تحليل اتجاه "الانتصار بالنقاط": المكتسبات والتحديات

المقاومة بفعل الروح المغامرة والصمود التاريخي تمكنت من التأسيس لمرحلة المواجهة الحاسمة، بغض النظر عن شكلها وظروفها وكيفيتها.

  •  أسست المقاومة عتبة جديدة على مستوى الصراع لم تصل إليها القوى التحررية منذ عام 1948.
    أسست المقاومة عتبة جديدة على مستوى الصراع لم تصل إليها القوى التحررية منذ عام 1948.

انتصرت القوى المستضعفة بعد حروب طويلة، فيما لجأت القوى الكلاسيكية إلى القدرات والإمكانات المتفوقة في محاولة تحقيق الأهداف في أقصر وقت ممكن. نحن الآن ندخل الشهر السادس للحرب، وإذا نظرنا إلى الصراع التاريخي على أرض فلسطين ومساره الممتد إلى 75 عاماً، سنجد أن هذه الفترة القصيرة من المواجهة، المحتدمة والمكثفة بشكل هائل، تمثل علامة مفصلية فارقة بالمقارنة مع كل التجارب التي انطوت على فعالية تحررية حقيقية من دون أن تمثل لحظة الشروع في حسم الصراع إلى الآن، وإن كانت تتضمن مجموعة عوامل مساهمة وتؤدي إلى تقدم ملحوظ في هذا الاتجاه. 

ينبغي تقييم تجربة "الانتصار بالنقاط" بعد توقف القتال، لكن بعد مرور هذه الأشهر يمكن لنا تقصي الناتج الأولي لهذا الاتجاه الذي يعمل من خلاله محور المقاومة، وذلك بما يقربنا من فهم طبيعة هذا الاتجاه وكيفية توزع نواتجه التراكمية، حتى نتحقق من مدى جدوائيته ومن حجم القيم المضافة التي حققها حتى الآن، وكذلك فهم التحديات التي لا تزال ماثلة، والتي نشأت في خضم المواجهة، ولا تزال بانتظار نقاط انتصار جديدة أو معالجات استراتيجية متفاوتة في الحجم والتكلفة والمدى الزمني المطلوب لإنجازها. 

أولاً: النقاط المكتسبة

5 مكتسبات استراتيجية رئيسية حققها اتجاه "الانتصار بالنقاط" حتى الآن: 1) صمود المقاومة الفلسطينية، 2) إثبات حضور وحدة الساحات، 3) فشل الكيان في الردع تجاه الساحات المتعددة، 4) انهيار صورة الكيان المؤقت على المستوى العالمي، 5) تحوّل أنصار الله إلى قوة ذات تأثير إقليمي ودولي.

1.  صمود المقاومة الفلسطينية: تجربة جديدة في تاريخ الصراع على أرض فلسطين أن تصمد المقاومة الفلسطينيّة في مواجهة الحرب الشاملة والتدمير والمجازر والاجتياح البري من 5 فرق عسكرية، وتحول مفصلي في تطور القدرة القتالية والبنى الدفاعية والوقاية الاستخبارية. نشأ هذا التحول بفعل الواقع الجغرافي والنفسي والثقافي في قطاع غزة، فقد يكون الكلام عن تكراره في بقعة فلسطينية أخرى بحاجة إلى تأمل، لكن من حيث التجربة ودروسها العملية والمعنوية، فإنها قابلة للتطويع والملاءمة بأشكال تناسب ساحات المقاومة المختلفة، فهي تعبير عن رسوخ الإرادة التحررية الفلسطينية رغم الكلفة الهائلة مع توظيف قدرات متقدمة كماً ونوعاً وإدارة. 

2.  إثبات حضور وحدة الساحات: مضت 50 عاماً على آخر حرب مشتركة ضد الكيان المؤقت شارك فيها جيشا مصر وسوريا، ودامت 18 يوماً، وانتهت بفشل ذريع، ثم بدأت بفعل أداء أنور السادات الانقسامات في الصف العربي والإسلامي إلى حد التفكك العميق للجبهة. واقع تكرس بفعل البرامج الاستراتيجية للولايات المتحدة، التي تمكنت بعد انتهاء الحرب الباردة من اختراق المجتمعات العربية والسيطرة على الحكومات والجيوش والأجهزة الأمنية وتحويل دول المنطقة إلى كيانات تابعة، إما نائمة وإما موظفة في خدمة برامج التبعية.

