"إسرائيل" كما لم تكن من قبل: مقصل جنين أكثر فتكاً
في طريقها لابتلاع الصدمة واحتواء التهديد، وجدت "إسرائيل" نفسها أمام وجوب تغيير تكتيكي يتناسب مع "قواعد اللعبة الجديدة".
صادماً كان للإسرائيلي ما قاساه في جنين، لا لأن تأزّم المشهد غاب عن تقديرات المنظومة الأمنية، بل لأن معركةً سيَفْقِد فيها عناصر "حكم النار" لم تكن حتى أمس ضمن حسابات التهديد، ولأن منسوب التهديد يتجاوز حدود تقويض صورة الردع، وسيكون عليه العمل على إعادة ترتيب ما تَغيّر في قواعد الاشتباك بمساحة خيارات تتشابه في مرارتها.
لم يكن ما جرى في معركة جنين الأخيرة انحرافاً عرضيّاً في مسار إدارة الصراع، بل نتيجة تراكمية ظهرت ملامحها في صفعة الكمين، ليس باعتباره منجزاً لحظوياً بقدر ما هو تهديد ستنسحب مآلاته على المستوى الاستراتيجي، إذ إنَّ تحولاً ميدانياً كهذا لا يمكن أن يتحقّق إلا بفعل تشكل دائرة عمل عسكرية، ثم لا يقع إلا باستكمالها ضمن المعادلة الثلاثية: الأهداف، والوسائل، وطرق العمل، من رصد الهدف إلى إعداد وسائل القتال وتفعيلها بالطرق الأنجع.
استكمال دائرة العمل العسكرية
ستختلف الحسابات في مرحلة ما بعد كمين جنين عن سابقاتها مع انتقال الأداء الميداني للفعل المقاوم من أسلوب الدفاع والترقب إلى أسلوب التفرق التكتيكي الذي يناور ما بين ضبط الفعل بما يتناسب مع حجم التهديد وعدم الكشف عن الإمكانيات والوسائل أو الانجرار إلى مستنقع الاستنزاف، لكن ما الذي جعل من فعل جنين الأخير ضرراً استراتيجياً متناسلاً في عقلية المؤسسة الأمنية الإسرائيلية؟
على نقيض المواجهات السابقة، سلبت جنين هذه المرة العدو عنصر المباغتة، وكان التفوق الميداني لأصحاب الأرض، ثم استكملت حلقات العمل بالتشكل بفعل تطور التكتيك القتالي للمقاومين إلى أسلوب الكمائن والهجوم باعتماد العمليات المباغتة، وأُدخلت العبوات الناسفة الموجهة على خط الخدمة القتالية.
بالنسبة إلى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، لا يكون الإخفاق الاستخباري مشروعاً عندما يتعلق الأمر بعملية تتطلب تجهيزاً وتخطيطاً مسبقاً على غرار ما حصل في جنين، بعكس العمليات الفردية الآنية التي يصعب تتبعها أو رصدها مسبقاً.
لذا، جاءت صدمة المؤسسة الأمنية صاحبة الإطباق المعلوماتي والاستخباري تماماً بما يتناسب مع حجم مفاجآت الميدان، بدءاً من قدرة المقاومين على صنع الكمائن المعقدة إلى اختيار مواقع استراتيجية لزرعها مستفيدين من عامل التفوق الجغرافي، ثم تفجيرها بالتوقيت الدقيق لصناعة مشهد الانتصار.
يُستدلّ من عبوة الموت التي قدرت بـ40 كلغ، بحسب موقع "والا" العبري، على تكامل في عناصر القوة مكّنها من الاستحواذ على أفضلية التفوق الميداني. للاستدراك هنا، لم يكن التطور النوعي فقط في صناعة عبوة سلكية ستفلق قاع المدرعة، وستنتج حرارة تصل إلى 2000 درجة مئوية، ثم ستخترق شظاياها الدرع الخارجي للآلية، ما أخلّ وحده في التوازنات الميدانية المثبتة، بل أيضاً في المعايير التي استند إليها المقاومون لتحديد الهدف.
