الأسد يقود حركة تصحيحية عربية
"التعدّدية القطبية" التي بدأت ترسم ملامحها على صعيد النظام الدولي تنعكس على "تعددية إقليمية" بدأت ترسم ملامحها على صعيد النظام الإقليمي>
في خضمّ ما تشهده الساحة الفلسطينية من تطوّرات ميدانية وسياسية، وفي أوج التصعيد الميداني الذي صرّح به الناطق الرسمي للقوات المسلحة اليمنية وإعلانه الدخول في المرحلة الرابعة من الإسناد، والتي يرافقها تصعيد على الجبهتين الشمالية والعراقية، في الأثناء تسير جامعة الدول العربية بخطى ثابتة ببطئها وواضحة في عدم مبالاتها، وراسخة بصمتها أمام سيل الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني الذي أيقظ ضمائر العالم أجمع وبقي الضمير العربي ضميراً غائباً تقديره "هو".
وفي خضمّ هذا التحرّك العربي الهادئ تنعقد القمة العربية في 16 مايو/أيار الحالي في العاصمة البحرينية المنامة بدورتها العادية الثالثة والثلاثين (وليست الاستثنائية – فلا حدث استثنائياً هنا – وماذا يعني أن يباد الشعب الفلسطيني بالنسبة لمعظم الحكّام العرب طالما أنّهم بخير!)..
ويبدو أننا مرة أخرى أمام قصة النبي يوسف وأخوته الذين رموه في غيابات الجبّ غيرة منه على أبيهم يعقوب، ويبدو أن هذه القصة لم يفهم منها بعض الحكّام العرب إن لم نقل معظمهم سوى بدايتها، فرموا أخوهم السوري وقبله الليبي والعراقي والفلسطيني واليمني من دون أن يعوا بأنّ من رموه بات عزيزاً بقدرة العزيز المقتدر.
وفي العودة إلى انعقاد القمة العربية وبعيداً عن العتب والشجن، يبدو واضحاً أن "التعدّدية القطبية" التي بدأت ترسم ملامحها على صعيد النظام الدولي تنعكس على "تعددية إقليمية" بدأت ترسم ملامحها على صعيد النظام الإقليمي، وبما أن القوة هي القول الفصل وأن التاريخ يسجّله الأقوياء والقانون يضعه المنتصرون، فسيكون في هذه القمة تباين في توازن الدول "العربية" استناداً إلى ما تملكه كل دولة من قوة في الميدان والسياسة.
ونعود هنا إلى نداء كان قد وجّهه الرئيس السوري بشار الأسد في قمة جدّة عام 2023 بالقول: "نحن اليوم أمام فرصة تبدّل الوضع الدولي الذي يتبدّى بعالم متعدد الأقطاب، هي فرصة تاريخية لإعادة ترتيب شؤوننا بأقل قدر من التدخّل الأجنبي، وهو ما يتطلّب إعادة تموضعنا في هذا العالم الذي يتكوّن اليوم كي نكون جزءاً فاعلاً فيه. هي فرصة لترسيخ ثقافتنا في مواجهة الذوبان المقبل من الليبرالية الحديثة التي تستهدف الانتماءات الفطرية للإنسان وتجرّده من أخلاقه وهويّته".
وأشار حينها الرئيس الأسد إلى أنّ "العناوين كثيرة لا تتسع لها كلمات ولا تكفيها قمم.. لا تبدأ عند جرائم الكيان الصهيوني المنبوذ عربياً بحقّ الشعب الفلسطيني المقاوم، ولا تنتهي عند خطر الفكر العثماني التوسّعي المطعّم بنكهة إخوانية منحرفة، ولا تنفصل عن تحدّي التنمية كأولوية قصوى لمجتمعاتنا النامية. هنا يأتي دور جامعة الدول العربية باعتبارها المنصة الطبيعية لمناقشة القضايا المختلفة ومعالجتها، شرط تطوير منظومة عملها عبر مراجعة الميثاق والنظام الداخلي وتطوير آلياتها كي تتماشى مع العصر".
ما يعني أنه حينها وجّه نداءً "أخيراً" ودقّ ناقوس الخطر المحدق بالجامعة، وضرورة معالجة نظامها وآلية عملها لتحاكي فعلياً القضايا المختلفة، وفعلياً طفت إلى السطح بشكل فاضح جرائم الكيان الصهيوني حتى بات مداناً عالمياً بجرائم حرب وإبادة جماعية وتطهير عرقي، أمام صمت عربي فاضح ومحاولة "عثمانية" للاصطياد بالماء العكر وتمرير خطه الوهمي "طريق التنمية" للاحتيال على الحال العربي المذري..
