من مسقط إلى الضاحية: رحلة الوفاء للأمين
منذ لحظة الوصول، أحاطتني صورُ السيد في كلّ شارع. شعرتُ أنني أتنفّس نفس الهواء الذي كان يتنفّسه، وطار بي الحنين إلى خطاباته، وخاصة «خطاب نصر تموز».
-
تشييع السيد نصرالله (أرشيف).
غادرتُ مسقط في الثامن عشر من شباط 2025 محمّلاً بشوقٍ وحزنٍ وألم. كنت ذاهبًا إلى بيروت لأشارك أهلَ الوفاء والوفاء نفسه في تشييع قائدٍ حمل في صدره عشقَ الأمة. جئتُ لأقف مع من عرفوا النصر على يديه، ومن شاهدوا التحرير بعينهم، ولأشهد احتفاءً ووداعًا لقائدٍ زرع فينا الأملَ لتحرير أرضنا من دنسِ الغاصب.
منذ لحظة الوصول، أحاطتني صورُ السيد في كلّ شارع. شعرتُ أنني أتنفّس نفس الهواء الذي كان يتنفّسه، وطار بي الحنين إلى خطاباته، وخاصة «خطاب نصر تموز». في الليلة الأولى اصطحبني صديقي أحمد طه وزينب عماد إلى مكان الارتقاء، حيث أدركتُ حجمَ الحقدِ الذي واجه القائد. كيف لم يَرْعَ الطغاة إذ أطبَقت عليهم أمتُهم بـ83 طناً من المتفجرات؟! لكن الدم يعلو على السيف، والتاريخ لا يرحم مبغضيه. بعد سنوات سيُذكر من خانوا ضمائرهم بأقسى الوصف، ولن ينسى الأحرار فعلَ سيد الشهداء.
لم أشعر بالغربة مطلقًا. الناس فتحوا بيوتهم وقلوبهم. وجدت من بينهم من فقد عائلته، ومن تهاوى مصدر رزقه، ومن تهدّم منزله بعد عشرين سنة من العمل. ومع ذلك كان الوجوه صافية، والإيمان راسخًا، والرضى حاضرًا. كثيرون قالوا لي ببراءةٍ موجوعة: «فقدنا السيد، وما في فقد بعده». هذه البيئة هي بيئةُ حزب الله: إيمانٌ، تضحيات، توكّل.
ليلةٌ في بيت الحاج حبيب عساف بقيت في الذاكرة. بيتٌ يشعّ حبًا وكرمًا، يسودُه الحديث عن المقاومة، وعن طريقها. كنتُ مع ضيوفٍ من اليمن، أسامة الفران وسلطان السدح، وهناك ختمت الليلة بقصيدةٍ ألقاها سلطان في رثاء السيد. لم يواسي الرثاء ذاك المصاب؛ فقد فقدنا صوتَ أمةٍ كاملًا. قال المتنبي في مثل هذا الحال: «وأفجع من فقدنا مَن وجدنا…» — كلماتٌ تنطق بحجم الفقد.
أبو علي كان رفيقًا مميزًا؛ روحٌ مرحة وشجاعة، لا يطمح إلا إلى الشهادة، يتحدث دائمًا عن المقاومة ويعيشها. مع شبابٍ آخرين اجتمعنا في مقاهي الضاحية، ونقاشنا امتدّ حتى الصباح، خليط لهجاتٍ — يمنيةٌ ولبنانية — منح الجلسات طعمًا خاصًا. كان بيننا مالك المداني، قلمٌ لاذعٌ لا يهادن المرجفين والمطبعين، ورجلٌ دمث الخلق، صوتهُ لا يُنسى.
قبل التشييع بيوم زرنا بعلبك مع الحسين، صديق الكتب. زيارتنا للسيدة خولة، ومشاهدة الآثار الرومانية، وتذوّق «الصفيحة البعلبكية»، كانت فسحةً قبل العاصفة. أخبرني أهلُ البقاع كيف كان السيد يلتقي قادته في بدايات المسيرة؛ هناك أدركتُ أن البقاع خزانٌ للمقاومة، وأنَّ الجذور عميقةٌ لا تُمحى.
