خطابُ السيّد: رسائل إلى مُتلقّين كُثر
الرسالة الأولى إلى المقاومة في غزة. لن يتخلى الحزب عن واجباته تجاهها. ظهر ذلك في تأكيده أن الحزب منخرط بالفعل في المعركة من اليوم الأول، وإن بشكل تدرّجي ومدروس.
ليست هذه المرة الأولى التي يجد فيها السيد حسن نصر الله نفسه أمام ضغوط وتحديات كبيرة، بل هو اعتاد ذلك خلال مسيرته الطويلة الممتدة إلى ما يقرب من أربعة عقود في قيادة العمل الثوري الكفاحي المقاوم.
لكن هذه الأيام تكاد تكون من أشدها وطأة عليه. ضغطٌ هائلٌ كبير تنوء بحمله الجبال. فهو من ناحية يترأس الحزب المقاوم الذي نشأ ونما وكبر على فكرة مواجهة العدو الصهيوني وتحرير بيت المقدس، وسار على هذا الدرب طويلاً وقدّم قوافل الشهداء، وبالتالي لا يمكنه أبداً ترك فلسطين ومقاومتها تواجهان مصيريهما وحدهما أمام هجوم "جيش" العبرانيين وتوحشهم، أي أنه لا بد أن يتدخل ليكون المُنقذ ويفتح جبهة جهنم على الصهاينة من لبنان.
وهذا ما يتوقعه جمهوره وأنصاره. ولكنه في الوقت ذاته يحمل همّ لبنان ومصير البلد والشعب، في رقبته. وهو يعلم أن انخراطه في الحرب بكل قوته ستكون عواقبه على كل لبنان وليس حزب الله فقط. والصهاينة المجرمون أعلنوها أكثر من مرة وهددوا بأن ردّهم لن يُبقي حجراً على حجر في لبنان من شماله إلى جنوبه وقالوا " سنعيد لبنان إلى العصر الحجري".
على السيد أن يجد الميزان الدقيق بين واجب المحافظة على استمرارية المقاومة في فلسطين وسلامتها والمحافظة على بلده لبنان. بل يمكن القول إن محور المقاومة بأكمله، وعلى رأسه دولة إيران الكبيرة، يضع ثقته في السيد ويفوّضه ليتصرف ويقرر بالنيابة عنه، حتى لو وصلت الأمور إلى أقصى غاياتها. وهذا يزيد من ضخامة المسؤولية الملقاة على عاتقه.
خلاصة كلام السيد وخاتمته كانت أن كل الخيارات مفتوحة، وأن موقف الحزب يعتمد أساساً على التطورات في غزة. غموضٌ مقصودٌ كما قال هو، يحمل في طيّاته رسائل إلى كل من يعنيه الأمر.
الرسالة الأولى إلى المقاومة في غزة. لن يتخلى الحزب عن واجباته تجاهها. ظهر ذلك في تأكيده أن الحزب منخرط بالفعل في المعركة من اليوم الأول، وإن بشكل تدرّجي ومدروس. والسيد أعلن بكل وضوح أن انتصار حماس هو هدف استراتيجي للحزب لن يحيد عنه.
ولا شك أن المعنيين في قيادة حماس قد فهموا أنه ما دامت المقاومة في غزة صامدة وبنيتها التحتية وقدرتها موجودة لم تدمّر فلن يندفع الحزب إلى حرب مفتوحة ذات عواقب كارثية على لبنان. الحزب سوف يتدخل بكامل قوته إذا نجح الهجوم الإسرائيلي وصارت المقاومة، وبالتحديد كتائب القسام، معرضة لخطر الهزيمة والإبادة. وفي تعقيبه على الخطاب، عبّر أسامة حمدان عن تفهم قيادة حماس لموقف الحزب، واعتزازها بالتأييد الذي تتلقاه منه.
هذا الموقف ربما لم يلقَ استحساناً من بعض جمهور المقاومة في غزة وخارجها، وخصوصاً من جانب تيار الإخوان المسلمين في الأردن. وقد انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي منشورات وتعليقات فيها إساءة للسيد نصر الله ولحزب الله واتهام له بالتقاعس. والذباب الإلكتروني السعودي، ومعه أشخاص وجهات من خلفيّات سلفيّة، لعب دوراً في صب الزيت على النار، وقام بإنتاج عدد كبير من المواد المسيئة اختلطت مع منشورات بعض الغاضبين من أنصار حماس.
الرسالة الثانية إلى الداخل اللبناني. وهي من شقين. فجمهور المقاومة ومؤيدو الحزب لا شك شعروا بالراحة لأن الحزب لم ينجرف بشكل عاطفي للتدخل الشامل في الحرب، وأنه سلك طريقاً عقلانياً راعى فيه مصلحة الناس، مجنّباً إيّاهم ويلات الحرب التي خبروها عام 2006. وهناك تأييد واسع جداً وتقدير لموقف السيّد في أوساط بيئة الحزب وحاضنته الشعبية.
ولكن، في الوقت ذاته، فإنهم بالتأكيد فهموا أن الحزب يضع خيار الحرب الشاملة نصب عينيه، ولن يتردد في دخولها إذا تطلب الأمر. وأما الخصوم في لبنان، وهم كثر، الذين لم ولن يعطوا تفويضاً للسيد نصر الله في شأن الحرب والسلم، فهم أيضاً شعروا بالارتياح، ولو مؤقتاً، وأدركوا أنه يضع مصلحة لبنان، الدولة والبلد، في اعتباره وأولوياته وسيسعى إلى تجنب الحرب الكبرى ما استطاع لذلك سبيلاً.
الرسالة الثالثة إلى العدو، أن حزب الله في منتهى الجهوزية والاستعداد، وهو ليس بعيداً من غزة. هكذا فهمت المؤسسة العسكرية الأمر. ورغم أن بعض المعلقين والمحللين الإسرائيليين مالوا للتقليل من شأن قوة خطاب نصر الله، بل واستهزأ بعضهم به، فإن القيادة العسكرية تصر على أخذ أقصى درجات الاحتياط، وترى أنها قد تتعرض لهجوم كبير مباغت من جانب حزب الله، وأنه ربما يكون السيد يناور في كلامه (الهادئ نسبياً) من باب الخداع. ولذلك، تواصل التحشيد العسكري على الحدود الشمالية الذي وصل إلى حد تفريغ ثلث "الجيش" الإسرائيلي لجبهة لبنان، كما قال السيد.
والرسالة الأخيرة إلى الأميركي، وكانت رسالة مزدوجة. نبرة السيد كانت عالية ومتحدية وهو يشير إلى الأساطيل الأميركية في شرق المتوسط، وخصوصاً قوله إن بعض من أذاقوا الأميركيين الأمرّين في الثمانينيات ما زالوا موجودين هم وأولادهم وأحفادهم. وهل ينسى الأميركيون ما حصل لقوات "المارينز" في بيروت أيام رونالد ريغان؟!
وفي الوقت ذاته، لا شك أن الأميركيين فهموا من مجمل الخطاب أنه ما يزال بالإمكان الحيلولة دون الانفجار الكبير، وأنه بإمكانهم الضغط على الإسرائيليين، وإيجاد مخرج لوقف الحرب قبل فوات الأوان. والأميركي طبعاً ليس من مصلحته رؤية الحرب في غزة تكبر وتتدحرج لتصبح حرباً إقليمية في المنطقة قد تضعها في مواجهة مباشرة مع إيران، وتؤثر في استقرار حلفائها وشركائها وفي الاقتصاد العالمي.