والسؤال هل سيحضر الرئيس بشار الأسد هذه القمة؟ وما الذي سينتج عنها وهو من أعطى لها "قيمتها" بحضوره كرئيس للجمهورية العربية السورية المنتصرة على الحرب الضروس التي اشترك فيها العربي والأعجمي بالمال والسلاح والمعلومات، حتى أننا لم نجد اليوم أيّاً من "ثيران" الثورة قد وجّه صاروخاً واحداً تجاه الكيان الصهيوني ولا حتى مموّليه أو داعميه..
والجواب، نعم سيحضر الرئيس السوري هذه القمة رافعاً شعار النصر وليس النصر السوري فحسب، بل نصر محور المقاومة برمّته ولطالما كانت سوريا ظهر المقاومة وسندها والداعم الرئيسي لها، ولطالما كانت فلسطين كلّ فلسطين من نهرها إلى بحرها في صلب العقيدة السورية، واليوم تحوّلت كلّ من غزة واليمن إلى قوة عالمية فرضت نفسها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، وليس إلى قوة إقليمية فقط، فكيف لا يحضر الأسد ويحاضر أولئك "العرب" بهذا الإنجاز الذي لم يتسلل إليه فكر العمالة ولا التطبيع، ولم يرضخ للهزيمة فبات عزيزاً على العالم..
نعم سيحضر الأسد فاتحاً الباب أمام من يريد الدخول في حزب الحقّ الفلسطيني المنتصر، أو البقاء حيث المهزومون، طالما أن العالم برمّته بات أمام حزبين (الحقّ الفلسطيني والباطل الإسرائيلي)، فالاصطفافات توضّحت، ومعالم النظام الجديد قد ترسّخت، والفرص قد استُنفدت، وما كان من تطبيع لتحسين الحال بات من المحال أمام إرادة الشعوب الحرّة، ولا أحد يريد أن تكون بلاده "مرتعاً" للموساد بداية من الإمارات وليس انتهاء بالبحرين مقرّ انعقاد القمة.
وكما أدار "التركي" الدفة باتجاه تصفير المشاكل وركوب موجة المنتصرين بقطع علاقاته التجارية مع "إسرائيل" شكلياً، سيدير الإماراتي والمصري وغيرهما الدفة بتصفير المشاكل وركوب موجة المنتصرين بقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع "إسرائيل" إنما فعلياً وليس شكلياً، فالحرب وضعت أوزارها وكذلك السلم ومن يريد السلم فليستعدّ للحرب، وإن أرادت "إسرائيل" السلام فلتكن الأرض "كلّ الأرض الفلسطينية واللبنانية والسورية والمصرية" مقابل السلام وهذا ما سيكون..
إنها "حركة تصحيحية" يقودها الرئيس السوري بشار الأسد ابن أبيه ولكن ليس داخل سوريا فحسب، بل داخل كل الأرض العربية، ولو لم تنتصر سوريا في حربها لما انتصرت المقاومة في غزة ولبنان واليمن، ولكانت كلّ الأرض العربية تحت "سلطة الاحتلال"، وبانتصار سوريا انتعشت حركات المقاومة واستكملت طريق التحرير.
ولمن يسأل عن تمثيل القوات المسلحة اليمنية والمقاومة العراقية واللبنانية في (جامعة الدول العربية غير الفاعلة) باعتبار أن الحكومة اليمنية الحاضرة في القمة ليست صاحبة خيار المقاومة اليمنية، ولا صاحبة قرار جبهة الإسناد اليمنية في البحر الأحمر وباب المندب والبحر الأبيض المتوسط وصولاً إلى المحيط الهندي.
والأمر سيان بالنسبة للحكومة العراقية وكذلك اللبنانية، فالمقاومة في البلدين هي من أعلنت فتح جبهة الإسناد لغزة وليس حكوماتهما.. وهنا لا نقول بوجود (دولة ضمن دولة) إنما نقول بإرادة شعب مقاوم لم يرضخ ولم يقبل باستباحة الدم الفلسطيني من دون حراك يؤازره ويسانده لتعلو كلمته في كلّ المنابر، ولتكون الكلمة السورية مساندة لهم رافعة رايتهم في "منبر الجامعة العربية" كما ساندتهم في الميدان وستبقى.
وكما قال الأسد طالما أن الوضع لم يتغيّر والحقوق لم تعد لا للفلسطينيين ولا للسوريين فلا شيء يبدّل موقفنا أو يزيحه مقدار شعرة، وكلّ ما يمكن لنا أن نقدّمه للفلسطينيين ولأيّ مقاوم ضد الكيان الصهيوني سنقوم به من دون أي تردّد، وموقفنا من المقاومة وتموضعنا بالنسبة لها لن يتبدّل بل يزداد رسوخاً.. الموقف ثابت والتموضع راسخ ومن يريد الثبات في خيار المقاومة فالباب مفتوح وهذا ما سيكون عنواناً لقمة المنامة.