ارتدادات اليوم لانتصار صيني منذ 75 عاماً
مخططات الصهيوأميركية تتعثّر اليوم على خط أوكرانيا – فلسطين - اليمن، ويتبلور الصراع العالمي تدريجياً، وإن تصدّرته روسيا في المجابهة المباشرة، فإن لكل الدول والقوى المنخرطة فيه حصة في الصراع.
في سياق ضرورة بناء توازن عالمي في القرن العشرين بمواجهة صعود الحركة الاستعمارية الغربية، كان لا بدّ من نهوض دول كبيرة قادرة على إقامة هذا التوازن الذي يتيح نوعاً من الحياة الطبيعية في العالم ومجتمعاته.
وفي هذا الإطار، برزت قوتان كبيرتان، روسيا السوفياتية والصين، مع فوارق زمنية تعتبر بسيطة في مسارات التاريخ الطويلة. هاتان القوتان قامتا على أكتاف حركات ثورية، ولكن ما بين ثورتي الصين التحررية الوطنية والثورة البلشفية 1917 التي أثمرت الاتحاد السوفياتي، ثمّة فوارق تجوز معها المقارنة لسبب واحد هو أنهما تعنونتا تحت مسمى واحد: الشيوعية.
أولى الفوارق الجليّة للشيوعيّتين "الروسية" و"الصينية - الماوية" أن الأولى استغرقت أسبوعين فقط لإسقاط الخصم، وهو الحكم القيصري في روسيا، ومن ثمّ متابعة شعار مواجهة الإمبريالية -على مراحل الرأسمالية- وفق نظرية قائد تلك الثورة فلاديمير لينين، فيما استغرقت الثورة الصينية 30 عاماً حتى تمكنت الصين من التحرّر من السيطرة الاستعمارية اليابانية والفرنسية، ولاحقاً الإمبريالية الإميركية، مع ما تكبّدته الصين من أثمان باهظة ونضالات غير مسبوقة.
شعار الثورة البلشفية أثمر بعد الحرب العالمية الثانية ما عُرِف بالحرب الباردة عقب انتصار تحالف هذه الثورة مع الاستعمار الفرنسي-البريطاني في الحرب العالمية الأولى، ومعهما ومع الولايات المتحدة الأميركية، وريثة الاستعمار الفرنسي-البريطاني، في الحرب العالمية الثانية.
هل كان لهذا التحالف في الحربين تأثير في إبقاء المواجهة بين الغرب الإمبريالي، وفق التوصيف السوفياتي-اللينيني، والاتحاد السوفياتي في إطار "البارد"؟ سؤال يحتاج إلى بحث آخر، وقد يجد بعضاً من تفسيراته في ضراوة حرب التحرر الوطنية الصينية، ومن بعدها الفيتنامية والكمبودية من جهة، وفي استمرار المواجهة بأشكال مختلفة وتصاعدها التدريجي بعد انتصار الثورة الصينية.
تصل المجابهة، مع متغيراتها وتبدلاتها، إلى ما نعيشه اليوم من صراع عالمي تصطف فيها الصين وروسيا وحلفاء لهما على الجبهة الشرقية لخط الطول الممتد من أوكرانيا ففلسطين فاليمن، فيما تصطف في الجانب الآخر الإمبريالية العالمية الغربية التي كشف الصراع الأوكراني ومجابهة ما بعد طوفان الأقصى والتصعيد اليمني، أن الجامع الأساس لها هو الحزب الصهيوني العالمي غير المُعلن؛ مُدير اللعبة الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية الأميركية، وعبره بقية الدول الواقعة تحت سيطرته وتأثيره.
عقب انتصار الثورة الصينية، تحوّلت الصين للبناء الذاتي بوتيرة متصاعدة تدريجية، فيما اتجه الاتحاد السوفياتي، عبر صيغة الحرب الباردة، إلى التراجع، بلوغاً للسقوط المدوّي الذي قلّ نظيره في التاريخ، وليس من السّهل الإجابة عن التساؤلات الكثيرة المرافقة لهذا السقوط وخلفياته وأسبابه، وصولاً إلى تساؤل أبعد مدى وأعقد تفسيراً: هل وُلِد الاتحاد السوفياتي لكي يسقط هذا السقوط المدوّي في اللحظة المناسبة؟
يستمد التساؤل مشروعيته مما رافق سهولة صعوده، ثم شكل وسرعة انهياره، إضافة إلى ما تبعه من تطورات على المستوى العالمي، وتحديداً انفتاح العالم على الجحافل الصهيوأميركية للهيمنة التامة على العالم.
