استفتاءات الانضمام إلى روسيا الاتحادية وفقاً للقانون الدولي
قد يقول قائل إن الاستفتاءات التي نظمت قبل أيام في تلك الأقاليم لم تجر بحرية؛ بسبب سيطرة القوات الروسية عليها. وهو قول مردود قانوناً.
قامت السلطات المسؤولة عن مناطق لوغانتسك ودونيتسك وخيرسون وزاباروجيا بإجراء استفتاءات للانضمام إلى روسيا الاتحادية والاندماج فيها. وقد أفصحت نتائج الاستفتاءات عن اتجاه إرادة سكان الأقاليم الأربعة بنسب كبيرة جداً نحو الانضمام إلى روسيا والانصهار بها كجزء من أراضيها. وبالفعل، جرى استكمال إجراءات الانضمام وأضحت تلك الأراضي خاضعة للسيادة الروسية.
بصرف النظر عن حدود تلك المناطق، وخضوع أجزاء محدودة منها للسيطرة الأوكرانية، وكيفية التعامل الروسي مستقبلاً مع ذلك الوضع عسكرياً وسياسياً، فإن الأمر الأكثر إثارة للتساؤل والاختلاف يتعلق بشرعية تلك الاستفتاءات وما تلاها من تدابير استكمالاً لاندماج تلك الأقاليم في روسيا الاتحادية، وبخاصة أن دول الناتو؛ وفي مقدمتها الولايات المتحدة، تعدّ الاستفتاءات والإجراءات الخاصة بالانضمام باطلة، وفقاً للقانون الدولي، وترفض الاعتراف بها.
يثير هذا الموضوع مسألتين أساسيتين في القانون الدولي وهما: هل تعد تلك الاستفتاءات وما أعقبها من إجراءات استكمالاً لاندماج الأقاليم الأربعة في روسيا غير شرعية، كما يدّعي المعسكر الغربي؟ وما هو تأثير عدم اعتراف الدول بالوضع الجديد الناشئ من جراء هذا الاندماج، وتعديل حدود روسيا في ضوئه، في شرعية هذا الواقع الجديد؟
في ما يتعلق بالسؤال الأول الخاص بشرعية الاستفتاءات والانضمام إلى روسيا الاتحادية، فالأمر ليس على الصورة التي يروج لها المعسكر الغربي، إذ إن القانون الدولي يعترف بحق الشعوب في تقرير المصير، وهو حق ثابت في ميثاق الأمم المتحدة، ومكرّس في عدد من المعاهدات الدولية، في مقدمتها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. في أي حال، يعد الحق في تقرير المصير، وفقاً لاجتهادات قضائية عديدة، من القواعد الآمرة في القانون الدولي التي لا يجوز الاتفاق على خلافها، ويرتب التزامات عمومية حجة على الكافة. ويلقي، وفقاً لمحكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري الخاص بالجدار الفاصل، مسؤولية على سائر الدول لتمكين الشعوب المضطهدة أو المحتلة من ممارسته.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت في عام 1960 الإعلان الخاص بمنح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، وأشارت فيه إلى الصلة العضوية بين الحق في تقرير المصير وحقوق الإنسان، وأكدت أن للشعوب بموجب هذا الحق "أن تحدد بحرية مركزها السياسي، وتسعى بحرية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي". والشعوب التي تنتفع من هذا الحق بموجب القانون الدولي هي الشعوب الخاضعة للاستعمار، أو لاحتلال أجنبي أو الواقعة تحت نير نظم حكم عنصرية.
وبتطبيق ما سبق على الأقاليم الأربعة التي انضمت إلى روسيا الاتحادية، فإنها كانت تخضع لنظام حكم عنصري في الفترة السابقة للاستفتاءات، وفي إبان وقوعها تحت السيادة الأوكرانية. فلم يعد خافياً على أحد أن سكان تلك الأقاليم، بحكم أصولهم الروسية، تعرضوا من قبل نظام الحكم الأوكراني وجماعات النازية الجديدة المتحالفة معه لشتى صنوف الاضطهاد، والقتل والجرائم الدولية. وقد عبّر أولئك السكان منذ العام 2014 عن رغبتهم بالانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا الاتحادية.
قد يقول قائل إن الاستفتاءات التي نظمت قبل أيام في تلك الأقاليم لم تجر بحرية؛ بسبب سيطرة القوات الروسية عليها. وهو قول مردود قانوناً؛ لأن سكان تلك المناطق أبدوا رغبتهم في الانضمام إلى روسيا من خلال استفتاءات سابقة جرت في العام 2014.
علاوة على أن التدخل العسكري الروسي جاء بطلب من السلطات المختصة في الدونباس، وبعد إبرام اتفاقيات للتعاون مع روسيا تشمل الدفاع عن النفس. فعملية انضمام الأقاليم الأربعة على أساس الحق في تقرير المصير جرت خارج تصفية الاستعمار. وهنا، يطرح تساؤل بشأن التنازع بين الانفصال على أساس تقرير المصير وبين سيادة أراضي الدولة الأوكرانية ووحدتها.
من حيث المبدأ، يسعى القانون الدولي إلى حماية وحدة أراضي الدولة وسيادتها عليها، لكنه في المقابل، لا يترك تلك السيادة سيفاً مسلطاً على رقاب الشعوب المضطهدة من قبل نظم فصل عنصرية. فإذا كان الحفاظ على السيادة الإقليمية للدولة من القيم المرجعية للقانون الدولي إلا أنه لا يجعل منها غاية بذاتها ولذاتها، فمصالح الشعوب وحقوقها الأساسية ليست أقل أهمية منها في القانون الدولي المعاصر. أي إن السيادة الإقليمية، ووحدة أراضي الدولة وسلامتها الإقليمية باتت اليوم قرينة مفترضة قابلة لإثبات العكس، فيجوز إهدارها كحل نهائي عندما يثبت أن الدولة الإقليمية تمعن في انتهاك الحقوق الأساسية لمجموعة من سكانها، وبالتحديد عندما تكون تلك الجماعة متمركزة في إقليم معين داخل الدولة لا متناثرة في سائر أراضي تلك الدولة وأقاليمها.