جاء محور المقاومة كحالة نقيضة، وأراد إعادة بناء التواصل والتفاعل التحرري في غرب آسيا، وقدرتها على اختراق البنية الحدودية الاستعمارية بمستوياتها الجغرافية وآثارها السياسية والثقافية والدفاعية، في ظل تأييد شعبي محلي وإقليمي وعالمي غير مسبوق. تؤسس هذه التجربة لمستوى جديد من الثقة والتنسيق والبناء المشترك للقدرات والقرارات ضمن هذا التشكيل الذي يخوض حرباً واسعة ليتحدى فيها بشكل مباشر الغرب الجماعي، وضمنه الكيان المؤقت، في أطول حرب يخوضها منذ تأسيسه عام 1948.

3.  فشل الكيان في الردع تجاه الساحات المتعددة: طلب نتنياهو بشكل شخصي ومباشر دعماً عسكرياً أميركياً من بايدن ليلة السابع من أكتوبر، ما أظهر انكشاف الردع أمام محور المقاومة، كما يعكس هذا الطلب العاجل إقرار الكيان بعجزه عن خوض الحرب منفرداً في عدة مساحات بشكل متزامن.

لم تكن "إسرائيل" بحاجة إلى تدخل عسكري أميركي مباشر عام 1973، رغم أنها كانت تواجه قوى كلاسيكية قامت بمباغتة عسكرية بشكل متزامن. الآن، في مواجهة قوى شبة دولتية (حماس والفصائل، حزب الـله، أنصار الله، المقاومة العراقية) وجيوش شبه كلاسيكية، احتاجت إلى التدخل الفوري رغم أن الهجوم بدأ من جبهة واحدة محدودة، ثم التحقت الجبهات الأخرى بالتدريج. هذا كشف عن تحول عميق في موازين القوة يؤسس لمرحلة متمايزة عن كل تاريخ الصراع. صحيح أن توازن الحرب الباردة كان حاجزاً أمام تدخل أميركي مباشر، إلا أن "إسرائيل" حسمت الحرب في 18 يوماً دون ذلك التدخل، ونحن الآن ندخل في الشهر السادس للحرب. 

4.  انهيار صورة الكيان المؤقت على المستوى العالمي: تأسّس الكيان على سردية مظلومية المخيمات النازية واستخدمها لتقديس الحضور اليهودي في المجتمعات الغربية وتكريس تلك القدسية الوحيدة المتبقية في الثقافة الغربية المعاصرة بشكل قانوني، بحيث تصبح اللوبيات الصهيونية آمنة من أي تأثير سياسي أو اجتماعي، فينمو نفوذها باستمرار لتشكل عناصر دعم وبقاء للكيان المؤقت.

انهارت منظومة الدفاع الصهيونية الآن في العالم، وفي الغرب تحديداً، وتم تجاوز هذه القدسية المخترعة، وأصبحت من مخلفات التاريخ، وهذا يؤسس لمرحلة محاصرة اللوبيات، كما يسمح لقوى التحرر بأن تخوض حرب العقاب والتأديب القادمة ضد العدو الصهيوني والرأي العالم العالمي إلى جانبها. هذه النقطة تحديداً هي ناتج صرف لجيش الاحتلال، لم يساهم فيها محور المقاومة ولم يشارك، إنما هي انعكاس لحالة الانهيار النفسي الذي أصيبت به الشخصية الصهيونية، فلجأت إلى الجريمة الشاملة لتعويض الصدمة.

5.  تحوّل أنصار الله إلى قوة ذات تأثير إقليمي ودولي: بفعل الموقع الجغرافي والحافزية القتالية والتماسك الاجتماعي، تحوّل اليمن إلى مؤثر دولي يمسّ بالحركة الاقتصادية والتجارة العالمية ويستطيع تشكيل ضغط من خلال الاشتباك المباشر مع البحرية الأميركية بالتزامن مع منع عبور السفن إلى الكيان الغاصب.

