طبيعة المقاومة وكلفتها
دم الشهداء والجرحى غالٍ، والمدن والبيوت غالية، والذكريات غالية، لكنها وللأسف ثمن استرداد الحق، ثمن استرداد الأوطان والحرية والكرامة والقرار والسيادة، والذي لم يتم عبر التاريخ إلا بالمقاومة.
المقاومة في تعريفها هي رد فعل على فعل، وهي ظاهرة طبيعية في المخلوقات كافة من أقواها إلى أضعفها، وهي قبل كل شيء فطرة وطبيعة وُجِدت في صلب تكويننا كبشر، وما الأمثلة التي سيتم استعراضها لاحقاً سوى توضيح لتلك الطبيعة.
وفي تناغم مع فهم هذه الطبيعة، جاءت التشريعات على مدار التاريخ متوافقة في حماية مفهوم المقاومة والتأكيد على أحقيتها، فأضحى ذلك الحق مكفولاً في الأديان والقوانين والشرائع كافة، السماوية منها والوضعية، دونما استثناء.
وعندما يكون هناك اصطفاف جماعي ضمن إطار ما، كتنظيم أو حزب أو دولة مثلاً، فإنَّ ذلك لا يلغي حق الفرد في المقاومة، سواء كان ذلك الفرد منتمياً إلى ذلك الإطار الجماعي أو خارجه، ما دام هناك حق مغتصب، فالهدف من الاصطفاف الجماعي هو الإتيان بنتائج أكثر فعالية للمقاومة، وليس مصادرة الحق الفردي في المقاومة، أي أن عملية الاصطفاف تتعلق بكيفية ممارسة الحق للحصول على نتائج أفضل، ولا تتعلق بالحق ذاته، وبالتالي هي لا تصادر الحق الفردي المكفول إن أراد صاحب الحق ممارسة حقه.
من هنا، فإن موضوع الحق في تقرير الحرب والسلم يتعلق بالدول المستقلة ذات السيادة الكاملة على أراضيها ومواردها، والتي تبحث عما يخدم مصالحها من خلال ذلك القرار.
لا ينطبق هذا على الفرد أو الجماعة الذين يقاومون احتلالاً مغتصباً لأرضهم وحقوقهم أو بعضاً منها، فالحق في المقاومة لاسترجاع الحق المغتصب يسبق أي شكل من أشكال التنظيم الجماعي وما يتخذه من قرارات، لكونه حقاً طبيعياً فردياً، وإن ترتبت عليه كلفة باهظة. وسنورد بعض الأمثلة للتدليل على هذا المفهوم.
لنبدأ من الجسم البشري كمثال أول، فهذا الجسم يفرز أجساماً مضادة، وبشكل تلقائي، عندما تتم مهاجمته بجسم غريب (فيروس). وفي سبيل نجاح الجسم في القضاء على الفيروس، تظهر على الجسم علامات التعب والإجهاد والسخونة عند المقاومة. ولا يستشير الجسم أي عضو فيه عندما يريد أن يقاوم، بل يقوم بالمقاومة تلقائياً لينقذ نفسه ويتحمل في سبيل ذلك أي متاعب أو آلام أو فقدان للخلايا؛ فإذا كان ثمن المقاومة باهظاً، فثمن عدم المقاومة أعلى؛ فجسم الإنسان يموت ككل، وبالتدريج، بمجرد أن يفقد مناعته ومقاومته.
ولنورد مثالاً ثانياً متعلقاً بفعل البشر، فعندما يقدم مجرم على محاولة اغتصاب، فمن الطبيعي أن تتم مقاومة المغتصب ولا تتم استشارة أحد أو انتظار موافقة من أحد، فوجود محاولة اغتصاب بحد ذاتها تستدعي تلقائياً حالة الدفاع الشرعي عن النفس. وخلال المقاومة، قد يكون هناك خطر، وقد يتطور الخطر، وقد يصبح مميتاً، ولكن هذا لا يمنع المراد اغتصابه من المقاومة والمخاطرة في سبيل المحافظة على مسألة قِيَمْية، كالمحافظة على العرض.
وقد جاءت القوانين والشرائع لتحمي هذا الحق التلقائي في رد الفعل (المقاومة) على الفعل (الاعتداء)، فإذا ترتب ضرر ما على المعتدي أو غيره كنتيجة مباشرة للمقاومة، فهل تدين القوانين ضحية محاولة الاغتصاب على المقاومة؟ طبعاً لا.
لنذهب إلى مثالٍ ثالث نفترض فيه سيناريو تم فيه الاستيلاء على بيت عائلة تعيش في منطقة ليس بها قانون يتم تطبيقه (كعالم الغاب الذي نعيش فيه)، من خلال عصابة من المجرمين قامت بعملية الاستيلاء على البيت وقتلت ما قتلت من أفراد العائلة، ولكنها أبقت على بعض الأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة لخدمة العصابة.
ولنفترض أن سنوات مرت، ولم يتدخل أحد لإنصاف تلك العائلة المنكوبة واسترداد حقوقها، فيما كانت تلك العصابة تعمل على قمع هؤلاء الأطفال وتعذيبهم لإبقائهم تحت سيطرتها وتشغيلهم لمصلحتها في مقابل إيوائهم في جزء صغير من بيتهم المسلوب وبعض الطعام والشراب.
