المشرق العربي وسبل المواجهة
من لبنان إلى سوريا فالعراق ومصر، دول تعاني في الفترة الأخيرة، وتتشابه إلى حد كبير في مجموعة المآزق التي تواجهها.
تعيش منطقة المشرق العربي وشمال أفريقيا مرحلة صعبة بالغة الدقة على كل الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ اجتمعت مجموعة عوامل بعضها داخلي والآخر خارجي، حسب كل دولة على حدة، ساهمت في تسعير الأزمات المتتالية التي تعصف بها من كل حدب وصوب.
يتشابه لبنان والعراق من حيث سطوة الفساد وسوء استغلال السلطة إذ ظهرت مصطلحات بداية بعد الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) تحذّر من " لبننة" العراق بعد الغزو الأميركي له عام 2003 مروراً بحربَي الخليج الأولى والثانية، وما استتبع ذلك من حصار غربي خانق بعد 1991 وسياسة التجويع وما سمّي وقتها "النفط مقابل الغذاء"، ومن ثم شاع مصطلح آخر بعد 2005 والتحولات الكبيرة التي طرأت على الساحة اللبنانية بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري تحذّر من "عرقنة " لبنان بعدما دخلت بلاد الرّافدين في معمعة الإرهاب والصراعات المذهبية فكانت نسخة منقّحة من الواقع اللبناني البغيض الذي ظهر في أسوأ صوره منذ الـ1975 بصراعات ذات طابع أيديولوجي ثم طائفي فمذهبي.
أما في سوريا التي ترزح تحت وطأة حصار اقتصادي شديد تحت عنوان قانون " قيصر" وسيطرة الأميركي وحلفائه شرقي الفرات على مصادر الثروة، فتبدو مشتتة بين مطرقة هذه العقوبات وسندان الصراعات الإقليمية والدولية التي جعلت منها ملعباً كبيراً تسجل فيه بعض الدول مكسباً بالنقاط على المشروع المقابل، والذي يمكن أن يتقاطع في مناطق أخرى أو في بؤر توتر مختلفة، وهو ما يحصل بين الأتراك وكل من روسيا وإيران والولايات المتحدة.
إلى لبنان حيث يمضي اللبنانيون صيفهم الحار والرطب على إيقاع ثبات صرف الليرة أمام الدولار نحو(89000) منذ ستة أشهر تقريباً، وتحت وطأة المشكلات الأمنية والتفلّت الحاصل في أكثر من مكان، سواء كان عملاً مدبراً أو عملاً عارضاً يستثمر سياسياً وإعلامياً لخدمة أجندات محددة.
لذلك، على هذه الدول أن تجنح إلى عدة حلول على المستويين الآني والإستراتيجي لمحاولة الخروج من عنق الزجاجة:
أولاً: بالنسبة إلى لبنان، استعجال القيام بإصلاحات بداية عبر موازنة 2024، وتغيير النظام الضريبي، رغم إدراك الصعوبات لتضارب مصالح القوى السياسية، والانطلاق بخطة تعاف اقتصادية برؤية إستراتيجية، تبدأ من الحكومة حيث تقوم بشقها التنفيذي إلى مجلس النواب وشقه التشريعي إلى المصارف وشقه الخاص به.
ثانياً: الوقوف سداً منيعاً أمام كل أبواق الفتنة والتحريض الطائفي والمذهبي، سواء جاءت من أفراد أو مجموعات سياسية أو مؤسسات إعلامية من خلال تفعيل دور وزارة الإعلام والمجلس الوطني للإعلام والخروج من دائرة الإشراف والرقابة الشكلية إلى المتابعة التنفيذية الإجرائية الرادعة.
ثالثاً: بالنسبة إلى العراق، لا يمكن أن يبقى وطن الحضارة الزاخرة حبيس شد حبال صامت مع بعض الدول التي تحاول خنقه مائياً من خلال السيطرة على منابع الأنهار والتحكم بحصة العراق من هذا النهر أو ذاك، وما يستتبع ذلك من تأثر نمط المعيشة وضرب عوامل بيئية راسخة، لذلك فالمطلوب مقاربة مختلفة بدل سياسة الحياء السياسي والمسايرة التي لا تنفع.
رابعاً: إلى سوريا وضرورة تفعيل أدوات المواجهة وعلى كل المستويات، وخاصة بعد تحريك بعض الخلايا الإرهابية وجلبة التحشيد العسكري الظاهري للأميركيين شرقي الفرات أو حركة تنقل مجموعات ضمن مثلث الحدود السورية-العراقية-الأردنية، رغم يقيني أننا في سوريا أو حتى في المنطقة يستمر الأميركيون في سياسة لا حروب كبيرة ولا تسويات كبيرة واستمرار المحافظة على الستاتيكو القائم.
خامساً: مقاربة جديدة ومختلفة للإعلام، وخاصة في دول المشرق، تستخدم فيها أدوات جديدة وأساليب ونمطيات تعاون أوثق تفتح المجال أمام مقاربات مختلفة، بعيداً من النمطيات السائدة والبيروقراطيات الهزيلة التي لم تغن ولم تسمن من جوع.
سادساً: السعي للقيام بسوق عربية مشرقية (رغم صعوبة ذلك) تنطلق من مقومات كل بلد للوصول إلى ما يشبه تكامل اقتصادي عن طريق تفعيل خطة نقل بري تربط العراق بمرفأي المتوسط (بيروت وبانياس) وسكك حديد، ولكن هذا طبعاً يحتاج إلى أرضية استقرار أمني وسياسي وزوال الاحتلال الأميركي.
سابعاً: دخول بعض الدول ذات الثقل الإقليمي كالسعودية وإيران والإمارات إلى "بريكس" ابتداء من 2024 يمكن أن يشكل رافعة اقتصادية لدولنا، إن عادت حرارة العلاقات أو فتح بعضها خزائنه لإعادة الإعمار في سوريا أو لمساعدة لبنان عبر صندوق وطني يدار عبر إحدى مؤسسات الجامعة العربية.
ثامناً: يمكن أن تلعب مصر دوراً كبيراً في محاولة رأب الصدع الحاصل وإعادة توثيق العلاقات انطلاقاً من دورها التاريخي، إذ تستطيع أن تكمل ما تم نقاشه وطرحه أيضاً عن الترابط الاقتصادي مع الأردن والعراق، وما يمكن أن يحمل من إيجابيات لأرض الفراعنة ولكل من ينضوي تحت لوائه.
بناء على ما تقدم، لا تبنى المجتمعات وتتكامل إلا بوعيها لنقاط قوتها والإيجابيات الموجودة على أساس التنوع والانفتاح. أما على صعيد الحكومات، فلا تبنى الأوطان إلا من خلال تفعيل العمل الاقتصادي مع حلقة الربط الإقليمية المجاورة وفق أجندات وطنية تسهم في حل المعضلات وإيجاد أرضية عمل مشتركة تعزز التعاون والتنسيق والترابط. فهل سيحمل قادم الأيام صحوة سياسية لهذه الدول؟ أم أن بعض الأيدي الخفية سيفاقم من أزماتها؟ قادم الأيام خير دليل.