روسيا تدقّ ناقوس الخطر..."قنابل موقوتة" رهن الإشارة الغربيّة
واجهت روسيا الإرهاب والتطرّف والتمرّد بأشكال مختلفة، أبرزها تنظيم حملات وعمليات عسكرية أدت فيما بعد إلى حروب واسعة في الشيشان وداغستان، حيث اتّبعت موسكو استراتيجية الأرض المحروقة وقتها للقضاء على كلّ أشكال التمرّد في القوقاز.
شهدت روسيا خلال العقود الثلاثة الماضية أحداثاً إرهابية لا تزال عواقبها مستمرة حتى يومنا هذا، حيث ساهمت الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وضعف أجهزة الدولة الأمنية الروسية، وضياع الهوية الوطنية، وانتشار السلاح المتفلّت خلال تسعينيات القرن الماضي، في نموّ ظاهرة الإرهاب العقائدي والفكري في البلاد، كما أدّى سقوط الاتحاد السوفياتي ومنظومته السياسية والعقائدية دوراً مهما في بروز تنظيمات ومجموعات فكرية متطرّفة وراديكالية، وجدت الفراغ الديني ساحة مستباحة لنشاطاتها وأهدافها. بالإضافة إلى الدور الذي يؤديه الغرب وبعض الدول الخليجية في تحريك وتفعيل ودعم هذه الظواهر مادياً وفكرياً بهدف إضعاف روسيا دولياً وإقليمياً.
انطلقت الشرارة الأولى للصراعات والمواجهات المسلّحة بين السلطة المركزية الروسية والجماعات الإسلامية والقومية الداعية للاستقلال الذاتي في بداية العام 1993، حيث شملت الشيشان وداغستان، مناطق تقع جنوبي البلاد وذات الأغلبية المسلمة، التي أصبحت فيما بعد مركزاً وتجمّعاً ونواة لتشكّل التنظيمات الإرهابية المقبلة من جميع أنحاء القوقاز وآسيا الوسطى والدول الخليجية، وخاضت روسيا معارك ضارية وشرسة أدخلت جيشها في دوامة طويلة وأسفرت عن خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، ونجحت بإضعاف المؤسسة العسكرية الروسية لفترة من الزمن، وتجلّت الحرب باندلاع حرب الشيشان الأولى التي امتدّت لسنتين من عام 1994 إلى عام 1996، وحرب الشيشان الثانية التي اشتعلت عام 1999 واستمرّت لعقد كامل وانتهت بعد وصول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى سدّة الحكم الذي استطاع بإدارته وحنكته التفاوضية إنهاء المآسي في تلك المنطقة.
في تلك الفترة لم تكن المدن الروسية الكبرى، بما فيها العاصمة موسكو ومدينة سان بطرسبورغ، بمنأى عن الهجمات الإرهابية، حيث استطاعت التنظيمات والجماعات، التي حملت شعارات إسلامية راديكالية ومتطرّفة، بثّ الرعب والخوف في المجتمع الروسي تزامناً مع الحرب في الشيشان، وضرب الإرهاب خلال التسعينيات والألفية الثانية عدداً كبيراً من الأماكن، أبرزها هجمات انتحارية ضدّ البنية التحتية للنقل النشطة والمكتظة، بينها مترو الأنفاق في موسكو وسان بطرسبورغ خلال أعوام 2004 و2010 و2017، بالإضافة إلى هجوم استهدف خط السكك الحديدية موسكو ـــــ سان بطرسبورغ السريع عام 2007، وهجمات إرهابية أخرى طالت مطار دوماديدوفو في ضواحي موسكو عام 2011، وحافلة نقل للركاب في فولغاغراد عام 2013. كما برزت عمليات إرهابية قاسية نفّذتها مجموعات خطفت وقتلت واحتجزت رهائن ومدنيين أبرياء على مدى الأعوام السابقة، أبرزها حادثة مسرح "نوردوست" في موسكو عام 2002 وحادثة مدرسة بيسلان عام 2004.