قدرة جديدة تضاف إلى المجال التحرري الناشئ في غرب آسيا، وتوفر تجربة حساسة وبالغة الأهمية في الاشتباك المباشر مع البحرية الأميركية، واكتشاف قدراتها الدفاعية وتطوير أدوات ووسائل مناسبة للتعامل معها، بما يؤسس لمجال جديد في المواجهة مع الحامي الرئيسي للكيان المؤقت. نقطة تحول لم تكن ربما في حسبان واضعي برنامج "الانتصار بالنقاط"، لكنها تضاف من ناحية واقعية وعملية إلى نواتج المسار. 

تختزن هذه المكتسبات قابلية للاستثمار المستقبلي. وبذلك، تؤسّس لنقاط يمكن اكتسابها بناءً على هذه المرحلة الفاصلة، فهي تحدد الاتجاه والمدى وإمكانية التحرك التحرري القادم، وتعبر من خلال طبيعتها عن هذا الاتجاه وديناميته الداخلية القائمة على التراكم وبناء الخطوة على الخطوة، في مقابل الاتجاه الدفعي الذي يكثف الخطوات ويدمجها في مدى زمني محدود.

ثانياً: التحديات الناشئة

بالتوازي مع النقاط المكتسبة، نشأت 6 تحديات استراتيجية أمام المسار التحرري القائم على أساس النقاط، فكما يراكم محور المقاومة نقاطه، يعمل المحور الصهيوني على مراكمة نقاطه كذلك، وتتميز هذه النقاط بعنصر المفاجأة والتحول النسبي، وهذا ما يعطيها دوراً وتأثيراً فاعلاً في مسار "الانتصار بالنقاط"، ذلك أنها شكلت رد فعل على التحول الذي أحدثته معركة طوفان الأقصى وما نتج منها من مسارات. أهم هذه التحديات: 1) التأثير غير المباشر لوحدة الساحات، 2) عودة الأميركي بالقوة المباشرة إلى المنطقة، 3) تحوّل المجتمع الصهيوني، 4) انتقال العدو من المساكنة إلى التحدي، 5) الدعم الإقليمي للكيان المؤقت، 6) التدمير الشّامل لغزة.

1.  التأثير غير المباشر لوحدة الساحات: انعكس التنسيق والانخراط التتابعي غير المتزامن بين الساحات في درجات انخراط كل ساحة تبعاً للظروف والشروط والاستعداد. بموازاة ذلك، قررت الولايات المتحدة خوض الحرب الشاملة على وجود قطاع غزة بأهله وعمرانه ومقاومته. هنا تحديداً، لم تصل ضغوط الساحات المختلفة إلى درجة تعديل مسار الحرب في غزة، رغم النقلة الاستراتيجية الهامة التي حصلت بفعل تحرك الساحات. 

2.  عودة الأميركي بالقوة المباشرة إلى المنطقة: انعطافة مهمة قام بها الأميركي منذ اليوم الأول للحرب تحت عنوان ردع الساحات الأخرى عن التدخل في المواجهة. ومع استمرار الحرب وتصاعد الضغوط، بدأ التدخل الرادع يتحول إلى عمل عسكري فاعل ابتداءً من البوابة اليمنية، من ثم السورية، فالعراقية.

سبق ذلك مسار طويل وتدريجي للانكفاء عسكرياً عن المنطقة وحروبها بعد استنزاف مكلف بدأ عام 2003، وتمثل العودة إلى الاشتباك المباشر تحدياً حساساً يوازنه التحدّي اليمني وخسائر المصداقية الأخلاقية، كعاملين يقوّضا كلاً من الردع العسكري والنفوذ الناعم للولايات المتحدة في غرب آسيا. 

3.  تحوّل المجتمع الصهيوني: تركت صدمة اختبار الوجود الاستيطاني في 7 أكتوبر أثرها العميق في المركب النفسي لليهود في فلسطين. تم تجاوز الخلافات السياسية الداخلية في الأيام الأولى.

وبناءً على الإحساس بالإهانة وانهيار سردية التفوق اليهودي العنصري على الفلسطينيين، وتفاعلاً مع خطاب الأثمان الباهظة الضرورية للنصر الذي استخدمته القيادة الصهيونية، مدعومة بالماكينة الإعلامية العبرية بشكل مكثف خلال الأسابيع الأولى، إلى جانب خطاب حرب البقاء وضرورة النصر كشرط لعدم العودة إلى التشرد بين الأمم، كل ذلك انعكس في تحمل غير مسبوق لمدة الحرب ولحجم الخسائر البشرية والاقتصادية من قبل المستوطنين، وهذا انعكاس طبيعي لوصول الصراع إلى العتبة الوجودية لأول مرة على أرض فلسطين، لا في سيناء ولا في الجولان، وهو اختبار لمتطلبات أي حرب تهدف إلى اقتلاع حالة الاغتصاب القائمة في أرض فلسطين. 

