حكومة نتنياهو.. تحاصرها الألغام
حزمة التحديات، التي يستعدّ نتنياهو لمواجهتها، هي تحديات ما كانت لتحاصره من دون المطامع الأيديولوجية ضمن استراتيجية القمع المشرّع.
إذا كان مفهوماً رضوخ نتنياهو لتطرف مطالب كبار الكهنة في استيلاد حكومته السادسة، إلّا أن التحدي الحقيقي بدأ في اليوم الذي أعقب توطين حكومة ذات طيف أيديولوجي موحَّد، ترى في الساديّة أحقية هوياتية لحماية يهوديتها.
ما ينتظر رئيس الحكومة صراع يتجاوز قدرته على إطفاء الحرائق التي سيشعلها حلفاؤه من الكاهانيين، وهو الذي يراهن على خبرته في التعامل مع الأزمات الداخلية لإدارة ائتلافه المعقد، مأخوذاً بنشوة التحرر من قيود الملاحقة القضائية بشأن قضية الرِّشى والفساد، في منصب يدرك أنه الصيد الأخير.
يبدو أن الخَرْق اتسع منذ اللحظة التي وزع فيها بنيامين نتنياهو غنائم الحقائب الوازنة على الأحزاب الدينية، وأعطى "الليكود" فتات الحقائب، حتى المهمة منها اقتُطعت صلاحياتها، وأُعيد تقسيمها إلى الوزارة التي سيتولاها رئيس حزب الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش، كما الحال في حقيبة الأمن. على ذلك، بُنيَ طوق إقصائيّ على اليهود أنفسهم؛ أولئك الذين ينتسبون إلى معسكر الأغلبية اليهودية من العلمانيين والمحافظين. الثابت في كل ما تقدم أن ملامح المرحلة المقبلة لن تخلو من الصدامات الداخلية والانقسامات، كما لن تنجو من الأزمات الأمنية والمؤسساتية.
"انقلاب شرعيّ"
يكشف المشهد الائتلافي نجاح ممثلي الكهانية في الاستيلاء على مراكز الثقل "الشرعي" في الحكم. لذا، لم تقتصر المطالب بشأن السيطرة على الوزارات الأهم، بل على أدواتها، مع ما تمثله من صلاحيات وموازنات وقوانين، ليتمكن بن غفير وسموترتش من إحكام قبضتيهما على مفاصل "الدولة". لذا، كان طبيعياً ما ظهر من استياء عند أصحاب الوزارات المنقوصة في "الليكود"، والذين عدّوا أن ما جرى لا علاقة له بالمفاوضات، وليس إلّا حزمة تسويات، في تصريح لصحيفة "إسرائيل اليوم"، وقالوا: "لدينا شعور سيئ. غادر شركاؤنا بكل جشعهم، وحصلوا على ملفات ووزارات مهمة، والملفات والوزارات التي بقيت معنا تعرّضت للتقسيم والنهش بوحشية".
في السياق الأقرب، سيضمن بن غفير تطبيق معادلة السيطرة على المكونات الأمنية، كما يُحِلُّ له الاتفاق، أو ما يفضّل وزير الحرب السابق بيني غانتس وصفه بـ"المباشرة بإنشاء جيش بن غفير الخاص". بناءً عليه، ستتقلص صلاحيات مفتش الشرطة، وتتحول إلى بن غفير صاحب الصلاحيات التنفيذية. كما ستطال صلاحيات الأخير مناطق نفوذ "الجيش"، بعد أن تمكّن من ضم قوات حرس الحدود العاملة في الضفة إلى وزارته، والتأثير في القرارات الميدانية للقوات، ينقلها متى شاء من الضفة الغربية إلى النقب وحتى الجليل. وسيضيف أيضاً إلى جناحه ما يسمى قوات "الحرس الوطني"، والدوريات الخضراء.
"الاعتداء" على مؤسسة أمنية حافظت على موقعيتها، على رغم الحكومات المتعاقبة، هو ليس آخر ما أثار شهيّة بن غفير، الذي سبق أن مُنع من أداء الخدمة العسكرية الإلزامية عندما أتمّ ثمانية عشر عاماً، بسبب "عدم الملاءمة" على خلفية سلوكه السياسي العنيف، بل حرص، ضمن مكاسبه "المدوزنة"، على التدخل في توجهات التحقيقات، والقضايا التي تقدّم فيها الشرطة لوائح اتهام، بهدف تقديم غطاء سياسي رسمي لجرائم المستوطنين.
خارج خطاب الانتشاء العارم للحكومة الفاشية، يرى المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، أمير أورن، أن خطة بن غفير بشأن توجيه سرايا حرس الحدود إلى النقب ستنزع من القيادة الوسطى وحدات محترفة، وستُضطرها إلى تجنيد كتائب احتياط أقل نجاعة وأقل حماسة، الأمر الذي سيتسبب برفض الخدمة وانعدام الضابطية، لأن الذين سيواصلون وحدهم هزّ أذيالهم، مذعنين، هم "كلاب وحدة عوكتس فقط". هذا من دون تحييد تطبيق القانون القادم بشأن إعفاء الشباب الحريدي من الخدمة الإجبارية، على الرغم من محدوديته.