دور بوتين في إخماد الصراعات ولجم الإرهاب
واجهت روسيا الإرهاب والتطرّف والتمرّد بأشكال مختلفة، أبرزها تنظيم حملات وعمليات عسكرية أدت فيما بعد إلى حروب واسعة في الشيشان وداغستان، حيث اتّبعت موسكو استراتيجية الأرض المحروقة وقتها للقضاء على كلّ أشكال التمرّد في القوقاز، وصولاً إلى مرحلة المفاوضات التي أدارها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحنكة منذ وصوله إلى السلطة عام 2000، حيث استطاع استمالة جانب كبير من المجموعات الشيشانية بقيادة أحمد قاديروف وابنه رمضان قديروف الذي شكّل قوات حليفة لموسكو، وعملت بدعم وتنسيق مع جهاز الأمن الفيدرالي الروسي على محاربة أوكار الإرهاب المتطرّفة.
لكن مع اغتيال أحمد قديروف في 9 أيار/مايو 2004، عُيّن ابنه رمضان قديروف رئيساً لجمهورية الشيشان التي باتت اليوم من أكثر المناطق استقراراً على الصعيد الأمني والسياسي. كما أدّى بوتين دوراً في إعادة جمع وتشكيل السلطة في داغستان التي كانت تعاني من الانقسام وضعف السلطة المركزية والأمنية، وذلك من خلال نسج علاقات وتحالفات ساهمت بخفض التوتر، وتمّ القضاء على أكثر المجموعات الإرهابية المتطرّفة، واضطرت أخرى للهروب إلى دول مجاورة في آسيا الوسطى لتشكّل خلايا ومراكز تدير هجماتها على المنطقة.
ولعل إسهامات روسيا الكبيرة في منظمة شانغهاي للتعاون التي تأسست في 15 حزيران/يونيو 2001 في شانغهاي، وتضمّ الصين وكازاخستان وقيرغيزستان وروسيا وطاجيكستان وأوزبكستان، مكّنت الدول من التنسيق والتعاون بهدف محاربة الإرهاب وتدعيم الأمن ومكافحة الجريمة وتجارة المخدرات ومواجهة حركات الانفصال والتطرّف الديني والعرقي، وكذلك التعاون في المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية، وأيضاً النقل والتعليم والطاقة والسياحة وحماية البيئة، انعكس إيجابياً وساهم بتوفير السلام والأمن والاستقرار في المنطقة.
"قنابل موقوتة وخلايا نائمة" رهن الإشارة الغربية
تواجه روسيا في الوقت الراهن حرباً هجينة واسعة النطاق، وذلك بعدما اتخذت موسكو قراراً تاريخياً بفتح معركة الدفاع عن نفسها أمام التوسّع الغربيّ على حدودها، وانطلاقاً من ذلك، أطلقت روسيا العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا لمواجهة النازية المتجدّدة ومخطّطات الدول الغربية، التي بدورها أقدمت على تفعيل كلّ أدواتها السياسية والاقتصادية والاستخباراتية للمواجهة بهدف هزيمة موسكو.
وفي إطار المواجهة المتصاعدة بين روسيا والغرب في أوكرانيا، تسعى الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا من خلال أدواتها المتعدّدة، بما فيها الطابور الخامس والخلايا النائمة، إلى زيادة التوترات والاضطرابات في الداخل الروسي، معتبرة أن ذلك قد يعود بنتائج إيجابية بالنسبة إليها في صراعها مع موسكو، وتعوّل الدول الإنكلوسكسونية (الولايات المتحدة وبريطانيا) على الخصوص على إثارة النعرات الطائفية، وإحداث خرق وتشقّقات في بنيان المجتمع الروسي متعدّد الأديان والقوميات.