فإذا كان القانون الدولي لا يحبذ الانفصال ولا يستسيغه، لكنه في المقابل، لا يمنعه كملجأ وملاذ أخير للشعوب المضطهدة. الواقع أن سكان الأقاليم الأربعة ذوي الأصول الروسية، لم يعد بمقدورهم الاستمرار في العيش تحت كنف نظام حكم تمادى في اضطهادهم وإنكار حقوقهم الأساسية. لذلك، فإن انفصالهم على أساس حق تقرير المصير وانضمامهم إلى روسيا مشروع بموجب القانون الدولي المعاصر. وربما تلك الاعتبارات هي التي حدت بمحكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري المتعلق بكوسوفو إلى القول إنه ليس هناك في القانون الدولي ما يمنع إعلان الاستقلال بصورة مطلقة.
في أي حال، إن مشكلة الانفصال ليست مشكلة قانونية محضة، فهي تتمثل في استحالة أو تعذر التعايش بين إدارة مجموعة من السكان والمصالح الأساسية للدولة المعنية. ويبدو من الممارسة الدولية أن القدرة على إثبات الذات وفرض أمر واقع، لا الحلول القانونية، هي العامل الحاسم لمصلحة طرف منهما دون الآخر. وقد كان للقوة دور حاسم في الماضي في عدد من حالات الانفصال أبرزها انفصال الشعب البنغالي في باكستان الشرقية عن باكستان الغربية في عام 1971 الذي أفضى إلى ولادة دولة بنغلادش، بدعم كبير من الهند. ومن الأمثلة الحديثة كذلك، تيمور الشرقية والبوسنة والهرسك. ولا ننسى أن القدرة على إثبات الذات من خلال الدعم الخارجي، والقوة لعبتا كذلك دوراً كبيراً بالنسبة إلى انفصال جنوب السودان الذي أيدته الولايات المتحدة والدول الغربية.
صفوة القول إزاء انفصال الأقاليم الأربعة عن أوكرانيا وانضمامها إلى روسيا الاتحادية إنه، بالرغم مما يحيط بموضوع الانفصال من جدل في القانون الدولي، فإن هذا الانفصال مشروع، وهو محكوم في الغالب باعتبارات الواقع، وليس بمقتضيات القانون وحدها. وهو حل نهائي لم يكن أمام تلك الأقاليم الأربعة غيره لتتخلص من اضطهاد نظام الحكم الأوكراني لها. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن اللجنة الأفريقية لحقوق الشعوب تبنت هذه المقاربة القانونية في قضية شعوب الكاتانغيز ضد زائير في العام 1995.
أما في ما يخص موضوع الاعتراف أو عدم الاعتراف بالاستفتاءات وما أعقبها من إجراءات تتعلق بانضمام الأقاليم الأربعة إلى روسيا الاتحادية، فإن القانون الدولي لا يلزم الدول بالاعتراف بالوقائع الدولية الجديدة، وإن كان يلزمها بعدم الاعتراف بأوضاع غير مشروعة نشأت نتيجة انتهاك قواعد آمرة مثل حق الشعوب في تقرير المصير، وتحريم استخدام القوة. وكما أوضحنا، فإن تبدل السيادة على الأقاليم الأربعة المذكورة جرى وفق القانون الدولي وعلى أساس حق الشعوب في تقرير المصير. أي إن هذه الحالة ليست مشمولة بالالتزام بعدم الاعتراف. وعدم اعتراف الدول بهذا الواقع الجديد لا يعني عدم مشروعيته، بل هذا يعني أنها لا تقر بأنه يرتب آثاراً قانونية تجاهها، وأنه ليس حجة بالنسبة إليها.
لكن، يجب التأكيد أن الاعتراف ليس هو الذي يضفي الصفة القانونية على الوضع الجديد الذي نشأ نتيجة الاستفتاءات، إذ إن الواقع هنا يفرض نفسه على القانون، خصوصاً أنه واقع جديد يستند إلى المشروعية والشرعية في آن معاً؛ وهي شرعية تقوم على أسناد قانونية رصينة.
وتجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى أن أربع دول من الدول الأعضاء في مجلس الأمن (الصين، الهند، البرازيل والغابون) لم تؤيد مشروع قرار عرض على مجلس الأمن لإدانة الاستفتاءات التي جرت في الأقاليم الأربعة وانضمامها إلى روسيا، وقد استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) ضده. الأمر الذي يدل على أن عدم مشروعية تلك الاستفتاءات ليست محل توافق أو إجماع في المجتمع الدولي؛ وربما يكون السبب وراء ذلك الموقف إيمان الدول بأولوية حق تقرير المصير على وحدة أراضي الدولة وسلامتها الإقليمية في الحالات التي تقوم الدولة المعنية بالتنكيل بمجموعة من سكانها وإخضاعها للاضطهاد وتجريدها من حقوقها الأساسية.
لا شك أن هذه الحالة قد تلهم مجموعات من السكان، وبالتحديد المجموعات المتمركزة ضمن إقليم معين داخل الدولة، والتي تخضع لنظم حكم عنصرية، بالمطالبة بالحق في تقرير المصير، وتكوين دولة جديدة أو الانصهار بدولة قائمة. وهو حل استثنائي كما أكدنا سابقاً.