4.  انتقال العدو من المساكنة إلى التحدي: تعامل الكيان المؤقت مع التهديدات خلال العقد الأخير من خلال توازن الردع والاحتواء السياسي والاقتصادي، بحيث لا يضطر إلى التعامل مع حالات مواجهة واسعة ومكلفة. خلال تلك المرحلة، كان العدو يتكيف مع التهديدات ويناور ضمن هوامش ضيقة، ولذلك كان خطاب الردع والتهديد مؤثراً في مواقفه وسياساته بشكل كبير. انتقل الاحتلال الآن إلى مرحلة التحدي وكسر الخطوط وتجاوز عتبات التصعيد الواحدة تلو الأخرى، مضحياً في هذا السبيل بصورته ومقبوليته العالمية، صارفاً كل رصيده السياسي في هذا المسار. وهنا، لم يعد ممكناً اختبار تأثير الأدوات التحليلية السابقة لاستشراف سلوكه، وبالتالي دخل في مرحلة فاصلة تقطع عما سبقتها. 

5.  الدعم الإقليمي للكيان المؤقت: لم يحصل كيان الاحتلال على دعم لوجستي من دول عربية وإسلامية كما يجري الآن خلال هذه الحرب، إذ تتعاون الإمارات والسعودية والأردن لإيصال الصادرات التي أغلق طريقها البحري الفاعل اليمني، كما تقوم تركيا بتصدير النفط الكردستاني والأذربيجاني عبر البحر المتوسط إلى موانئ فلسطين المحتلة ليشغّل الاحتلال دباباته وطائراته. التشكيل الاقتصادي يؤازره تعاون مصري في الحصار على غزة وتعاضد دبلوماسي للضغط على المقاومة من كل دول التطبيع لتتراجع عن ثوابتها في المفاوضات. إنه تحول بالغ الخطورة في غزة وغير مسبوق، إلا أنه كان متوقعاً وفقاً لسياسات هذه الدول واستفحال جرثومة التطبيع في عقل نخبتها السياسية التابعة خلال السنوات الفائتة. 

6.  التدمير الشّامل لغزة: هدف غير معلن للحرب الصهيونية على غزة، لكن يبدو إلى الآن أنه الهدف الوحيد الذي تحقق، وهو يشكل تحدياً سياسياً عميقاً للمقاومة في القطاع، وفي المنطقة ككل، وذا بعد عملي يتعلق بكيفية إعادة الإعمار وتثبيت أهل غزة في أرضهم لسنوات قادمة ومواجهة مشروع الاختراق الأميركي عند الميناء.

وكذلك لهذا التحدي بعد إستراتيجي يتعلق بالردع المقابل لاستخدام سلاح التدمير الشامل الموزع زمانياً ومكانياً كبديل من التدمير الآني الدفعي.

استنتاج: أسست المقاومة خلال هذه المرحلة عتبة جديدة على مستوى الصراع لم تصل إليها القوى التحررية منذ عام 1948. وبذلك، هي أمام استحقاق كبير لناحية استثمار هذه المنجزات والترقي بالاستناد إلى هذه العتبة الجديدة، وكذلك لناحية حجم التحديات ومستوى المواجهة غير المسبوق الناتج من ارتفاع درجة المخاطر على الوجود الصهيوني في فلسطين.

وبناءً على هذه القراءة، التي ستحتاج بعد أشهر قليلة إلى تحديث، وربما إعادة نظر جذرية، فإن المقاومة بفعل هذه الروح المغامرة والصمود التاريخي تمكنت من التأسيس لمرحلة المواجهة الحاسمة، بغض النظر عن شكلها وظروفها وكيفيتها، من دون أن نحصر الحاجات التأسيسية لتلك المرحلة الفاصلة بما تحقق حتى الآن، فربما نحتاج إلى نقلة وسيطة بين المرحلة الآنية ومرحلة الحسم.