وفي هذا السياق، يمكن القول إنه تزامناً مع تصاعد الصراع الأوكراني شهد الداخل الروسي في الآونة الأخيرة أحداثا أمنية متزايدة مقارنة بالمرحلة السابقة، حيث شكّل الهجوم الإرهابي على قاعة "كروكوس سيتي" في ضواحي موسكو في آذار/مارس الماضي، وإعلان "داعش" الإرهابي عن إنشاء "ولاية القوقاز" في نهاية شهر آذار/مارس 2024، وتوالت الأحداث مع الوقت حيث شهد إقليم روستوف في 16 حزيران/يونيو عملية احتجاز رهائن من قبل عناصر متطرّفة تابعة لـ "داعش" في السجن المركزي، استولوا خلالها على أسلحة وذخائر وطالبوا بالخروج ما أثار الخوف في المدينة، لكن انتهى كلّ ذلك بعملية أمنية معقّدة أدت إلى تصفية أربعة إرهابيّين.
وأخيراً شهدت يوم الأحد 23 حزيران/يونيو، مدينة ديربنت ومحج قلعة، أحداثاً مماثلة وأكثر إجراماً من خلال قيام مجموعة من أنصار "داعش" الإرهابي المحليّين بقتل قس وعدد من المواطنين وأفراد من الشرطة، وعمدوا إلى حرق كنيسة وكنيس يهودي، ونشروا الرعب في المدينة لساعات عديدة قبل القضاء عليهم.
لا شكّ أنّ هذه الأحداث لا تأتي من العدم، حيث أعلنت سلطات التحقيق الروسية مراراً وتكراراً عن ضلوع جهات استخباراتية خارجية غربية في الأعمال الإرهابية في روسيا، بما فيها حادثة "كروكوس سيتي"، حيث فعّل الغرب خلاياه النائمة تحت ستار الدين والإسلام لأهداف معلومة يبغي من خلالها زعزعة الاستقرار الداخلي الروسي، وخلق انقسام وعداوة للمسلمين وتحريض بقية الأطياف والمجتمعات الروسية عليهم.
وما يثبت الضلوع الغربي في هذه الأحداث، أولاً غياب العداء الروسي للإسلام كعقيدة وديانة، حيث يشكّل المسلمون جزءاً أساسياً من المجتمع الروسي تاريخياً، بالإضافة إلى العلاقات المميّزة لروسيا مع مختلف الدول الإسلامية والعربية في السنوات الأخيرة ما يتعارض مع نوايا الإرهابيين وأهدافهم في المجمل، وبالتالي تستخدم واشنطن والدول الغربية ورقة الإرهاب الإسلامي كأداة لأهدافها التخريبية، تماماً لما نراه يحدث في سوريا والعراق وأفغانستان وغيرها.
روسيا تدقّ ناقوس الخطر
دفعت الأحداث الإرهابية الأخيرة المتتالية في البلاد المجتمع والخبراء والساسة في روسيا إلى الحديث عن الطرق والأساليب الرادعة لتجنّب هذه الأحداث، حيث تولي السلطات الأمنية الروسية منذ حادثة "كروكوس سيتي" اهتماماً متزايداً بالجماعات المتطرّفة، وذلك من خلال عمليات الرصد والمتابعة حيث تتمّ يومياً توقيف عشرات الشبكات والخلايا المؤلّفة من مواطنين أغلبهم من دول آسيا الوسطى. لكن بعد أحداث داغستان الأخيرة دقّ المجتمع الروسي ناقوس الخطر بشأن عودة نشاط الخلايا الإرهابية النائمة وإمكانية تفعيلها مجدداً بغية زعزعة الوضع الداخلي الروسي، حيث تطالب فئات اجتماعية ومنظّمات سياسية مختلفة بإعادة النظر بسياسة المهاجرين وتشديد الرقابة والإجراءات المرتبطة بهم.
وبناء على ما تقدّم، تواجه روسيا تحديات خارجية وداخلية خطيرة جديرة بالمعالجة، قد تتزايد مع تصاعد الصراع الأوكراني في ظل النجاحات العسكرية الروسية ميدانياً، وزيادة الفشل الغربي الذي قد يقدم على تفعيل أدواته في سبيل زعزعة روسيا داخلياً وإشغالها بأمور أكثر استراتيجية وأهمية بالنسبة لها.