لم يكن من باب المصادفة أبداً أن تمرّ ناقلة الجند المدرعة "نمر" في موقع الكمين، إلا أنّ ميزاتها جعلت منها الصيد الأدسم، نظراً إلى قدرتها على استيعاب عدد يصل إلى 14 جندياً، وتفوق حصانتها وصلابة هيكلها على الآليات المستخدمة، ثم إنّ أي ضرر سيلحق بها سيشكل خسارة كبيرة بسبب ارتفاع تكلفة تصنيعها أو لتراجع طلبات الشراء عليها بعد انهيار سمعتها الحديدية أمام عبوات صُنّعت محلياً.
يتقاطع ذلك مع تمكّن المقاتلين من زرع العبوات ضمن سلسلة كمائن دقيقة امتلكت حصانة استخباراتية لم تكن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على علم بها، ما دفع المؤسسة العسكرية إلى "إعادة حساب مسار العمليات في منطقة جنين، وفهم كيفية نشأة فجوة استخباراتية وكشف فشل المسح الأرضي لمسار القوات قبل العملية"، وفقاً لمصدر في القيادة الوسطى لـ"جيش" الاحتلال.
اللافت كيف استطاع المقاومون معرفة خط انسحاب قوات "الجيش" ومسار عبور الآليات وتوقيتها، وهذا ما يقود إلى أرضية عمل منظم تتوزع فيها المهام على وحدات، ما بين هندسة وإسناد ورصد وإعلام حربي. وبالعروج إلى الأخيرة، ما وثقته الكاميرات للعملية النوعية بالنظر إلى خطورة الميدان يُحسب لها ضمن التحولات في معركة صناعة الوعي.
إن دلّ ما سبق على شيء، فإنما على ارتقاء الأداء المقاوم إلى مستوى التفكير المنظم، بحيث لم تعد عملية "الاختراق الاستعراضية" لقوات الاحتلال في اقتحامات جنين تمرّ على المقاوم الذي انتقل من موقع المراقب إلى المنفذ والمبادر، وتطورت مناعته حيال السياسات المعتمدة عند العدو، كجرّ المقاومين إلى مربع الاستهداف؛ ففي حين كان الاقتحام لا ينجلي إلا عن شهيدين أو أكثر من الكتيبة نفسها، ينجح المقاومون الآن في إتمام المهمة وتأمين الانسحاب الآمن، وهو ما تؤكده هُوية الإصابات الأخيرة.
إلى هنا، تكون الوسائل القتالية المتمثلة بالعبوات النوعية قد اكتسبت مفاعيل القوة المطلوبة ميدانياً. يضاف إلى ذلك تطور في نوع السلاح المستخدم الذي تمكن من "إصابة إحدى مروحيات الأباتشي بمقذوف في الذيل، فلم تعد إلى قاعدة القوات الجوية، واضطرّت إلى الهبوط في حقل مفتوح"، بحسب قناة "كان".
الثابت في كل ما تقدم هو العبور من مرحلة "صفر خوف" إلى تسجيل نقاط في مرمى العدو. تشير إليه قيادات العدو بـ"منسوب الجرأة"، لكونه السبب وراء "تزايد مستوى العنف في الميدان بعد فقدان المسلحين الخوف، وجرأتهم على تحدي الجيش أكثر من أي وقت"، وفقاً للمحلل العسكري يوآف ليمور.
بناءً على ذلك، فرض المقاومون تغيراً قصرياً في مهمة قوات الاحتلال، فتحولت من مهمة اعتقال إلى إنقاذ، وذهبت الأولوية لإنقاذ القوات ما بين مصاب ومحاصر. اقتضت الأولوية سحب الآليات المهشمة مهما كلّف الثمن، لما من شأنه إحداث خلل في صورة الردع، لكن حتى مهمة الإخلاء تعقّدت واستغرقت 12 ساعة من العمل تحت النار، على الرغم من "جيش" التعزيزات وغطاء سلاح الجو لسحب 7 آليات مهشمة وأكثر من 10 إصابات بفعل كثافة النيران الموجهة تفجيراً واستهدافاً.
وقد شهدت جنين للمرة الأولى اختراق الرصاص زجاج المدرعات، بعدما كان "الطخّ على الجيبات" مشهداً اعتيادياً لا يمسّ حصانة الآليات. "هذه المرة نجح الفلسطينيون"، يعترف القائد السابق للقيادة المركزية غادي شامني، فجنين الآن "وصلت إلى مستوى من القدرة يتطلّب التفكير والتقييم في الجيش الإسرائيلي".
