بعد فوزها في الانتخابات المذكورة بقانون انتخابي عرف بـ"قانون غازي كنعان"، نسبةً إلى رئيس جهاز الأمن والاستطلاع للقوات السورية العاملة في لبنان اللواء غازي كنعان.
وكان من أبرز الممارسات الإقصائية في حق المسيحيين هو سعي "القوى الآذارية لدى السلطات الفرنسية لمنع عون من العودة قبل إجراء الانتخابات المذكورة، لما له من تأييد واسع لدى اللبنانيين عموماً، والمسيحيين خصوصاً، غير أن هذا المسعى باء بالفشل، وعاد عون إلى بلده، وشارك في الانتخابات، وحقق فوزاً كبيراً لم يحققه قبله أي زعيمٍ مسيحيٍ في لبنان، يوم نال وتياره نحو 75% من أصوات المسيحيين.
ورغم كل هذا التأييد الواسع لعون، أمعنت "قوى الرابع عشر من آذار" بقيادة تيار المستقبل، وعلى رأسه رئيس الوزراء اللبناني السابق فؤاد السنيورة، بإقصاء التمثيل المسيحي عن المواقع الأساسية في مؤسسات الدولة اللبنانية، بخاصة مجلس الوزراء، بعدما شكل السنيورة حكومته الأولى، مستثنياً تمثيل عون وتياره فيها. أضف إلى ذلك، أن هذه الحكومة حاولت إلغاء يوم الجمعة العظيمة من روزنامة الأعطال الرسمية اللبنانية.
وفي السادس من شباط من العام 2006، وقع العماد عون والأمين العام لحزب الله وثيقة تفاهم بين التيار الوطني الحر و"الحزب"، حملت رؤية الطرفين لبناء الدولة اللبنانية والحفاظ على سيادتها واستقلالها وتحرير الأرض والتمسك بالحوار.
ومنذ ذلك الوقت، أي بعد توقيع "تفاهم مار مخايل"، بدأت "مرحلة الإحباط المسيحي" بالأفول بعد إحجام المكون الشيعي، تحديداً حزب الله، عن المشاركة بأي حكومة من دون مشاركة حليفه التيار الوطني الحر، مع الموافقة على شروطه المسبقة، قبل "المشاركة"، بدءاً من حكومة السنيورة الثانية التي شكلها بعد تسوية الدوحة في أيار 2008، ثم حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى، التي شكلها إثر الانتخابات النيابية في العام 2009، التي أجريت وفقاً لقانون 1960، الذي يعتمد الأقضية كدوائر انتخابيةٍ، بمسعىٍ من "التيار الحر"، فأدرج في تسوية الدوحة، وصولاً إلى يومنا هذا. وتولى التيار الوطني الحر، بدعمٍ من حزب الله، وزارات أساسية في الحكومة المذكورة، أبرزها: حقائب الاتصالات الخارجية والطاقة والمياه، ما ساهم في تعزيز حضوره في الدولة.
كذلك، وافق حزب الله على السير "بالقانون الأرثوذكسي" الذي يمنح المسيحيين اختيار ممثليهم في البرلمان، الأمر الذي رفضه تيار "المستقبل" بقيادة الحريري، فانصاعت القوات اللبنانية له، وشنت هجوماً على عون الذي تبنى مشروع القانون المذكور الرامي إلى تعزيز الصوت المسيحي في اختيار ممثلي الشعب.
ولعل أبرز إنجازات "تفاهم مار مخايل" هو إعادة التوزان إلى سلطات الدولة في لبنان، وخصوصاً بعد تمسك حزب الله بترشيح الزعيم المسيحي المشرقي الأول العماد عون لرئاسة الجمهورية اللبنانية بعد انتهاء ولاية الرئيس الأسبق العماد ميشال سليمان في أيار 2014 إلى حين انتخاب عون في نهاية تشرين الأول 2016، ما أعاد إلى الزعامة المسيحية دورها، وعزز حضورها في أعلى سلطة في الدولة اللبنانية، بالتالي انتهاء حقبة "الإحباط المسيحي" وذيولها بالكامل.
ومن أبرز إنجازات "وثيقة التفاهم"، تعزيز السلام الأهلي واحتضان النازحين من الجنوب اللبناني وضاحية بيروت الجنوبية خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006، وخلال حوادث السابع من أيار 2008، تحديداً المناطق المسيحية آنذاك.
وعلى صعيد تعزيز الحضور المسيحي في المشرق العربي، لا ريب في أن هذا التفاهم عبد الطريق إلى سوريا أمام عون الذي زارها في العام 2008، بعد خصومة دامت نحو عقدين من الزمن. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن لا يمكن انتخاب رئيس للجمهورية معادٍ لسوريا، وخصوصاً بعد انتصارها على الإرهاب.
في المقابل، لا يمكن أيضاً تجاهل التباينات بين "التيار" و"الحزب"، تحديداً لجهة إغفالهما وضع آلية لتطبيق أحد أبرز بنود "وثيقة مار مخايل"، وهو بند "بناء الدولة". كذلك، لا يجاري "الحزب" حليفه في شأن شرعية انعقاد حكومة تصريف الأعمال في المرحلة الراهنة، أي مرحلة الفراغ الرئاسي في لبنان، فحزب الله لا يستطيع ترك شؤون المواطنين من دون إدارة، خصوصاً الشؤون الحياتية والمعيشية التي يتطلب تسييرها انعقاد مجلس الوزراء أحياناً.