خريجو أكاديمية الحرب من أطفال غزّة ؟!

خريجو أكاديمية الحرب أصبحت المقبرة هي سقف حياتهم، يقطنون بين بيت سماؤه طائرات مدمّرة، ومشفى أيضا تحوم فوقه هذه السّاحقات الماحقات، ومقبرة يُساق اليها شهيد، لا مفرّ له من الموت إلا إلى الموت.

  • الطفولة الفلسطينية.
    الطفولة الفلسطينية.

كيف تصنع هذه الحرب أطفال الناجين منها؟ كيف يتخرّجون من هذه الاكاديمية المرعبة؟ ما الذي تطبعه في نفوسهم؟ كيف ينظرون إلى عيون الاخرين بعد هذه الحرب؟ عيون من قتل إخوتهم وأخواتهم وأمهاتهم وآباءهم وأصدقاءهم وجيرانهم؟ كيف سينظرون إلى عيون من خذلهم وتآمر عليهم؟ كيف سينظرون إلى عيون بعضهم البعض، هم البؤساء المخذولون في الأرض في هذه المقتلة، التي لم يشهد التاريخ مثلها، كيف سيتخرّجون من هذه الكليّة العظيمة؟ ما طبيعة الأرواح التي تسكن في نفوسهم: روح الانتصار أمّ الذلّة والانكسار؟

لم تكن هذه الأكاديمية محاضرات وساعات معتمدة، بل دخلوا معترك العمل دونما محاضرات ونظريّات، وجدوا أنفسهم في عمق الجدّ والكدّ وإخراج كلّ ما في نفوسهم من مقدّرات عقلية وقلبية.

كان لهم أوّل الدرس أن يتعرّفوا جيّداً إلى طبيعة عدوّهم الشرسة بلا حدود، وكان لهم أن يتعرّفوا إلى طبيعته الحاقدة وقدرته العالية على تحويل الحقد إلى صواريخ مدمّرة للحجر وفتّاكة بالبشر، وكان لهم أن يتلقّوا أيضاً مساقاً لحقوق الإنسان من الذين يتقنون التشدّق بها، وكان لعدوّهم ومن يرعاه في التوحّش خير مثال عملي على قوانين الغرب لحقوق الإنسان. أطفال غزّة في هذه الأكاديمية المسعورة تعرّفوا جيّداً إلى حقوق الإنسان وكيف تراعى وتطبَّق في هذه الغابة، التي تسمّى العالم الحرّ.

وكان هناك مساق مهمّ في هذه الأكاديمية، وهو بعنوان: كيف تحقّق كرامتك؟ وكان لمشرف هذا المساق أن يريهم مثالاً عملياً على عمق خندق متقدّم في المعركة يتمترس فيه المقاومون دفاعاً عن كرامة أمّة ضائعة، ماذا عليك أن تفعل لتحقّق كرامتك، وما سبُل الوصول إلى كرامة ضاعت من أصحابها، وكيف تستلّها من براثن وحش مفترس؟

وكان هناك أيضاً مساق تحت عنوان: ماذا يعني أن يفقد شعب حريّته ويخضع لاحتلال؟ كيف يتحرّر ولا يخضع لأحد إلا الله؟ وكيف تتحقّق السيادة وكيف نكون أحراراً كما ولدتنا أمهاتنا؟ ولماذا، وكيف نضحّي من أجل تحقيق حريّتنا وحريّة شعبنا وحريّة أمّتنا من قوى الاستعمار والاستكبار والاستحمار العالمي؟

الذين قُتلوا من الأطفال لغاية اليوم، بعد مضي شهر على هذه الإبادة الجماعية في غزّة، أكثر من أربعة ألاف طفل فلسطيني. هؤلاء المجرمون الذين قتلوهم لا يرون أبعد من أنوفهم. هناك جيل كامل من الأطفال الذين لم تطَلهم يد البطش الصهيونازية في هذه الحرب، هذا الجيل كلّه دخل أكاديميّة الحرب.

شاهدوا هذا القتل المريع وزلزلت قلوبَهم مشاهدُ الحرب المرعبة، شاهدوا حرب الإبادة بأمّ أعينهم وعايشوها بكلّ أحاسيسهم ومشاعرهم، لم يشاهدوا فيلم رعب في قاعة سينما، بل تخلخلت مفاصلهم وارتعبت قلوبهم وغرقوا في أهوال لم يتخيّلوها في يوم من أيام حياتهم القصيرة، وجدوا أنفسهم في سلسلة من القصف لأعتى أنواع الصواريخ القاتلة والماحقة، تبدأ من دون أن يكون لها نهاية. قصف يسلّم قصفاً ورعب يعلوه رعب، ظلمات بعضها فوق بعض، رائحة الموت تنتشر في كلّ مكان، ولا يظنّ أحد أنه ناج إلا بمعجزة سماويّة. أحد الأطفال كان جريحاً يسيرون به على حمّالة الإسعاف، وهو يسأل من يحمله: أين تذهبون بي؟ إلى المقبرة؟

أصبحت المقبرة هي سقف حياتهم، يقطنون بين بيت سماؤه طائرات مدمّرة، ومشفى أيضا تحوم فوقه هذه السّاحقات الماحقات، ومقبرة يُساق اليها شهيد، لا مفرّ له من الموت إلا إلى الموت.

دخلوا أكاديمية الموت والرعب، وفي الوقت ذاته أكاديميّة الحرية والشهادة. على حدّ السيف وقفوا، وبين رصاصتين تعلّقت أرواحهم، تصلّبت قلوبهم واشتدّ بنيانهم وفقهوا لغة العصر. شبّوا وترعرعوا على أن يكونوا أشداء أقوياء لا تلين لهم قناة. علموا علمَ اليقين بأن الذئاب تحيط بهم من كلّ جانب، وإن لن تفترسها افترستك من دون أي رحمة أو شفقة. بنوا أرواحهم على أن تكون ذات بأس شديد، هم الكتائب القادمة من الموت إلى الموت المنتظر منهم لأعدائهم، هم الجيل المنتصر للحرية والكرامة والردّ على عنجهية البشر حين يفقدون بوصلة البشر. 

جيل قسّاميّ قادم في انتظاركم يا أرذل البشر.