ليلةُ التشييع كانت طويلة. استرجعتُ كل خُطبِ السيد، وكل مواقفه الشجاعة. لم أنم خوفًا أن أفوت ما جئتُ من أجله. في الخامسة صباحًا توجهتُ إلى تجمع الناس القادمين من دولٍ بعيدة. التقيتُ أنصارًا من أمريكا اللاتينية، ومن دولٍ عدة — مشهدٌ عالميٌ لوفاءٍ لا يلين. دخلنا إلى المجمع الرياضي حيث أقيمت مراسم التشييع، وكان الحضور مهيبًا وحزينًا في آنٍ واحد. رأيتُ جرحى مجزرة «البيجر»؛ شبابٌ فقدوا عيونهم وأصابعهم، ووجوههم تعلوها مسحة رضى وإيمان وصبر. هتفوا «هيهات منا الذلة» بصوتٍ واحد، فقبلتُ رؤوسهم وأياديهم المقطوعة باكٍ وشاكرٍ لله أن أُشهد تلك اللحظات.
وقفَتْ أمامي امرأةٌ كبيرةٌ، تمشي بصعوبة وسط الزحام. عندما ظهرت صورةُ السيد على الشاشات رددت ببكاء: «سامحني يا سيد، كل أولادي شهداء… ما في عندي ولد كمان أفديك فيه… يا ليت راح كل شيء وظلّ السيد». ما هذا العشق؟ ما هذا الوفاء؟ هناك، عند أم الشهداء، تعلمتُ أن قوة المقاومة ليست فقط بالسلاح والتقنية، بل في الأمهات وفي تربيةٍ جهاديةٍ جعلت الاستشهاد فعل محبّة وعطاء.
حاول العدوّ تخويف الحشود بطائرات F35، لكنها زادتهم صمودًا. الهتافات تعلو: «هيهات منا الذلة»، «لبيك نصر الله»، وصوت الجماهير يصدح بالعنفوان. عند الثانية ظهرًا دخل نعشُ السيد ونعشُ السيد هاشم صفي الدين؛ لحظاتٌ غيّرتْ المشهد، ملأتها الدموع والألم، لكنّها كانت أيضًا تنفيذًا لوعدٍ دافعَ عنه القائد إلى آخر رمق — دفاعًا عن المظلومين، عن غزة.
بعد الدفن شعرنا بإغلاقٍ فصلٍ وبدايةِ طريقٍ جديد. عرف أهل المقاومة، بعد أربعين عامًا، مكان دفنِ صاحبهم؛ بقيت روحه بين أهله وبيئته، وبقي نهجه. ربّى جيلاً مؤمنًا يقاتل من أجل تحرير الأرض وكتابة النصر بإذن الله.
في اليوم التالي انطلقتُ مع علي إلى جنوب لبنان. هناك يتغير الهواء؛ رائحةٌ مباركة تعبق بالأرض. زرنا البازورية حيث نشأ السيد، وعيْتا الشعب، بنت جبيل، الناقورة، مارون الراس، زبقين، تبنين، وياطر، صور، والنبطية. كل بلدةٍ تحكي تاريخًا من التضحية، وجدران البيوت تحفظ أسماء الشهداء. كنتُ مضيفًا لعائلة جنوبية كريمة، ذقنا العسل واللبن والزيت الجنوبي، وسُمِعَتْ قصصٌ عن أمهاتٍ قدمن شهداء — رموزٌ من جبال الجنوب الصامدة.
في مارون الراس، عند «الحديقة الإيرانية»، حيث بقي من أثر التمثال بقايا مؤشرٍ على غدر الاحتلال، رأيتُ فلسطينَ بعيني: رؤيا تُقرّبُ وعدَ الله. كما أني أدركتُ أن الجنوب هو جدارُ الصمود، وأن تشكيلة المقاومة ليست مجرّد قوةٍ عسكرية، بل شبكةٌ من عشاقٍ وتضحياتٍ وأمهاتٍ لا تنحني.
ختمت الرحلة بمشاعرٍ مركّبة: حزنٌ على الفقد، وفخرٌ بما شاهدتُه من إخلاص، وأملٌ في مستقبلٍ يتحقق فيه وعدُ التحرير. عدتُ إلى مسقط وفي قلبي صورٌ ووجوهٌ لن أنساها: أم الشهداء، الجرحى المبتسمون، الليالي في الضاحية، ودعوات الأهالي. علمتُ أن الوفاء ليس كلمةً تُقال، بل حياة تُعاش، وأنّ الأمين ترك فينا جيلاً يُكتبُ له النصر بإذن الله.