سوريا ولبنان.. سياسة واقتصاد ومواجهة
أرخت تداعيات قانون "قيصر" بظلالها على المشهد السوري بكل تلاوينه، وأثرت تأثيراً كبيراً في سعر صرف الليرة السورية.
ما بين سوريا ولبنان أكبر من ترابط جغرافي – تاريخي تعمّقه أواصر اللغة والثقافة والحضارة المشتركة، ومواجهة الاستعمارات والانتدابات وكل التسميات الملطّفة التي ما فتئت تحاول قض مضاجع الدولتين والاستفادة من ثروتهما والمقومات التي تملكانها، والتي يُعدّ بعضها موجوداً، والبعض الآخر في طور التحصيل، ليشكل قيمة مضافة تخرج البلدين من أتون الانهيار الحاصل على كل المستويات الاقتصادية والمالية والاجتماعية.
أرخت تداعيات قانون "قيصر" بظلالها على المشهد السوري بكل تلاوينه، وأثرت تأثيراً كبيراً في سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، إذ فقدت الكثير من قيمتها، وانعكس ذلك على ارتفاع الأسعار والتضخم وارتفاع نسبة البطالة، ناهيك بعجز الدولة السورية عن استثمار مناطق النفط والقمح، والتي كانت تشكل لها اكتفاء ذاتياً، ولا تسمح للأمن الغذائي الخاص بها بأن يقع أسير حرب من هنا أو تطور سياسي من هناك.
وزاد الطين بلة الحرب الروسية مع الغرب، وتهديدها الأمن الغذائي وقطب الرحى فيه، وهو القمح والزيوت. لذلك، تواجه الدولة السورية تحديات تبدأ عسكرياً مع الاحتلال التركي والجماعات المنضوية تحت لوائه أو تحت إمرته في الشمال السوري، ولا تنتهي عند شرقي الفرات والوجود الأميركي والتنسيق التام مع المكوّن الانفصالي الكردي، الذي يستفيد من التباين الأميركي-التركي، وينسق على القطعة هنا أو هناك، إذ يلعب الكردي على أكثر من جهة بالحفاظ على شعرة معاوية مع الروسي حيناً، ومحاباة الأتراك من تحت الطاولة حيناً آخر، وتسليم أوراقه كاملة للأميركي المحتل كحليف أساسي له.
وفي لبنان، حيث أفرزت نتائج الانتخابات انقساماً عمودياً عمّق الخلافات الجذرية بين أفرقائه السياسيين الذين لم يلتفوا على مشروع واحد، ولن يلتفوا، في ظل فرز أفقي بين لواءين ذكّر بانتخابات 1957، والتي تسببت بأحداث 1958، والصراع بين حلف بغداد والمدّ الناصري العروبي، وأيضاً مرحلة 1983-1984 وما رافقها من اتفاق 17 أيار/مايو وإسقاطه في 6 شباط/فبراير 1984، ومرحلة 2005 التي تلت اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وما حصل من تراكمات واضطرابات سياسية وأمنية، ناهيك بالاغتيالات، وانتهت باتفاق مرحلي آني هو اتفاق الدوحة أيار/مايو 2008.
وإذا انتقلنا إلى الشق الاقتصادي، فقد أثبتت جميع القوى عدم امتلاكها رؤى اقتصادية وبرامج تمنع الانهيار، أو اجتراح حلول تقي اللبناني العوز والفقر والحاجة، وهو الذي بات يفضل الموت في بيته وعلى سريره بعيداً عن إذلال المستشفيات التي تئن وتشكو حجز أموالها لدى المصارف.
وفي ما خص البلدين، خرجت باستنتاجات عديدة، أبرزها:
أولاً: لا يستطيع السوري أن يراهن في الوقت الحالي على الروسي لضبط إيقاع المرحلة، أقلّه عسكرياً، وخصوصاً في إدلب، فالروسي مشغول في أوكرانيا، وفي جبهات عديدة تُفتح لكسره (فنلندا والسويد)، وهو ما يجعل التركي يمعن في الابتزاز الذي يتقنه جيداً.
