المحكمة الجنائية الدولية أمام الامتحان... فهل ستُكرم أم تُهان؟

 الموقف الفرنسي يلتقي مع الموقفَيْن الألماني والبريطاني من جهة العتب على الجنائية الدولية وقراراتها، في تلميحٍ واضحٍ إلى أن الغرب يقف إلى جانب "إسرائيل" في هذا الموضوع.

  • لا يترك الغرب مناسبة إلا ويؤكد من خلالها أنّ الجنائية لم تنشأ إلا لمحاكمة الآخر المختلف عنه.
    لا يترك الغرب مناسبة إلا ويؤكد من خلالها أنّ الجنائية لم تنشأ إلا لمحاكمة الآخر المختلف عنه.

"عند الامتحان، يُكرم المرء أو يُهان"، انسجاماً مع هذا القول، وضع المدّعي العام كريم خان المحكمة الجنائية الدولية من خلال سلسلة القرارات التي أصدرها بحقّ مسؤولي الحرب في غزة، إذ أصدر الاثنين 20 أيار/مايو الجاري، قراراً باعتقال كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت، اللذين حمّلهما المسؤولية عن الجرائم ضدّ الإنسانية في غزة، مستنداً إلى أدلة خلصت إلى أن مسؤولين إسرائيليين حرموا بشكل ممنهج فلسطينيين من أساسيات الحياة، وأن نتنياهو وغالانت متواطئان في التسبّب بمعاناة المدنيين في غزة وتجويعهم. 

لم يتوقف ادّعاء خان على المسؤولين في "إسرائيل"، بل أضاف أن هناك أسباباً معقولة للاعتقاد أن كلًا من زعيم المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة يحيى السنوار، ومحمد دياب إبراهيم المصري المعروف بمحمد الضيف، القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري، ورئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، مسؤولون عن ارتكاب جرائم حرب وضدّ الإنسانية في "إسرائيل".

يدرك خان سلسلة التحديات التي سيواجهها، إذ إن الفريقين اللذين وجّهت إليهما التّهم يرفضان قرارات الجنائية، ويعدّانها ظالمة بحق كل منهما.

فحركة حماس عبّرت على لسان القيادي سامي أبو زهر أن قرار المحكمة اعتقال 3 من قادتها هو "مساواة بين الجلاد والضحية"؛ في دلالة واضحة على رفض الحركة تسليم مسؤوليها المطلوبين، باعتبارهم من رموز المقاومة، وما قاموا به في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، هو حق تكفله القوانين الدولية وأتى في شرعة حقوق الإنسان تحت بند حق الشعوب في تحرير أرضها. 

في المقلب الإسرائيلي، وجّه نتنياهو تحذيراً للمدّعي العام بعد طلبه رسمياً إصدار مذكرة لاعتقاله ووزير دفاعه، كما دعت "تل أبيب" ما وصفتها بدول العالم المتحضر إلى رفض هذه الخطوة بشكل واضح. لم يتوقف الأمر عند الرفض الإسرائيلي، بل عبّرت إدارة جو بايدن عن التحضير لقيامها بـ"رد مناسب" على المدعي وقراراته، بحسب ما ذكر وزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن.

في إطار "الردّ المناسب" الأميركي المنتظر بعد اجتماع الكونغرس، تحدّث خان عن تهديدات في مقابلة أجراها مع شبكة "سي أن أن" الأميركية قائلاً: "تحدّث معي بعض الساسة وكانوا صريحين للغاية وقالوا هذه المحكمة بُنيت من أجل أفريقيا ومن أجل السفاحين مثل بوتين". وأضاف "نحن لا ننظر إلى الأمر بهذه الطريقة، فهذه المحكمة هي إرث نورمبرغ". 

هذه المحكمة هي إدانة للجانب المؤسف من الإنسانية، ويجب أن تكون انتصاراً للقانون على السلطة والقوة الغاشمة". هذا وكان خان قد قدّم طلبات إلى المحكمة لاستصدار أوامر اعتقال بتهم جرائم حرب، وإبادة ضدّ الإنسانية، في ما يتعلّق بالحرب في غزة وهجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

المحكمة الجنائية الدولية تأسّست سنة 2002 كأول محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم إبادة جماعية وجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم حرب واعتداء. وتقتصر قدرة المحكمة على النظر في الجرائم المرتكبة بعد 1 تموز 2002 تاريخ إنشائها بعدما دخل قانون روما للمحكمة الجنائية الدولية حيّز التنفيذ.