ومن خلال هذه المقارنة بين الحركتين الصينية والسوفياتية، يمكننا، في جانب من جوانب صورة الصراع العالمي، إدراك تطورات المرحلة التي وصلنا إليها اليوم، وإن هي إلّا امتداد للمجابهة الجارية خلال القرن العشرين والمتصاعدة بخطورة بالغة مع تقدم سنوات الألفية الثالثة.
إذا أردنا تبسيط الأمور لقراءة خلفية التطورات المتصاعدة، فهي في ألفبائها في الصراع الهائل لثلاثين سنة من حرب التحرر الوطنية الصينية، أي هي حرب حقيقية لا هوادة فيها، دفعت الصين خلالها ما لا يمكن أن يحتسب بشرياً واقتصادياً وعسكرياً. إنه الثمن الحقيقي لعملية التحرر الوطني التي شهدنا مثيلاً له في فيتنام وكمبوديا، ولم يشهدها الاتحاد السوفياتي الذي اختار اتجاه "الحرب الباردة".
وفي مرحلة ما بعد الانتصار، واستمرار المجابهة بالبناء البديل المستقل، تابعت الصين حربها التحررية، وأدركت الصهيوأميركية مخاطر اتجاهات الصين عليها منذ النصف الثاني من القرن العشرين. ومع مطلع الألفية الثالثة، راحت الصهيوأميركية تخطط لمجابهة الصين بشتى السبل.
لم تفلح محاولات عرقلة الصين وكبح جماح تصاعدها وفق رغبة المصالح الصهيوأميركية، وربما للمرة الأولى في التاريخ الحديث، لكن مساعيها استمرت في محاولات تطويق الصين وخلق المشكلات لعرقلة مسارها التصاعدي، ولم تكن محالات الربيع العربي إلا في سياق ترتيب أوضاع الشرق الأوسط تمهيداً للتوجه المباشر نحو الصين، إلّا أن المسار الذي رسمته الصهيوأميركية لتلك الغاية تعثر في الصمود السوري معزّزاً بالتدخل الروسي المباشر، ما حوّل وجهة الصراع نحو روسيا بدلاً من الصين، لكن من دون التخلي عن الخط الأول، أي نحو الصين.
وعندما تصدّرت روسيا عملية الصراع المباشر مع الصهيوأميركية، مفروضاً عليها من قبل عدوها في أوكرانيا، تعقّدت الأمور العالمية، واتخذت أبعاداً مختلفة، منها الاقتصادي والسياسي والتكنولوجي، وتوظفت فيها مختلف الأسلحة، وبرزت أشكال جديدة من الصراع تتجلى في أوكرانيا، لكنّها تتجلى وتتبلور أكثر في المجابهة في المعركة الدائرة شمال فلسطين بين المقاومة بقيادة حزب الله والعدو الصهيوني في فلسطين، وبين الاحتلال ومعركة غزة المقاومة والمستمرة رغم الحصار، بدعم عديد من الدول لقوى المقاومة، وخصوصاً إيران.
مخططات الصهيوأميركية تتعثّر اليوم على خط أوكرانيا – فلسطين - اليمن، ويتبلور الصراع العالمي تدريجياً، وإن تصدّرته روسيا في المجابهة المباشرة، فإن لكل الدول والقوى المنخرطة فيه حصة في الصراع، ولكن يبقى للتصلّب الصيني الذي أثمر انتصار ثورتها أواسط القرن العشرين العامل المركزي الحاسم في ما آل الصراع إليه في الربع الأول من الألفية الثالثة. ولولا انتصار الثورة الصينية في حينها لما ارتسم خط المجابهة الأوكراني- الفلسطيني- اليمني، ولما بدأ العالم ينفتح اليوم على أفق جديد.