ثانياً: إن أكثر ما يمكن أن يقوم به الروسي هو إخلاء منطقة جنوب سوريا وتركها للإيراني وحلفائه، وهو ما يشكل " زكزكة" واستفزازاً للإسرائيلي، مع أنني أستبعد أن يذهب الروسي إلى كسر الجرة كلياً مع الصهيوني، لاعتبارات دولية وروابط متعددة ما زالت تشكل مظلة توافق دولي حوله (الصهيوني).
ثالثاً: ضرورة تشكيل جبهة مقاومة موحّدة بتنسيق وتفاعل لوجستي عملياتي وتقني مع الجيش السوري، يشمل أبناء هذه المناطق الأحرار لتحرير الشمال السوري وشرق الفرات، قبل بروز ظروف إقليمية ودولية تصعّب هذه المهمة أو تقذفها إلى فترات يغرق فيها البلد أكثر فأكثر مالياً واقتصادياً، وخصوصاً إذا استمرت الظروف الدولية المؤثرة.
رابعاً: ضرورة كسر قانون "قيصر" بزيادة التنسيق الاقتصادي السوري الإيراني الروسي عملياً وليس نظرياً، وتفعيل الاتفاقيات الموقّعة لضرب هيمنة الدولار وجعل ارتداداته العكسية على الواقع المعيشي أقل وطأة.
خامساً: في ما يخص لبنان، لا يزايدنّ علينا أحد في مقاربتنا الاستراتيجية، والتي تجعل سلاح المقاومة خط دفاع رئيسياً عن الأرض براً وبحراً، وعامل ردع يقينا تسلط الصهيوني وغطرسته، لكن هذا لا يعني عدم تقديم أدنى مقومات الصمود للمواجهة.
سادساً: إن كانت قوى التغيير التي وصلت الندوة البرلمانية، بعضها بأصوات هزيلة أتاحها قانون الانتخابات الهش، سترفع معزوفة السلاح التي مللنا منها، ولم تنصرف إلى طرح برامجها للحلول، فستكون وجهاً آخر من 14 آذار، ولكن بلبوس التغيير، ولن تحدث أي خرق على جميع المستويات، وستعود خالية الوفاض إلى قواعدها.
سابعاً: لا شك في أن أي طرف من أطراف الحكم فشل في تقديم تجربة رائدة فريدة: أكثرية لـ14 آذار في 2005 و2009، وأكثرية لقوى 8 آذار وحلفائها في 2018، وكلاهما عجز عن رسم معالم تغيير جذري في إدارة الحكم والاستمرار في ديمقراطية توافقية يُنظّر لها اقتصادياً في اتباع سياسة الاستدانة وتعزيز صناديقها (البنك الدولي وصندوق النقد)، والعجز عن بناء اقتصاد إنتاجي وبناء معامل (كهرباء وتكرير وأدوية).
ثامناً: الاستثمار في التنقيب عن النفط والغاز؛ هذه الثروة المجيدة التي يمكن أن تنتشل لبنان من أزمته الاقتصادية الخانقة، والدفاع عن كل قطرة ماء من استغلال الإسرائيلي وسطوته وتسلطه الطامع بمقومات نهوضنا.
تاسعاً: إن انتظار لبنان أي تسوية إقليمية سعودية إيرانية أو دولية تظلل بانعكاساتها الواقع اللبناني هو كمن ينتظر البريق في السحاب، والذي يمر بشكل سريع، ويكون بعدها اللبناني قد أصبح في خبر كان.
بناءً على ما تقدم، سوريا ولبنان في مرحلة سياسية واقتصادية واجتماعية مصيرية، مع فارق أننا في لبنان نتحمل المسؤولية (داخلياً) بفساد طبقة سياسية، وبمحاصصة مذهبية طائفية بغيضة، وبهدر، وبضعف عنصر المواطنة، مع حصار اقتصادي لا ننكر تأثيراته البتّة. إن الأيام القادمة تحمل سوداوية مقيتة إلا إذا كان عند جهينة الخبر اليقين، وهو مستبعد للأسف حالياً.