حوار "قسد" ـ دمشق: التسوية المفقودة

تعيش سوريا الآن تحديات كبيرة في الواقع، وخصوصاً بعد تكليف أحمد الشرع رئاسة الجمهورية. ولعل منطقة الجزيرة السورية، التي تديرها قوات سوريا الديمقراطية، "قسد"، هي أكثر المناطق السورية تعقيداً.

  • الإدارة السورية الجديدة وافقت على نوع من دراسة اللامركزية الإدارية.
    الإدارة السورية الجديدة وافقت على نوع من دراسة اللامركزية الإدارية.

لا تحولات كبيرة تضع أوزارها في سوريا، حتى تعقبها تحولات من نوع آخر. إنها اسئلة الأفكار والسجالات الفكرية والسياسية. أسئلة عن دوافع التحولات وأهدافها وجدواها وحلولها والقوى الخارجية التي فرضت هذه التحولات. 

ستتجادل القوى المحلية وقادة الأحزاب والباحثون والمثقفون والكتاب والمواطنون العاديون عمّا حققه سقوط النظام السابق وما ستحققه القيادات الجديدة التي جاءت على صهوة الضغوط الإقليمية والدولية الداعمة لها.

أي مراقب للتحولات السورية سيكتشف الآن خروج المواطن السوري من صدمة حروبه الداخلية وتوجهه نحو مهمة اجتراح حلول للواقع الجديد. "حروبه" كانت باهظة التكلفة والنتائج، فعلت في النفوس ما لم تفعله تراكمات دهور وأزمان، ونتائجها في الغالب اندحارات وتضحيات جسام، وانهيارات سياسية وتراجعات فكرية وأخلاقية، لكن ذلك لم يوهن عزيمة السوريين، وأظهرت الأيام، بعد سقوط النظام السابق، وجود تحرك واعٍ ومسؤول في مختلف أوساط الشبان السوريين بصورة لافتة جداً. وبدا أن قيادات فكرية وثقافية وسياسية في كل محافظة ومنطقة تقدم نوعاً مغايراً من عناصر الحل، الذي لا يقل سقفه بداية عن القرار الدولي في بناء الدولة المدنية التي تستوعب كل أطياف المجتمع والنسيج السوريين الغنيّين بعناصرهما البصرية الملونة.

تعيش سوريا الآن تحديات كبيرة في الواقع، وخصوصاً بعد تكليف أحمد الشرع رئاسة الجمهورية. ولعل منطقة الجزيرة السورية، التي تديرها قوات سوريا الديمقراطية، "قسد"، هي أكثر المناطق السورية تعقيداً، وهي عرضة للضغط التركي من خلال الحرب التي تُشن عليها من جانب ما يسمى "الجيش الوطني" التابع لتركيا بهدف إخراج الكرد من المعادلة. لذلك، تواجه الإدارة السورية الجديدة واحدة من أكثر المعضلات تعقيداً في طريقها لإعادة ترتيب الوضع الداخلي السوري، وفي محاولة لتشكيل جيش وطني موحد، وخصوصاً دمج قوات سوريا الديمقراطية، "قسد"، ضمن الهيكلية الجديدة. وأكد مظلوم عبدي، قائد "قسد"، أن قواته مستعدة للاندماج، لكن بشروط واضحة، أبرزها المحافظة على السلاح إلى حين التوصل إلى صيغة توافقية تضمن حقوق الكرد في دولة موحدة. لكن، كيف يستقيم الحديث عن تسليم سلاح "قسد" ومناطق سيطرتها تتعرض للهجمات بصورة يومية؟

هذا التساؤل، الذي تطرحه قيادات "قسد"، يعكس حجم المخاوف من التخلي عن سلاحها من دون ضمانات حقيقية لحمايتها. ولهذا، ستكون الإدارة السورية الجديدة في حاجة إلى تحقيق توازن دقيق بين طموحاتها بشأن توحيد الجيش وتطلعات "قسد" ومخاوفها، والحل يكمن في اتخاذ خطوات تدريجية ومدروسة لتحقيق التوافق بين "قسد" والإدارة الجديدة. 