الأهم من المهمات المنوطة بعمل الجنائية، هو أنها تعدّ واحدة من المؤسسات الدولية التي تشكّل مدماكاً رئيسياً للنظام العالمي القائم، والذي يعمل الغرب على تجنّب سقوطه، في حين تسعى دول أخرى في عداوة مع الغرب لطرح مبادرة جديدة لإحداث تغييرٍ فيه وقلبه نحو نظام متعدّد الأقطاب. 

بصرف النظر عن القرار وردود الفعل عليه، فقد استطاع أن يجمع بين طرفَي النزاع في قطاع غزة على رفض محتواه. هذا ما بات يثير حفيظة البعض في تساؤلاته حول تمادي الجنائية الدولية، وهل وضعت مستقبلها على المحك؟

ليست المرة الأولى التي تصدر المحكمة قرارات جلب بحقّ مسؤولين، بل إن هذا المبدأ القانوني استخدم في حالة روسيا، التي ليست طرفاً في نظام روما.

ففي عام 2022، دعت مجموعة من 39 دولة، بما في ذلك فرنسا وألمانيا، والمملكة المتحدة، الجنائية الدولية إلى التحقيق في الغزو الروسي لأوكرانيا. وأدّى ذلك إلى إصدار المحكمة مذكرة توقيف ضد بوتين لارتكابه جرائم حربٍ على الأراضي الأوكرانية، وهي خطوة أشاد بها الرئيس بايدن.

ازدواجية في الأحكام عند الأميركي الذي دان القرارات بحقّ المسؤولين الإسرائيليين فيما باركها في حالة روسيا. 

هذا ما يشكل تحدياً جدياً لهذه المؤسسة الدولية ذات الطابع القضائي، والتي تعدّ مدماك هذا النظام العالمي القائم، الذي يعمل كل من الصيني والروسي على استبداله بنظامٍ آخر يرتكز على أقطاب متعددة.

لا تتوقف المهمة الروسية – الصينية عند التغيير في الجانب الاقتصادي بل حتى في القرارات المرتبطة بتغيير المؤسسات الفاعلة على الساحة الدولية.

على رأس هذه المؤسسات محكمة العدل الدولية، إذ كان واضحاً خان في قوله إن الغرب يريدها بمنزلة قوة ضغط يستخدمها بحق الدول النامية التي تعصي قراراته، وتوجه أحكامها إلى زعماء العالم الذين يقفون عائقاً أمام أطماعهم ونفوذهم في العالم.

لا يترك الغرب مناسبة إلا ويؤكد من خلالها أنّ الجنائية لم تنشأ إلا لمحاكمة الآخر المختلف عنه. فما صرّح به وزير الخارجية الفرنسي، الثلاثاء 22 أيار/مايو الجاري هو دليل بذاته، فبالنسبة إليه إن "الطلبات المتزامنة" للمدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرات توقيف بحق قادة في "إسرائيل" وحماس يجب ألا تكون على مبدأ التساوي بين هذه الحركة و "الدولة" العبرية.

 الموقف الفرنسي يلتقي مع الموقفَيْن الألماني والبريطاني من جهة العتب على الجنائية الدولية وقراراتها، في تلميحٍ واضحٍ إلى أن الغرب يقف إلى جانب "إسرائيل" في هذا الموضوع.

يقوم خان بواجباته كقاضٍ رفعت إليه قضية إنسانية تحمل بصمات "دولة" عبرية ترتكب جرائم العصر بحق شعب أعزل، ولكنّه استطاع أن يضع مصداقية الدول الغربية ونظامها العالمي المهيمن على المحك أمام رأي عام بات يراقب من يحاسَب. فهل ستُكرم الجنائية الدولية رغم أن التوجه الغربي هو لرفض قرارات خان وعدم الأخذ بها أم ستهان على يدهم؟ ما سيضع المؤسسات الدولية في خانة التشكيك في أدائها وأعمالها، الأمر الذي سيساعد طالبي تغيير النظام العالمي في الانضمام إلى صفوف دولٍ باتت غير مقتنعة في هيكلية هذا النظام ولا في أداء مؤسساته.