حتى الحاخام العسكري الرئيس لن يكون خاضعاً لرئيس الأركان، وسيخضع للحاخامية الكبرى في "إسرائيل". وتعيينه يكون عبر مصادقة الحاخام الرئيس للطوائف الشرقية، "السفارديم"، ليشكل القانون المستجدّ عبوراً آمناً لـ"الأجندات الخارجية والمدنية وحتى السياسية إلى الجيش، وقد يكون هناك خطر إدخال أحكام شريعة صارمة، والتي تم تقييدها سابقاً بسبب التبعية المباشرة لرئيس الأركان"، بحسب المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل.
هنا، يستنسخ التغول المسار ذاته في السيطرة على المشهد الاستيطاني. فبعد 60 يوماً، ستوافق الحكومة على خطة خمسية لتطوير الاستيطان وتعزيزه في "يهودا والسامرة " (الضفة). ضمن سموترتش، لإنفاذ خطة الضم، وضع ميزانيتها مقدماً تحت عباءة قبل التوقيع على الاتفاق.
يكاد يكتمل النمط الساديَ لحكومة اليمين المتطرف، في تفريغ القوانين وتجريدها من مكانتها الدستورية، على شكل تعديلات قانونية جديدة، كالتعديل بشأن قانون "حظر التمييز"، والذي يجيز للأطباء المُتدينين عدم تقديم علاج المثليين مثلاً، أو حتى رفض التعامل مع زبون يخالف معتقدات التاجر الدينية، أو تمرير "فقرة التغلب" كتعديل قانوني، من أجل تضييق رقعة صلاحيات المحكمة العليا الإسرائيلية، يبطن في خلفيته إعادة هيكلة في البنيّة الجوهرية القضائية. يمنح التعديل غلبة للقوانين التي تُسَنّ في الكنيست على حساب ما يصدر عن المحكمة العليا. وبالتالي، يسمح للمعسكر المتطرف بسنّ ما يشاء من قوانين من دون أي كوابح قانونية وقضائية قد تبطلها المحكمة، أو عوائق قد تحول دون فرض أيديولوجيتها في نصوص قانونية ملزمة.
على هامش المشهد القائم، حذّرت المستشارة القانونية للحكومة، غالي بهراف ميارا، في مؤتمر حقوقي عُقد في جامعة حيفا، من أن إجراء تغيير عميق في نسيج الأنظمة بضربة سيف واحدة "هو فكرة خاطئة في نظري. فالتغيير الجوهري للنظام يتطلب تفكيراً عميقاً وحكماً مستنيراً، وليس من خلال عملية سَنّ قوانين سريعة خاطفة، من أجل تشكيل الحكومة".
"سنغادر معاً"
بكل الأحوال، إنّ تجاوز عتبة الحكم لا يعني القفز على حقيقة، مفادها أن الاستراتيجية الإلغائية القائمة للحكومة الحالية لن تتصادم مع التيارات الداخلية بشأن الملامح والهوية لـ"يهودية الدولة"، في قضايا الدين و"الدولة"، والصراع بين المتدينين والعلمانيين، والحريات الفردية والمدنية للأقليات الدينية. كما سيصعّب على الجموح الفاشي ستر أصوات السجالات الداخلية المتعالية في الكيان. وبالتالي، لن تكون العلاقات اليهودية - اليهودية في منأى عن معركة اليوم التالي.
فحتى زمن قريب، إلى ما قبل صعود السلطة الكاهانية، برزت موجة داخلية أطلقت على نفسها حركة "سنغادر معاً"، من أجل تشكيل هجرة عكسية خارج "إسرائيل"، لأنه، بحسب أحد مؤسسي الحركة، يانيف غوراليك، فإن "علينا للأسف، نظراً إلى ما يحدث في البلد، إعداد خيار للانتقال إلى الخارج. نحن نرى الحكومة التي سيتم تشكيلها وماذا ستفعل. لا مكان لنا هنا. فثمّة مخاطر أمنية. وفوق ذلك كله هناك ظلم وتهميش للفئات الضعيفة".
الحركة التي أطلقت حملة تهدف إلى حشد 10 آلاف مستوطن للهجرة، بحسب صحيفة "معاريف"، تعرض بلدات وقرى ريفية في دول متعددة من العالم، وتمكّنت حتى الآن إحدى القرى الإسبانية من سرقة 17 مستوطناً، أكدوا نيتهم الهجرة إليها.
وفي سياق زمني أكثر قرباً، بعد ساعات على أداء اليمين، لم يعد مستغرَباً ما أشارت إليه استطلاعات الرأي الإسرائيلية بشأن مسار انحداري تجاه حكومة نتنياهو، إذ أظهر استطلاع أجرته "News 13" أن 55٪ من الجمهور الإسرائيلي غير راضٍ عن الحكومة الجديدة، بينما رأى 39٪ منهم أنها سيئة للغاية، في حين عارض 77٪ من المشاركين في الاستطلاع البند الذي يسمح لصاحب العمل بعدم تقديم خدمات إلى كل من يخالف المعتقد الديني، بينما رجّح 24٪ منهم أن عمر الحكومة لن يتجاوز العام، في مقابل 32٪ توقعوا استمرارها فترةً تمتد من عامين إلى 3 أعوام.
يبقى أن حزمة التحديات، التي يستعدّ نتنياهو لمواجهتها، هي تحديات ما كانت لتحاصره من دون المطامع الأيديولوجية ضمن استراتيجية القمع المشرّع، استرضاءًّ لمريديه. وتبقى فعّاليّة المناورة بين التطرف وتهديداته قيد التموضع في المرحلة المقبلة.