ولنفترض أن عود هؤلاء الأطفال اشتدّ بعد مرور السنين، وأصبحوا بالغين واعين لحاضرهم وماضيهم، وقرروا مقاومة المغتصبين، فهل يتم لومهم بذريعة أنهم سيجلبون غضباً ودماراً من المغتصبين؟ هل عليهم أن يقبلوا بالوضع القائم على اغتصاب حقوقهم وكرامتهم ما داموا يجدون مأوى لهم ويقتاتون من الفتات الذي يتم رميه لهم أم أن حقهم في مقاومة من استولى على بيتهم وقتل أهلهم وعذبهم ونكَّل بهم هو حق طبيعي مكفول لكل فردٍ منهم؟
إن ما يقوم به المعتدي لإضعاف مقاومة المعتدى عليه هو رفع كلفة المقاومة باستهدافها مباشرة وباستهداف حاضنتها الشعبية. وكلما زاد الفشل في تحقيق نتائج للمعتدي من خلال استهداف المقاومة، زاد التركيز على استهداف الحاضنة وزيادة ألمها في محاولة لتأليبها وتحريضها ضد المقاومة.
وعندما يصل الألم بالحاضنة إلى مراحل متقدمة، تتعالى بعض الأصوات المتعبة بالأنين، ويقوم البعض باستغلال ذلك في محاولة لتسويق أجندات متقاطعة مع أجندة المعتدي لإضعاف المقاومة على طريقة ذر الرماد في العيون، فتجدهم يفعلون ذلك بطريقة تحتوي على الكثير مما يخاطب مواطن الضعف في النفس البشرية في الأوقات الحرجة، فتارة يتحدثون عن ثقافة الحياة (والمقصود بها حياة الذل وفقدان الكرامة والموارد والقرار السيادي والتسليم بهيمنة المعتدي)، وتارة أخرى يتحدثون عن تدمير مدينة أو أبنية أو شوارع أو ذكريات (ويتجاهلون سلب الأوطان وفقدان الكرامة وطبيعة المعتدي المتربص بهم).
والأدهى من ذلك أن البعض، بوعي أو من دونه، يتداعى في ذلك بطريقة تحرف الأنظار عن المجرم الحقيقي من خلال الترويج لسردية شاذة المنطق تقوم على تحميل المقاومة المسؤولية عن الدمار أو التجويع أو الحصار أو القتل أو التهجير، متجاهلة أن ذلك من فِعل المعتدي لا المعتدى عليه، ومتناسية أن المقاومة هي رد فعل طبيعي ومشروع على فعل الاعتداء والاغتصاب من الأساس.
هذا "اللاالمنطق" المُحرض على مقاومة المعتدي كارثي على مستوى الوعي الشعبي ومضاد لحركة الشعوب وتحررها. ولذلك، لا يجد آذاناً صاغية كلما تعمق إيمان الشعب بقضيته، فهل تم تحميل وينستون تشرتشل رئيس وزراء بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية مسؤولية تدمير مدن بريطانية على يد الألماني النازي بعدما استسلم للنازي عدد من الدول الأوروبية؟ ألم يقل تشرشل لمواطنيه في خطابه الشهير في أوائل الحرب: "ليس لدي ما أقدمه سوى الدم والدموع والعرق؟"، ألم يكن تشرتشل رمزاً للمقاومة والشجاعة والبطولة في نظر مواطنيه؟ وهل تم لوم اليابانيين على مقاومتهم للأميركيين عندما أسقط الأميركيون القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي؟ وهل لام السوفيات دولتهم (الاتحاد السوفياتي سابقاً) على مقتل 27 مليون سوفياتي خلال الدفاع عن بلادهم ضد النازي؟ وهل كان ثوار فيتنام مسؤولين عن قتل الجيش الأميركي لثلث سكان البلاد خلال المقاومة؟ وفي بلد المليون شهيد، من كان المسؤول عن قتل الجزائريين: فرنسا أم المقاومة الجزائرية؟ والتاريخ مفعم بالأمثلة المشابهة.
نعم، دم الشهداء والجرحى غالٍ، والمدن والبيوت غالية، والذكريات غالية، لكنها وللأسف ثمن استرداد الحق، ثمن استرداد الأوطان والحرية والكرامة والقرار والسيادة، والذي لم يتم عبر التاريخ إلا بالمقاومة التي عادة ما تظهر نتائجها على المدى البعيد.
وخلال تلك الرحلة الشاقة والمكلفة للمعتدى عليه، تزداد الكلفة أيضاً على المعتدي ومواليه حتى يتم الوصول إلى مرحلة تصبح فيها الكلفة المركبة للاعتداء (سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً وقانونياً) أكبر بشكل واضح من فوائده.
عند تلك النقطة بالذات، يصبح الاعتداء مشروعاً خاسراً، ويأخذ مساره إلى الزوال، مفسحاً المجال، رغماً عنه، لتتويج ربح المقاومة بالنقاط وعودة الحقوق إلى أصحابها. ذلك هو حال كل الأمم، وذلك ما يخبرنا به التاريخ، منذ أن خلق الله الأرض وما عليها، ولا يوجد حتى الآن استثناء.