لعلّ ما يعزّز حقيقة تطويق نار جنين على قوات النخبة هو الإفراج عن قرار تدخل سلاح الجو، وإدخاله على خط النار بعد غياب عن الميدان لمدة 20 عاماً. وعلى الرغم من أنَّ مروحية الأباتشي لم تأتِ لإحداث الفرق الذي تحدث عنه رئيس أركان الاحتلال هرتسي هليفي، بل لإبعاد المقاومين كي تتمكن القوات من تنفيذ عملية الإخلاء، فقد اقتصر الاستهداف على المناطق المفتوحة.
ما يحدث في جنين لن يبقى في جنين
يقول ميخائيل ميلشتاين، المختص في السياسات والشؤون الاستراتيجية، إنَّ "ما يحدث في جنين لن يبقى في جنين"، على قاعدة أن الفعل المقاوم إذا نما في جنين، يتحول إلى تهديد متناسل وعمليات على شكل ارتدادات ثأرية، تماماً كما حدث في اليوم التالي لمعركة جنين في عملية مستوطنة "عيلي" في رام الله.
هذا في القراءة الكلاسيكية للمشهد. أما في الحالة الحاضرة مع اكتمال دوائر العمل العسكرية وتطورها، وانتزاع اعتراف إسرائيلي بنوعية المنجز، تفرض الحالة المستجدة "مروحة تحدّيات على المنظومة القيادية الإسرائيلية تتّصل بعناوين استخبارية وعملياتية وسياسية"، وفق موقع "واللا".
في طريقها لابتلاع الصدمة واحتواء التهديد، وجدت "إسرائيل" نفسها أمام وجوب تغيير تكتيكي يتناسب مع "قواعد اللعبة الجديدة"، باستخدام "فائض القوة" بهدف تدفيع الأثمان، لأنَّ "الافتراض السائد في الجيش هو أنه ما زال من الممكن التعامل مع التهديدات من خلال عمليات اعتقال وعمليات متمركزة"، وفقاً لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل".
هذا الأمر ترجمته مخرجات طاولة القرار بالانكفاء حالياً عن الشروع في عملية عسكرية شاملة في الضفة، والتمسك بخيارات تخدم سيناريو الرعب المنشود، فأعطت الضوء الأخضر لبدء عمليات الاغتيال الجوية. سريعاً، نفّذت المهمة الأولى باستهداف خلية للمقاومة في جنين بعد تنفيذها عملية إطلاق نار على حاجز الجلمة.
هو قرار لم يكن ليكسر بعد سنة ونصف سنة من استخدام ورقة الاغتيالات الجوية للتهديد فقط إلا بفعل عامل ميداني خرجت فيه الأمور عن سيطرتها. كذلك، ما كان ليدخل بهذه السرعة حيّز التنفيذ، لولا حاجتها المستميتة لترميم صورة "الردع" الذي خرج مشوهاً من جنين، ثم نالت حصتها من عملية رام الله، فأتى التصعيد بما يتناسب مع حجم التهديد لـ"إسكات قاطرة جنين قبل أن تصبح قطاراً فتاكاً".
حالياً، تتراوح قرارات المستويين السياسي والعسكري في "إسرائيل" في دائرة التكتيكات ذات الجدوى المرحلية، ولا تشبع شهية التحريض القائم لشن عملية موسعة. عوفر شيلح، أحد كتّاب الأعمدة في الحلبة الإسرائيلية، رأى أنه "يجب الاعتراف بأن الوضع الحالي هو وليد سياسة فاشلة منذ زمن بعيد، ومن يضغط لحملة كبيرة يتطلّع إلى شيء آخر تماماً هو كابوس محافل الأمن"، فما بين انهيار السلطة الفلسطينية وما يترتب عليه من خسارات، إلى احتقان الجبهات وتأزم الوضع الداخلي في "إسرائيل"، يبدو أن صنّاع القرار يسيرون على حد رفيع من الخيارات لن يضمن العبور الآمن.