أهمية التريث والصبر الاستراتيجي السوري في عملية التطبيع مع تركيا

سوريا التي تحملت ويلات الحرب ليست ورقة مساومة في يد القادة الأتراك يلعبون بها لتحقيق نقاط في الداخل أو لتوسيع سيطرة نفوذهم في الداخل السوري.

  • أهمية التريث والصبر الاستراتيجي السوري في عملية التطبيع مع تركيا
    أهمية التريث والصبر الاستراتيجي السوري في عملية التطبيع مع تركيا

تتواتر الأنباء عن لقاء قريب يجمع بين وزراء خارجية كل من روسيا وتركيا وسوريا في العاصمة الروسية موسكو خلال الشهر الحالي، في إشارة واضحة إلى استمرار اللقاءات التمهيدية لعملية التطبيع التركي السوري. ويأتي هذا اللقاء المحتمل بعد زيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى سوريا في ظل تكهنات بظهور وساطة إماراتية كذلك.

تتمحور فكرة مقالنا هذا حول أهمية التريث في السياسات السورية تجاه تركيا وإظهار جانب الحكمة السورية في هذا التريث. فمن الواضح للجميع هذه الأيام بأنّ هناك تسابقاً تركياً سواء من قبل المعارضة أو من قبل الرئيس إردوغان إلى لقاء الرئيس الأسد والتقاط صور معه في الوقت الذي لم يتبقَ إلا أقل من ستة أشهر على الانتخابات التركية. ووصل حد التسابق بين الأطراف التركية إلى أن يقول رئيس حزب الشعب الجمهوري وقائد المعارضة في البرلمان التركي كمال كليجدار أوغلو بأن الرئيس إردوغان يتملق كلاً من الرئيس السوري والرئيس الروسي فلادمير بوتين لعقد لقاء واحد فقط مع الرئيس الأسد.

لا بد هنا من الإشارة إلى إدراك الرئيس الأسد لأهمية هذا اللقاء ودوره في رسم السياسات التركية للمرحلة المقبلة. ولا بد كذلك من التمجيد والإشادة بالتريث السوري في هذا الملف وذلك للحنكة السورية وقدرة السلطات هناك على فهم سياق الأحداث والخبرة المتراكمة في التعامل مع الجانب التركي.

يعلم الجميع بمدى تغير المواقف التركية وتقلّباتها خلال عقدين من الزمن وكيف أن السياسات التركية تجاه سوريا والسعودية وروسيا والإمارات وغيرها من الدول تغيرت بين ليلة وضحاها. ولذلك فالصبر الاستراتيجي السوري مهم للغاية من ناحية استشفاف الموقف التركي بشكل كامل.

في الحقيقة نحن أمام سيناريوهين لهذا التطبيع:

السيناريو الأول: تعتبر عملية التطبيع عملية مؤقتة لتحقيق مصالح تركية محضة وستتغير حالة التطبيع بعد انتصار حزب العدالة والتنمية والرئيس التركي في الانتخابات المقبلة. لهذا السيناريو أدلة ظهرت إلى العلن بعد تصريحات ياسين أكطاي مستشار الرئيس إردوغان الذي دعا إلى وضع حلب تحت السيطرة التركية لمرحلة انتقالية. وأشار أكطاي، في حديثه إلى قناة "أولكا" الموالية للرئيس إردوغان، إلى "أهمية الحوار بين تركيا والنظام السوري"، وقال: "يعرف الجميع أن مدينة حلب التاريخية العريقة، وهي ثاني أكبر مدينة في سوريا، كانت تحت سيطرة الجيش الحر والثوار والمعارضة. لذلك لا بد من أن يكون لتركيا دور في تحقيق الأمن في المدينة وجوارها، حتى يتسنى لنا إعادة مليون ونصف مليون، وحتى مليونين، من اللاجئين إلى المدينة طوعاً".

فكرة إقامة منطقة آمنة في سوريا تحت السيطرة التركية لإعادة اللاجئين، لم تفارق مخيلة وسياسات القادة في تركيا منذ اللحظات الأولى لنشوب الحرب الإرهابية على سوريا. بل ساهمت تركيا بزعزعة الاستقرار في سوريا والدفع بالإرهابيين إليها لدفع الدول الغربية لتنفيذ مخططاتها هناك. وعليه فقد تكون عملية التطبيع هذه لتحقيق هذا السيناريو. 

السيناريو الثاني: استخدام سوريا كوسيلة ضغط وورقة رابحة ضد الولايات المتحدة. القيادة السورية اليوم على دراية تامة بأن هناك لقاءً مرتقباً يجمع وزيري الخارجية التركية والأميركية في الأيام المقبلة. ولعل أهم الملفات المطروحة على طاولة المفاوضات هو الملف السوري. ولذلك، خرجت العديد من التسريبات التي تفيد بوجود فيتو أميركي على عملية المصالحة مع سوريا كما تم تسريب مجموعة من المقترحات الأميركية التي يعتزم وزير الخارجية بلينكن تقديمها إلى نظيره التركي تشاويش أوغلو. تنحصر حزمة المقترحات هذه حول المحافظة على الوضع الراهن في سوريا وتقديم بعض التنازلات من قبل قوات سوريا الديمقراطية إلى تركيا.

من منا ينسى العلاقات الاستراتيجية التي جمعت كلاً من تركيا وأميركا خلال عقود من الزمن فهما حليفان فاعلان في قوات الناتو وهما مشتركان بتأجيج الأزمة في سوريا، إلا أنّ هذه العلاقات شهدت خلال السنوات الماضية فتوراً حاداً تم على إثر ذلك فرض عقوبات اقتصادية على تركيا وحرمانها من امتلاك طائرات حربية أميركية بسبب تقارب الأولى مع روسيا. لعل الورقة السورية اليوم هي ورقة ضغط في سبيل رفع العقوبات وتحصيل أكبر قدر ممكن من التنازلات الأميركية لصالح تركية وعلى حساب السوريين.

ختاماً وكتقييم لهذين السيناريوهين، لا بد من القول بأن كلا السيناريوهين يُظهر أهمية الصبر الاستراتيجي وتأجيل عقد لقاء الرئيس الأسد إردوغان إلى ما بعد ظهور النتائج الانتخابية. فسوريا التي تحملت ويلات الحرب ليست ورقة مساومة في يد القادة الأتراك يلعبون بها لتحقيق نقاط في الداخل أو لتوسيع سيطرة نفوذهم في الداخل السوري كالمطالبة بالسيطرة على حلب على سبيل المثال. سوريا أيضاً ليست ورقة رابحة يرمي بها الرئيس إردوغان على الطاولة الأميركية للحصول على امتيازات أكثر. ولذلك فإنّ السياسة السورية تجري في المسار الصحيح من حيث التريث واختيار الصبر الاستراتيجي كسياسة مستقبلية لرسم العلاقات مع تركيا.