ومن اللافت أن الإدارة السورية الجديدة وافقت على نوع من دراسة اللامركزية الإدارية، وحصول "قسد" على قسم من عائدات النفط متناسب مع الحجم والمساحة الجغرافية، لكنها اشترطت أن يكون الانضمام إلى الجيش السوري ضمن وزارة الدفاع الجديدة، فرادى، بالإضافة إلى استعدادها للاعتراف بالحقوق الثقافية للكرد، وعلى رأسها تدريس اللغة الكردية في المدارس، وانتهت النقاشات من دون إبرام اتفاق محدَّد.

فالتصريحات، الصادرة عن هيئة تحرير الشام بشأن احترام الأقليات، لا يجب تفسيرها على أنها مؤشر على الاعتدال في أيديولوجية الجماعة، وهو ما يذكّرنا بنقد أنطونيو غرامشي ميلَ المجتمعات إلى تكرار أخطاء الماضي على رغم دروس التاريخ، ووجه دعوة إلى الانخراط بفعالية في الشؤون السياسية والاجتماعية للتأثير في مجرى التاريخ. كما أمل وجود دور المثقفين في المجتمع وقدرة كل شخص على المساهمة في الفكر الجماعي.

وتمثّل المرحلة الانتقالية فرصةً تاريخيةً لإعادة بناء سوريا على أسس ديمقراطية وعدالة شاملة، وإنشاء نظام يحظى بشرعية شعبية. ويجب أن يعتمد نجاح هذه المرحلة على وضوح الرؤية وشمولية الإجراءات والوحدة الوطنية لإنجاح الانتقال، ودعم المجتمع الدولي، من خلال تشكيل مجلس انتقالي قويّ، وإعلان دستوري شامل، وصياغة دستور ديمقراطي يضمن الحقوق العامة، ويراعي أكثر مسألة المواطنة التي تساوي بين كل فئات الشعب أمام القانون. وسيكون لإعادة تعريف مفهوم المواطنة والهوية الوطنية اهتمام كبير وحاسم، يمكّن من تحقيق انتقال سياسي مستدام وبناء سوريا المستقبل التي تطمح إليها الأجيال المقبلة. 

في نهاية المطاف، سيكون النجاح في حل هذه المعادلة هو الاختبار الحقيقي لقدرة القيادة الجديدة على تحقيق رؤية شاملة لسوريا موحدة ومستقرة. لكن يبقى السؤال: هل تمتلك الإدارة السورية الجديدة القدرة والإرادة لتحقيق هذا التوازن المعقد في ضوء تبعيتها لتركيا التي تحتل مناطق في شمالي سوريا؟ وأين هي الإدارة الجديدة من الاحتلال الإسرائيلي وتدميره للجيش السوري ومراكزه العلمية ومستودعات أسلحته؟ وماذا عن المجازر "الطائفية" التي تحدث في حمص واللاذقية بحجة تبعيتهما للنظام السابق؟ وماذا عن سجون "جبهة النصرة" في إدلب (أكد أحد المعارضين وجود 26 معتقلاً في إدلب)، والمجازر التي ارتكبتها بحق السوريين بالتعاون مع الاحتلال التركي؟

تؤكد "قسد" بالتوافق مع كل القوى الكردية في المنطقة (هناك دور إيجابي كبير للسيد مسعود البرزاني) أنها في مواجهة مع تركيا، وهي لا تمثل الكرد فقط، بل أيضاً كل عناصر النسيج السوري في الجزيرة (شرقي الفرات). وهي لذلك، أي "قسد"، تنوب عن هذه القوى في مفاوضاتها مع الإدارة السورية الجديدة في دمشق. لكن القيادات في دمشق ليست من روح واحدة. بعضها يريد أن يتوازن من دون أن يتحرر من الضغط التركي، وقسم كبير من تكويناتها تسيّره أنقرة.

"قسد"، في هذا المجال، وهذه المرحلة، تشكل رافعة سوريا قوية لفرض القرار الأممي على الأقل. وإبعاد التصورات الإسلاموية عن مخطط المستقبل. وكشفت معلومات أنها (أي "قسد") وجميع الكرد مستعدون إذا تخلت أميركا عن دعمهم في مواجهة تركيا فإنهم سيمدون جسوراً إلى إيران، بمباركة عراقية. لكن أميركا لن تجازف بذلك في هذه المرحلة، على رغم تسريب البيت الأبيض خبراً عن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مفاده أنها في صدد سحب القوات الأميركية من سوريا.